المجهولة التي تفوَّقت ريشتُها على المعلومين (1 من 3)

روزا في محترفها (بريشة جورج أَشيل فولْد – 1893)

هنري زغيب*

كأَنها غابت مع انطواء القرن التاسع عشر. ففي سيرتها الشخصية ما جعل أَبناء جيلها يُشيحون عنها، وفي مسيرتها الفنية ما جعل فناني عصرها يَسِمُونها بــ”التقليدية الباهتة”، لأَنها اعتمدت في معظم أَعمالها رسم الحيوانات، أَليفِها والبرّي، مع أَن الجميع أَقرُّوا ببراعة ريشتها في لوحاتها الواقعية النهج والفكرة والتعبير.

تلك هي الرسامة الفرنسية روزا بونور Bonheur، فماذا عنها سيرةً ومسيرة؟

الأُنثى المغايرة

ولادةً: هي ماري روزالي بونور، لكنها اشتهرت لاحقًا بــ”روزا”، كأَنما تعريبُ اسمها (اصطلاحًا) بـ”وردة السعادة” يفيها ما عاشته في عصرها من حرية مُطلْقَة في المسلك والـمَلْوَن.

ولدَت روزا في مدينة بوردُو سنة 1822 (16 آذار/مارس) وتوفيَت عن 77 عامًا في 25 أَيار/مايو 1899. والدتها “صوفي” (1797-1833) لقيطةٌ مجهولةُ الوالدَين، تبنَّاها التاجر الثريّ جان باتيست دولاهيه وأَمَّن لها تربية فنية (موسيقى، غناء، رسم)، وأَتى لها بمدرّس الرسم ريمون بونورBonheur، فأَحبَّتْه وتزوَّجتْه سنة 1821. وبصداقة ريمون مع الرسام الإِسباني الشهير المنفيّ من بلاده فرنسيسكو غُوْيَا، شجَّع ابنته روزا على الرسم منذ طفولتها الصعبة. وصعوبتُها أَنها كانت عصيَّة على الدرس والطاعة، فراحت صوفي تدرِّبها على تعلُّم الحروف والكلمات مترادفةً مع صوَر حيوانات، ما جعل روزا تكبَر على تلك الطريقة وتصبح لاحقًا رسامة حيوانات ببراعة مذهلة. ومن هذه البراعة يعتبرها النقاد أَفضلَ وأَدقَّ من أَطْلَعَ لوحاتٍ عن الحيوان في تاريخ الفن الغربي، وتاليًا بين أَشهر أَعلام الفن التشكيلي في القرن التاسع عشر. ولم يدانِها أَحد في إِتقانها الحيوي والدقيق برسْمها الأَحصنة والخرفان والبقَر والأرانب والأُسود وسواها، ما شكَّل لها شهرةً ذائعة واسعة في عصرها كامرأَة ثرية ذات هيبة، وفنانة مغايرة ذات مشاكسات، وحياة شخصية جريئة أَثارت غبار مجادلات. إِنما عاد اسمها فخبا سنواتٍ بعدذاك، حتى استفاقَت أَخيرًا الأَوساط التشكيلية والثقافية الفرنسية (متاحفها وصالات عرضها ومؤرخو الفن) على تكريم ذكراها وأَعمالها المبدعة.

روزا في صورة فوتوغرافية نادرة

الخروج عن الجندرة

منذ صباها الباكر لاحظَت أُسرتها ميلها إِلى التفرُّد النافر سيرةً ومسيرة. ولأَن التفرقة الجنْدرية كانت طاغيةً في عصرها، بما في ذلك حظْر الدراسة الفنية على الفتيات واقتصارها على الفتيان فقط، كان ولدَاها متساهلَين في منحها حرية لم تكن متوفرة لربيباتها عصرئذٍ. من هنا هذه العبارة التي عُرِضَت بأَحرف بارزة على مدخل “متحف دانفر للفنون” (ولاية كولورادو الأَميركية) في افتتاح معرض أَعمالها الاستعادي سنة 2017، وهي عبارة مأْخوذة من دفاترها الخاصة: “أَنا مَدينةٌ لتربية والدي بالحرية التي أَعطانيها كأُنثى، وعملْتُ بموجبها وسأَظل أَعمل وأُدافع عنها حتى آخر يوم من حياتي”.

ملابسها وأَحذيتُها رجالية

انطلاقًا من هذا النهج المتحرِّر، رسمَت روزا حياتها الشخصية والفنية منذ مطالعها، فرفضَت فكرةَ الزواج كي لا يتحكَّم رجلٌ بسيرتها ومسيرتها، فتبقى لها حرية اختيار مسلكها الخاص وسلوكها الذاتي معًا، وفضاء الفن الذي أَمضت حياتها تصرّح أَنْ ليس في حياتها سوى حبٍّ واحد: فنّها. ومن تلك الحرية، بين مناحٍ عدة، ميلُها الواضح إِلى ارتداء ملابس رجالية (قلَّما كانت ترتدي فساتين كسائر أَزياء النساء في عصرها)، وكانت تدخِّن (والتدخين عصرئذٍ لم يكن متاحًا للنساء علَنًا في المحافل العامة)، وتنتعل أَحذية غليظة ضخمة كأَحذية الرجال الأَثرياء، وتنتهج حياةً ليبراليةً لم تكن أَبدًا مأْلوفة في أَيامها، ما أَثار ضدَّها حفيظةَ الرجال (لخروجها على طاعة مجتمعها) وغيرةَ النساء اللواتي كنَّ يَرزحن مقهوراتٍ تحت سيطرة البَعل بحجة أَنه الرجل وعلى امرأَته طاعتُه.

“الأَسد يرتاح” بريشة روزا (1877)

أَقسمَت أَلَّا تتزوّج ولا تُنجب

بذلك كانت روزا نافرة الحضور في أَجوائها العائلية والاجتماعية والفنية. ولعل أَحد أَسباب ذلك: موتُ أَمها باكرًا (كانت روزا في الحادية عشرة) ودفْنُها في مقبرة الفقراء العامة، ما جرَّ على العائلة شماتة المحيط. ومن يومها أَقسمَت الفتاة روزا أَنها لا تريد أَن تتزوج ولا أَن تُنجب أَطفالًا، لتنصرف إِلى تربية الحيوانات الأَليفة ورسْمها، ورسمِ الحيوانات البرية الضارية لِما فيها من قوّة وسَطوة.

رفضتْها المحترفات لعصيانها

في مطالع مسيرتها الفنية كانت تَزور متحف اللوفر وتَنسخُ روائع فيه تُعجبها، وخصوصًا ما كانت ترى في اللوحات من عالَم الحيوان. ولأَنها لم تكن تنصاع إِلى الدراسة التشكيلية المنهجية الأكاديمية التقليدية، رفضَتْها مدارس فنية ومحترفات تشكيلية، فغادرت النهج الأَكاديمي ثائرةً متمردة، وأَخذت تعمل وحدها متمرسةً في الرسم من دون مدرِّس ولا منهاج. لذا انفَلَتت على هواها في رسم المناظر الطبيعية والمشاهد الخارجية في الهواء الطلق، بلوحات واقعية مباشرة وفقًا لتيار باربيزون يومها (نهج فني يركِّز على رسم الطبيعة مباشرةً في الخارج كما هي). ومع ذلك، حتى في هذا النهج الاتّباعي، كانت روزا نافرةً عن التقليد، ثائرةً للتجديد، فانطلقت برحابة حريتها إِلى خط نهج لها جعلَها متميزةً عن جميع أَعلام الفن في عصرها.

كانت تنتعل الأَحذية الرجالية الغليظة

شهرتها العالَمية في عصرها

ولأَنها كذلك فريدة متفردة، راحت لوحاتُها تباع إِلى الولايات المتحدة وبريطانيا، فاندلعَت شهرتها دوليًّا، وتنبَّه لها النقاد وهواةُ جمع اللوحات، وحتى الملكة فكتوريا اشترت من لوحاتها. وانعكس ذلك بأَنها كانت أَول امرأَة فرنسية تنال وسام الشرف على مجموع لوحاتها، وهو أَعلى تقدير تمنحه الحكومة الفرنسية تكريمًا المبدعين والمتفوقين.

أَضواء أُخرى على مسيرة روزا وصُوَر من لوحاتها المبدعة، في الحلقة الثانية من هذه الثلاثية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى