لماذا يَشُنُّ أردوغان “حربًا” مُفاجِئة ضدّ إسرائيل؟
محمّد قَوَّاص*
لا أحد، حتى في داخل تركيا، يأخُذُ تصريحات الرئيس رجب طيِّب أردوغان الأخيرة، التي قال فيها إنَّ “تركيا قد تدخل إسرائيل، كما دخلت في السابق ليبيا وناغورني قاره باغ”، على مَحمَلِ الجد. وفيما أشعلت تلك التصريحات “حربًا كلامية” بين أنقرة وتل أبيب، فإنَّ الأمرَ لن يتجاوزَ ذلك الحدّ، وسيَندَرِجُ الحدث في سياقِ تذبذبٍ حادٍّ في علاقات البلدَين في عهد أردوغان، تَراوَحَ بين الودِّ والتعاونِ تارةً، والتوتّرِ والقطيعةِ تارةً أخرى.
قد تكثُرُ الأسباب التي أغضبت أردوغان، منها إعادة تلويح إسرائيل بخرائط تُدرِجُ الأناضول داخل فضاء إسرائيل الكبرى، ومنها تَراجُع مكانة تركيا في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومنها استفزاز الحلفاء الأطلسيين لتلبية مطالب تُركية مُعَيَّنة، ومنها حاجة الرئيس التركي إلى استثارةٍ شعبية له ولحزب “العدالة والتنمية” الحاكم بدت مُتآكلة في آخر انتخابات… واللائحة تطول.
لم يَسبَق لتركيا تاريخيًا أن هدّدت بالدخول في حربٍ ضدّ إسرائيل، على الرُغمِ من أنها دولة كبرى في المنطقة، يُفتَرَضُ أن يتعارَضَ نفوذها مع دولة مثل إسرائيل. فعلت إيران ذلك منذ قيام الجمهورية الإسلامية في العام 1979، وقَدّمَت تناقضها مع إسرائيل وعاءً لشرعية نظامها السياسي، وسَخّرت من أجل ذلك خطابًا شعبويًا مُتَطرّفًا ودَعمًا وتسليحًا وتمويلًا لفصائل (لا سيما فلسطينية) تحمل هذا الخطاب. وإذ يستفيقُ الرئيس التركي على ضروراتٍ داهمة للمواجهة مع إسرائيل، فإنه يأتي مُتأخّرًا للانخراطِ في لعبةٍ استهلكت طهران إدارتها واستغلالها والنهل من منافعها.
لم تتحرّك تركيا بزعامة أردوغان باتجاهِ التهديد بالتدخّلِ العسكري ضدّ إسرائيل على الرُغمِ من تَوَفُّرِ كلِّ الدوافع الجيوسياسية التي شهدها الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2002، تاريخ وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى السلطة في تركيا. لم تفعل ذلك على الرُغم من مرور 10 شهور على حربٍ ضَروسٍ مُدَمّرةٍ يشهدها قطاع غزّة. وقد يكونُ مُستَغرَبًا أن يتحدّثَ الرئيس التركي عن تحرّك عسكري تركي على غرار ليبيا وناغورني قاره باغ، في وقتٍ تنشطُ الولايات المتحدة والمنطقة للدَفعِ بمفاوضاتٍ تُنتِجُ صفقةً تُنهي الحربَ في غزّة.
وقد يَصعُبُ إيجادُ تفسيرٍ حاسمٍ لموقفِ أردوغان، خصوصًا أنَّ عتاةَ المُحلّلين السياسيين الأتراك، بمن فيهم المعارضون منهم، لم يهتدوا إلى وجهة بوصلة الرئيس التركي وأهدافه. فالرجل “يُبَشّرُ” بقُربِ تطبيعِ علاقاتِ بلاده مع دمشق، بما في ذلك لقاء يجمعه بالرئيس السوري بشّار الأسد الذي آثرَ انتهاجَ النأي بالنفس عمّا يجري في غزّة، وحتى عمّا جرى أخيرًا في مجدل شمس في الجولان السوري المُحتل. وإذا ما كانت أجواءُ أنقرة قد لمّحت إلى “عراقيل إيرانية” لهذا التطبيع، فإنَّ حربَ أنقرة ضدّ إسرائيل تبدو مَعزولةً عن حربِ طهران ضدّ إسرائيل، وربما مُنافِسة لها.
لا يَبتَعِدُ العاملُ الإيراني عن سلّة الدوافع التي حَثّت الرئيس التركي على رَفعِ سقوفِ المُواجَهةِ مع إسرائيل، والإطلالة على ملفِّ الصراع معها من أعلى مستويات الصدام. كانت إيران عَبّرت بعد أسابيع على حدث “طوفان الأقصى” وحرب غزّة، عن توتّرٍ جرّاء احتمالاتِ خروج “ملف فلسطين” من يدها. استنتجت أنَّ الشراسة الإسرائيلية (الغربية) في غزّة قد تقضي على “أذرعها” هناك. كما إنَّ مساعي التسوية الدولية-الإقليمية تجري بوساطة مصر وقطر وبمحادثاتٍ مع السعودية والإمارات والأردن. لاحظت أنَّ طهران تفقُدُ مقعدها على مائدة مآلات أهمِّ قضيةٍ في الشرق الأوسط، استثمرت داخلها كثافة جرعات من العقائد والسياسة والمال والسلاح. فكانَ أن أبقت إيران على جبهتَي لبنان واليمن مُشتَعِلَتَين بانتظارِ استدعائها إلى “العرس الكبير”.
في تركيا مَن يرى أنَّ أنقرة تَخوضُ حربَ مُنافسةٍ صامتةٍ مع الجمهورية الإسلامية على المَكانَةِ والدورِ في المنطقة. يسهلُ استنتاجُ احتكاكٍ مُبَطّنٍ في مصالح البلدين في العراق وسوريا، كما تماسُ ظلالِ أنقرة وطهران في القوقاز وآسيا الوسطى. يكفي التذكير بأنَّ تركيا تدخّلت عسكريًا إلى جانب أذربيجان في حرب الأخيرة في إقليم ناغورني قاره باغ المدعوم من أرمينيا التي تؤيّدها إيران. وفيما تمكّنت تركيا من “تصفير” مشاكلها مع العالم العربي، وأعادت تطبيع علاقاتها مع السعودية والإمارات ومصر وغيرها، فإنَّ انفراجًا حصلَ في علاقات إيران بالعالم العربي، لا سيما دول الخليج ومصر، تحت سقف “اتفاق بكين” الذي أبرمته مع السعودية برعاية الصين في 10 آذار (مارس) 2023.
في تركيا مَن يرى أيضًا أنَّ تَصاعُدَ التوتّر في الشرق الأوسط بسبب حرب غزّة جعلَ من إيران الرقم الصعب الذي تتعامل معه الولايات المتحدة شريكًا لخَفضِ التصعيد، وضَبطِ سقوفِ المواجهات، ومَنعِ شططها. لاحظت أنقرة “الهندسات” التي تمَّ تدبيرها لضبطِ الصدامِ المُباشَر بين إيران وإسرائيل في نيسان (أبريل) الماضي، وتلك التي ضبطت جبهة لبنان برعاية وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، وحتى تلك التي يُعمَلُ على تدبيرها الآن لمَنعِ نشوبِ حَربٍ شاملة في لبنان (والمنطقة) بعد حادثة مجدل شمس (وما حدث بعدها في ضاحية بيروت الجنوبية وطهران). حتى أنَّ تحليلاتٍ صدرت من أنقرة تشتبه في أنَّ هذا التصعيد هدفه صناعة شرق أوسط جديد بتواطُؤٍ أميركي-إيراني يَفرُضُ قواعدَ وشروطًا على المنطقة.
قد لا تكون إسرائيل نفسها بعيدةً من تركيا في استشعارٍ ضَيِّقٍ من تقاطُعِ واشنطن وطهران لتمرير ما تبقّى من عهد الرئيس الأميركي جو بايدن، وتهيئةِ أجواءٍ حاضنة لفوز المرشحة الديموقراطية المُحتملة كامالا هاريس. بدا أنَّ مُلاقاةَ إسرائيل لحملة أردوغان حاضرةٌ جاهزةُ الأدوات. وزير خارجية إسرائيل، يسرائيل كاتس، يصف أردوغان بهتلر ويطلب من حلف “الناتو” طَردَ تركيا من عضويته، ويُذَكّرُ أردوغان بمصير صدام حسين. في المقابل، تَعِدُ وزارة الخارجية التركية بأنه “كما كانت نهايةُ مُرتَكِبِ الإبادة الجماعية هتلر، كذلك ستكونُ نهايةُ مُرتَكِب الإبادة الجماعية نتنياهو”. وقد نرى لهذا التصعيد التركي-الإسرائيلي أوجُهًا وواجهات لرفع سقوف الصدام، لعلّ في الأمر ما يُمكِنُ أن يخلطَ أوراقًا قد تبدو عَبَثيةً في يد أردوغان، لكنها قد تخرج مفاجأة أي مقامرة حتى لو كانت غامضة الملامح والأغراض.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).