مصر: فجوةٌ واسعةٌ بينَ أرقامِ الحكومةِ الوَردية والضائقةِ الاقتصاديةِ التي يُعاني منها الملايين
المبالغُ الكبيرة التي تلقّتها مصر أخيرًا تبدو بالتأكيد جيدة على الورق وقد تُقنِعُ الوكالاتَ المالية الدولية بتحسين تصنيفاتها الائتمانية. لكنها بالتأكيد لا تعني الكثير بالنسبة إلى المواطنين العاديين، الذين لا يزالون يُعانون حيث يرون القوّة الشرائية لمداخيلهم تنخفضُ يومًا بعدَ يومٍ بسببِ ارتفاع الأسعار.
خالد داود*
بالنسبة إلى المسؤولين المصريين، كانَ ينبغي أن يكونَ حزيران (يونيو) شهرًا للاحتفال. مع ذلك، فإنَّ أيًا من النجاحاتِ الظاهرية التي سجَّلتها الحكومة في مجالِ الاقتصادِ الكُلّي جَلَبَ قدرًا كبيرًا من الطمأنينة للمواطن المصري العادي، الذي ظلَّ يُعاني من نقصِ العملة، وشبكةِ طاقةٍ لا يُمكِنُ الاعتمادُ عليها، ومخاوف من ارتفاعِ التضخُّم من جديد.
من ناحية، وَصلَ صافي الاحتياطات الدولية إلى مستوى قياسي بلغ 46.1 مليار دولار في نهاية أيار (مايو)، مُرتَفعًا بأكثر من 5 مليارات دولار مُقارنةً مع 41.1 مليار دولار في نيسان (أبريل). إنَّ الاحتياطات عند أعلى مستوى لها منذ أن بلغت 45.5 مليار دولار في شباط (فبراير) 2020، في بدايةِ جائحة كوفيد-19، وفقًا للبنك المركزي المصري. وذكرت وكالة “بلومبيرغ” أنَّ رقمَ 46.1 مليار دولار هو الأعلى على الإطلاق، بناءً على البيانات المُتاحة.
في الوقت نفسه، بلغ معدل التضخّم الرئيسي في المناطق الحضرية 28.1% في أيار (مايو)، مُقارنةً بـ32.5% في الشهر السابق. وفي حزيران (يونيو)، انخفضَ بشكلٍ طفيفٍ مرّة أخرى للشهر الرابع على التوالي ليصل إلى 27.5%. وعلى أساسٍ سنوي، سَجَّلَ التضخُّم الأساسي 26.6% في حزيران (يونيو)، بانخفاضٍ من 27.1% في أيار (مايو)، و31.8% في نيسان (أبريل). وجاءَ هذا الانخفاض في التضخّم بعد أشهرٍ من ارتفاعِ معدّلِ التضخّم المُستَمرّ بدون توقُّف، والذي عَكَسَ آثارَ تدهورِ العملة المحلّية مقابل الدولار الأميركي والنقصَ الشديد في الدَخلِ من العملات الأجنبية.
علاوةً على ذلك، أعلن البنك الدولي بحلول أواخر حزيران (يونيو) عن تمويلِ سياساتِ التنمية بقيمة 700 مليون دولار للحكومة المصرية لدَعمِ تحوُّلِ البلاد نحو المزيد من مُشاركةِ القطاعِ الخاص، وتحسينِ مرونةِ الاقتصاد الكُلّي والماليةِ العامة، ومسارِ نموٍّ أكثر مُراعاةً للبيئة. وجاءَ هذا الإعلان معِ اتفاقٍ تمَّ التوصُّلُ إليه مع صندوق النقد الدولي للإفراجِ عن الشريحة الثالثة، المُقدَّرة بـ 820 مليون دولار، من برنامجِ قرضٍ إجمالي بقيمة 8 مليارات دولار. وأعلن صندوق النقد الدولي أنَّ مجلسَ إدارته سيجتمعُ في 27 تموز (يوليو) للموافقة على الشريحة الثالثة. وكان هذا القرار مُتَوَقَّعًا قبل بضعة أسابيع، لكن وسائلَ الإعلامِ المحلّية ذكرت أنهُ تمَّ تأجيله حتى تُوافِق الحكومة على زيادةٍ أُخرى في أسعارِ الكهرباء والوقود. وبحسب ما ورد في تقارير عدة مُتطابقة، أجّلت الحكومة تلك التحرّكات خوفًا من ردِّ فعلٍ شعبيٍّ عنيف في أعقاب الموجة الأخيرة من انقطاعِ التيارِ الكهربائي وارتفاعِ أسعارِ الخبزِ المدعوم.
عملية إنقاذ من الإمارات وصندوق النقد الدولي
مُنذُ آذار (مارس) الفائت، بعد أن أنقذت الإمارات العربية المتحدة وصندوق النقد الدولي الاقتصادَ المصري من الإفلاس مع استمرارِ الحرب بين إسرائيل وحركة “حماس” في قطاع غزة المُتاخِم، تمَّ التعهُّدُ بما يزيد عن 57 مليار دولار لمساعدة مصر على الصمود اقتصاديًا وسطَ ظروفٍ محلّيةٍ وإقليميةٍ صعبةٍ للغاية. وجاءَ الدعمُ الأكثر سخاءً من أقربِ حليفٍ إقليمي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، الذي وَعَدَ بمبلغ 35 مليار دولار لتطويرِ منطقةِ جَذبٍ سياحي في رأس الحكمة، على طولِ الساحلِ الشمالي للبلاد المُطِلِّ على البحر الأبيض المتوسط. ويشيرُ المبلغ النقدي غير المسبوق المدفوع مُقَدَّمًا إلى أنَّ قرارَ الإمارات تقديم الدعم لمصر لم يكن لأسبابٍ تجاريةٍ بحتة، بل كان أيضًا قرارًا سياسيًا لإنقاذِ حليفٍ وثيقٍ من إعلانِ التخلُّفِ عن سداد الديون المُتَوَجِّبة.
لا أخبارَ جيدة بَعد للمصريين المُتَضرّرين
مع ذلك، على الرُغمِ من كلِّ هذه الأخبار الجيدة، لا تزال الغالبية العظمى من المصريين تَشعُرُ بالأزمةِ الصعبةِ الناجمةِ عن ارتفاعِ الأسعار، والأسوَأُ من ذلك، الخوف من أنه على الرُغم من كل الأموال الجديدة الواردة، قد يعودُ الوضعُ إلى نقطةٍ قريبةٍ من الإفلاس، وهو الأمرُ الذي كانَ يُخشى منه على نطاقٍ واسعٍ قبلَ الدعمِ الحيوي من دولة الإمارات وصندوق النقد الدولي.
السببُ الرئيس لهذه النظرةِ المُتشائمة هو ارتفاعُ الدين الخارجي، حيث وَصلَ إلى 168 مليار دولار في كانون الأول (ديسمبر) 2023، ارتفاعًا من 164.5 مليار دولار في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه. وهذا الرقمُ لا يأخُذُ في الاعتبار حتّى ما يُسَمَّى “الديون الخفية” غير المعروفة، والتي وقّعتها الكيانات المدعومة من الحكومة مع الدائنين الأجانب “من خارج الموازنة” من أجلِ تمويلِ مشاريع البُنيةِ التحتية الفخمة التي أصبحت العلامة التجارية للعَقدِ الماضي للسيسي.
بَعدَ دَفعِ 29.23 مليار دولار من خدمة الدين الخارجي في العام 2024، منها 14.59 مليار دولار مُستَحِقّة في النصف الأول من العام و14.63 مليار دولار في النصف الثاني – بالإضافة إلى المُتأخِّرات المُستحقّة لشركات النفط الأجنبية والتراكُم الطويل للإفراج عن البضائع المُحتَجَزة في الموانئ لأشهرٍ بسبب نقص العملة الصعبة، فمن المنطقي الخوف من نفادِ مبلغِ الـ57 مليار دولار المُتَوَقَّعِ أن يتدفّقَ إلى خزائن مصر قبل نهاية هذا العام قريبًا. وهذا من شأنه أن يضعَ ضغوطًا إضافيةً على الاقتصادِ الهشِّ ويؤدّي إلى دورةٍ أُخرى من انخفاضِ قيمة العملة المحلّية وكذلك البحث عن قروضٍ جديدة.
من ناحية أخرى، ألحقت الظروفُ الإقليمية المُتَقَلِّبة –وأهمها الحرب المُستَعِرة في غزة على مدى الأشهر التسعة الماضية– أضرارًا بالغةً بالاقتصاد المصري، مما تسبّبَ في انخفاضِ السياحة إلى البلاد، والأهم من ذلك، انخفاض حاد (يصل إلى 64.3٪) في إيرادات قناة السويس بسبب هجمات الحوثيين اليمنيين على السفن في البحر الأحمر. ومن المرجح أن تستمرَّ التأثيراتُ المُترَتِّبة على الحربِ الدائرةِ في غزة لفترةٍ طويلة، جنبًا إلى جنب مع الحرب الأهلية المُندَلِعة في السودان والتي دفعت مئات الآلاف من اللاجئين السودانيين نحو جارتهم الشمالية مصر.
المالُ الساخن يتدفّق والكهرباءُ مقطوعة
بقدر ما حمل شهر حزيران (يونيو) “أخبارًا جيدة” للمسؤولين الحكوميين، فقد برَّر أيضًا مخاوفَ معظم المصريين بأنَّ استمرارَ التدفُّقِ النقدي –بما في ذلك 20 مليار دولار مما يُسمّى “الأموال الساخنة” التي عادت إلى البلاد بعدَ تخفيضِ قيمةِ العملة المحلّية ورفعِ أسعارِ الفائدة بمقدار 600 نقطة في آذار (مارس)– لن يُنهي بالضرورةِ المُعاناةَ التي يعيشونها على مدى السنوات الأربع الماضية.
وبسبب الخوف من أنَّ التعهّدات التي تمّت أخيرًا لن تكونَ كافيةً لتغطية الاحتياجات الفورية في العام المقبل أو العامين المقبلين، فقد غضبَ المصريون واستاؤوا من إعلانِ الحكومة المفاجئ في 25 حزيران (يونيو) أنها ستُمَدِّدُ فتراتَ انقطاعِ الكهرباء اليومية في جميع أنحاء البلاد من ساعتين إلى أربع ساعات. وبعد استنكارٍ شعبي كبير، سارع رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إلى إعلانِ تقليصِ فترةِ انقطاعِ التيار الكهربائي إلى ثلاث ساعات فقط. كما تعهّدَ في مؤتمرٍ صحافي في 26 حزيران (يونيو) بإنهاءِ الأزمة برمّتها بحلولِ الأسبوع الثالث من تموز (يوليو)، بعد أن تمكّنَ من توفير مليار دولار لشحناتِ الغاز الطبيعي الطارئة لتغذية محطات توليد الكهرباء. ووعدت الحكومة أيضًا بإعادةِ إمدادات الغاز إلى العديد من شركات الأسمدة الكبرى التي اضطرّت إلى وقف الإنتاج لأيامٍ عدة بعدَ انقطاعِ التيارِ الكهربائي.
من الواضح أنَّ الحكومةَ كانت تُعاني من نقصِ الأموال اللازمة لاستيرادِ الغاز والمُنتجات البتروليةِ اللازمة لتزويدِ محطات الطاقة بالوقود وتخفيفِ مُعاناةِ السكان في موسم الصيف الحار بشكلٍ استثنائي الذي بدأ للتو. لكن بالنسبة إلى المصريين، كانت المُفارَقة الأكبر هي أنَّ تدهورَ شبكة الكهرباء الوطنية جاءَ بعدَ دعايةٍ واسعة النطاق قامت بها الحكومة في السنواتِ الأخيرة والتي عَرَضَت “الإنجازات البارزة” التي حقّقتها البلاد في إنتاجِ الغاز والكهرباء. وتفاخَرت السلطات بأنَّ هذه التطورات ستُحَوِّلُ مصر إلى مركزٍ للغاز الطبيعي ومُصَدِّرٍ صافٍ للغاز والكهرباء.
هذه التوقعات لم تتحقّق؛ بدلًا من ذلك، أصبحت مصر مُستَورِدًا صافيًا للغاز الآتي بشكلٍ رئيس من إسرائيل. وفي مؤتمره الصحافي في 26 حزيران (يونيو)، أوضحَ مدبولي سبب الانخفاضَ الحاد في إنتاج الكهرباء المحلي من خلالِ إلقاءِ اللوم على “مشكلةٍ تقنيةٍ في حقلِ غازٍ تابعٍ لدولةٍ مجاورة” تُصدِّرُ إلى مصر. “الدولة المجاورة” التي أشارَ إليها مدبولي هي إسرائيل، والتي تجنّبَ بوضوحٍ ذكرها بالاسم خوفًا من تأجيجِ الغضب الشعبي بشأنِ الحرب الإسرائيلية المُستمرّة ضدّ الفلسطينيين في غزة.
لا يوجدُ وقتٌ أسوأ
لم يَكُن من المُمكِنِ أن يأتي انقطاعُ الكهرباء في وقتٍ أسوَإٍ بالنسبة إلى الحكومة المصرية، حيث تزامَنَ مع الامتحاناتِ المدرسية النهائية للمرحلة الثانوية. إنَّ النسبَ المئوية التي يُسجّلها الطلاب المصريون في هذه الاختبارات تُحَدّدُ إلى حدٍّ كبيرٍ حياتهم المهنية المستقبلية والأقسام الجامعية التي سيتمكّنون من الالتحاق بها.
وقد أعلنت المساجد والكنائس والمكتبات العامة أنها ستُرحّبُ بالطلاب الذين يحاولون الدراسة لامتحاناتهم النهائية أثناء انقطاع التيار الكهربائي لفتراتٍ طويلة، خصوصًا خارج القاهرة. ويُمكِنُ لسكان العاصمة لفت انتباه السلطات إلى قضاياهم من خلال تقديم الشكاوى، في حين أنَ أصوأتَ سكّانِ الريف والصعيد في مصر خافتة وغير قادرة في أكثر الأحيان لرفع مثل هذه الشكاوى. وقد أشارت منشوراتٌ على وسائل التواصل الاجتماعي إلى أنَّ انقطاعَ التيار الكهربائي في المناطق الريفية والصعيد في مصر يتجاوز بكثير الثلاث أو الأربع ساعات المعروفة في العاصمة ويمكن أن يستمرَّ لمدة تصل إلى ست أو حتى عشر ساعات في الفترة الواحدة.
قالَ لي مسؤولٌ سابق في الحكومة المصرية، كانَ يشغلُ سابقًا حقيبةً اقتصادية وطلب عدم الكشف عن هويته: “إنَّ الأموالَ التي جاءت خلال الأشهر الثلاثة الماضية كانت مُنقِذة للحياة بلا شك”. وأشار هذا الشخص إلى أنه “مع ذلك، لا يكفي هذا بالتأكيد لتهدئة المخاوف بشأنِ مستقبل الاقتصاد أو منحنا شعورًا بأننا نبدأُ بدايةً جديدة”، في إشارةٍ إلى المشاكل المُزمِنة مثل الاعتماد على واردات العديد من السلع الأساسية، بما في ذلك القمح والآلات، والآن منتجات الغاز والنفط.
تباطؤ التضخّم لن يستمرّ
في الوقت نفسه، على الرُغم من الأرقامِ الحكومية التي تُظهِرُ انخفاضَ التضخُّم في الأشهرِ الأخيرة، هناكَ العديدُ من الأسباب التي تجعلنا نتوقّع بأنه سيبدأ الارتفاع مرةً أخرى عندما تفرضُ السلطات جولةً جديدة من ارتفاعِ أسعارِ الكهرباءِ والوقود.
كانت الحكومةُ تُبرّرُ هذه الزيادات المُتكرّرة في أسعار الطاقة من خلال الإشارة إلى ارتفاعِ تكلفةِ الواردات بعد انخفاضِ قيمةِ العملة المحلية. وبينما تمَّ تداول الدولار الواحد مقابل 15.7 جنيهًا مصريًا حتى آذار (مارس) 2022، ارتفع سعر صرف الدولار إلى 30 جنيهًا بعد الجولة الأولى من تخفيض قيمة العملة في مصر بعد التوصُّلِ إلى اتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرضٍ بقيمة 3 مليارات دولار. وعندما تدهور الوضع أكثر، في أعقابِ اندلاعِ الحربِ في غزة، توصّلت الحكومة إلى اتفاقٍ جديدٍ مع صندوق النقد الدولي، لتوسيعِ القرضِ إلى 8 مليارات دولار والموافقة على جولةٍ ثانية من تخفيضِ قيمة العملة، الأمر الذي أدّى إلى تداول الدولار الواحد مقابل 47-50 جنيهًا مصريًا.
مثل هذه الضربات التي تلقّتها العملة المحلية لم تُؤدِّ إلّا إلى زيادةِ أعباءِ فاتورة الواردات التي تتحمّلها الحكومة المصرية، كما أدّت إلى تفاقُمِ الوَضعِ الاقتصادي لأكثرِ من 100 مليون مصري لا يستطيعون بالكاد تغطيةَ نفقاتهم. ولا يمكن للزيادات الضئيلة في رواتبهم المُنخَفِضة أن تواكِبَ الارتفاعات الحادة في الأسعار الناجمة عن انخفاضِ قيمة الجنيه.
قال المسؤول الحكومي السابق المذكور آنفًا: “إنَّ المبالغَ الكبيرة التي تلقّيناها تبدو بالتأكيد جيدة على الورق وقد تُقنِعُ الوكالاتَ المالية الدولية بتحسين تصنيفاتنا [الائتمانية]”. وأضاف: “لكنها بالتأكيد لا تعني الكثير بالنسبة إلى المواطنين العاديين، الذين لا يزالون يُعانون حيث يرون القوة الشرائية لمداخيلهم تنخفضُ يومًا بعدَ يومٍ بسببِ ارتفاع الأسعار”.
- خالد داود هو مدير تحرير جريدة الأهرام الأسبوعية (Al-Ahram Weekly) التي تصدر بالإنكليزية، والرئيس السابق ل”حزب الدستور” الليبرالي الاجتماعي في مصر.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.