العِراقِيُّ الغامِض
قِراءَةٌ مُتَأَخِّرة في عَقلِ صدّام حسين

(9)
المُحَارِب
سليمان الفرزلي*
تنقضي الأشهُرُ الأولى من حُكمِ صدّام حسين سهلةً يسيرةً، وكما خطَّط.
فبعدما تَخَلَّصَ مِمَن ظنَّ أنهم مُتَآمِرون على العراق، ومُتواطِئون مع دمشق، بدأ بتمكينِ مَن يُواليه في المراكزِ الحسَّاسة، فعَزَلَ، وعَيَّنَ، وسَجَنَ، ونفى… وبعدما حصَّنَ الداخلَ التَفَتَ إلى الجوار، إلى إيران، التي كان يعتبرها، دائمًا، “شوكةً في خاصرةِ العراق”. لذا، لم تغفل عينُه عنها، لا في دربه الشائكة والدمويَّة إلى السلطة، ولا بعدما أطبَقَ على الحُكم، وراحَ يُوَطِّدُ سلطته المُطلَقة ويُحَصِّنها.
حتى في أيامِ الودِّ والتصافي، كان يتعاملُ مع طهران على مَضَض، “تعامل الضرورة”، كما سمَّاها مرة طارق عزيز في إحدى افتتاحياته في جريدة “الثورة”.
في سنة 1975، شاركَ بصفته “نائبًا للرئيس”، في أعمالِ مؤتمرٍ نفطي في الجزائر، فعَقَدَ مع الشاهنشاه محمد رضا بهلوي “اتفاقية ترسيم الحدود” بين البلدين في منطقة “شطِّ العرب” جنوب العراق، (وُقِّعت في 6/3/1975)، كان من نتيجتها أن قطعَ الشاه إمدادَ المتمرّدين الأكراد في شمال العراق بالمال والعتاد، فانكسرت شوكة المُلّا مصطفى البارزاني، الذي كان قادَ التمرُّدَ على بغداد.
في تلك الحقبة، كانت طهران مَربطَ فرسِ دمشق أيضًا، ومركزَ جذبٍ للرئيس حافظ الأسد، الذي زارها مع زوجته، خاطبًا بدوره ودّ الشاه، فأولمَ له وأكرم وفادته.
لقد بدا واضحًا للمُراقِبِ المُتَتبِّعِ لما كان يجري ويدور وقتها، أنَّ لكلٍّ من دمشق وبغداد في خطبِ ودِّ الشاه غايةً وسببًا: دمشق سعت إلى الجالس على عرش الطاووس من أجل التوازُنِ مع تركيا، وبغداد من أجل إنهاءِ التمرُّد الكردي والتوازُن مع الأتراك أيضًا.
جهدَ صدّام حسين على إبقاءِ فضلى العلاقات مع الشاه، فعندما بدأت نقمة الإمام روح الله الخميني تتعاظَم في إيران من خلال “كاسيتات التحريض”، التي كان يرسلها من النجف في العراق إلى الداخل الإيراني، أوفد الشاه زوجته الشاهبانو فرح ديبا إلى بغداد، لتطلب من صدام حسين إبعاد الخميني من النجف، فنزل عند رغبة الشاه، إمعانًا في تأكيدِ صفوِ العلاقات.
إلًا أنَّ فرح ديبا عادت بعد أيام حاملةً رسالة أخرى من الشاه، طلب فيها وضع الخميني “تحت المراقبة والحراسة” في العراق، ومنعه من السفر. عندها شعر صدام حسين وكأنه يعمل لدى الشاه… فرفض عملًا بقاعدة بيلاطس البنطي: “ما كُتِب قد كُتِب”!
***
كان صدّام حسين يُدرِكُ خطورةَ “المُفترَقِ الوجودي” الذي وُضِعَ فيه.
رأى، من جهة، أنَّ “تفاهُمَ البكر- الأسد” يُشَكّلُ خطرًا على وجوده في السلطة. وعبر الحدود، من جهة ثانية، “ثورة المارد الشيعي” تُشَكّلُ خطرًا وجوديًا حقيقيًا، ليس على العراق وحده، إنما على الخليج الذي وَعدَ الخميني بتصدير ثورته إلى دوله، فبدأت تصرفاتُه وخطبُه خلال دورانه على المحافظات تُفصِحُ عن سيرورةٍ أخرى مختلفة، في نظرتهِ إلى إيران.
إذا كان صدّام حسين نجحَ في تقويضِ مشروع “البكر–عفلق” في التصالح والتقارب ثم الاتحاد مع دمشق، فإنه ظلَّ ينتظر، وعينه مُحمَرَّةٌ، السانحة لملاقاة الخميني وعسكره في الميدان.
في الأول من نيسان (أبريل) سنة 1980 أتتهُ الفرصة على طبقِ “حزب الدعوة” المُوالي لإيران.
صباح ذلك اليوم كانت “الجامعة المُستَنصرية“على موعدٍ مع “الندوة الاقتصادية العالمية”، التي نظَّمها “الإتحاد الوطني لطلبة العراق” مع “رابطة الطلبة الآسيويين”، على أن يفتتحها طارق عزيز، الذي كان يومها نائبًا لرئيس مجلس الوزراء، إلى جانب عضويته في مجلس قيادة الثورة.
ما أن دخلَ القاعة حتى أقدمَ الشاب سمير مير غلام، وهو من التابعية الإيرانية، بإلقاء قنبلة عليه، فارتمى أرضًا، وأُصيبَ في كسرٍ في ذراعه اليسرى، بينما تلقى كثيرون في أجسادهم شظايا انفجار تلك القنبلة.
كان صدّام حسين، وقتها، في قضاء “الصويرة”، القريب من الحدود مع إيران، حيث يقطنُ عددٌ كبيرٌ من المُتَجَنِّسين الإيرانيين. خطابه في الناس هناك، وكان لم يتلقَّ بعد خبر ما جرى في “الجامعة المستنصرية”، امتزجت نبرته بالإنذار والوعيد، وحُسنِ النية: “إنَّ شعبَ العراق لا يريدُ أن يُعادي أيَّ دولةٍ إلّا إذا هي اشتهت مُعاداته، وإلّا إذا توَّهمت أنه بإمكانها أن تنتهكَ سيادة بلدنا… عند ذلك فللأمر حسابٌ آخر”!
لقد كانت أهمية هذا الخطاب، أنهُ قيلَ في أقربِ منطقةٍ مُجاورةٍ لإيران.
شَعَرَ صدّام حسين بأنَّ قنبلة “الجامعة المستنصرية” فُرصَتَه التي كان ينتظرها، فانبرى إلى تعبئة الرأي العام العراقي، وتحضيره لما سُيقدِمُ عليه.
ففي صباح 2 نيسان (أبريل) سنة 1980، (اليوم التالي لحادثة “الجامعة المستنصرية”)، وقفَ صدام حسين في المكان الذي انفجرت فيه القنبلة وأطلقَ القسمَ الذي ردَّدته وسائل الإعلام العراقية، المسموعة، والمقروءة، والمرئية، على مدى أيامٍ متتالية: “والله، والله، والله، إنَّ الدماءَ الطاهرة التي سالت في الجامعة المستنصرية، لن تذهبَ سُدى”.
ألهبَ هذا القَسَمُ العراقيين حماسةً، وهذا ما كان يصبو إليه، فقد تمكّنَ من الاستفادة إلى أقصى ما يُمكِنُ من الحادث المأسَوي، بحيث عَبّأ العراقيين، وجعلهم يستعدّون لكلِّ شيء، ولتقبُّلِ أيِّ شيء.
***
حَسَبَ صدّام حسين، أو هكذا أوحى إليه كتبة التقارير، أن إيران، في مستهل ثورة الإمام الخميني، تعيشُ حالةً من الفوضى والضياع، ولم تنتظم للإمام بَعد أمور الدولة، وأنَّ الجيش الذي درَّبه الشاه وجَهَّزه بأفضلِ وأحدثِ العتاد البرية والبحرية والجوية تفكَّك، وضَعُفَ… فاعتبرَ أنَّ الفرصةَ قد سنحت لمنع تأثير الثورة الإسلامية على النسيج العراقي، والقضاء على فكرة “تصدير الثورة” إلى الخليج ودوله.
لقد كانَ “أمنُ الخليج” مسألةً حيويةً بالنسبةِ إلى صدّام حسين. ففي خطابٍ له يوم 23 نيسان (أبريل) 1980، خلال “مهرجان الشعر الشعبي”، وجَّهَ إنذارًا وتحذيرًا للإمام الخميني دفاعًا عن الخليج، قال: “لا يستطيعُ أن يمتدَّ بعنصريته الى أية ذرَّة تراب ورملٍ من أرض الوطن، والخميني يعرف انه لا يستطيع أن يمرَّ إلى الخليج العربي إلّاَ على جثث العراقيين”.
هذه مسألةٌ باقيةٌ على الزمان لأنَّ الثمنَ الذي دفعه العراق كان باهظًا جدًا، ولا يستطيع الخليجيون نكران ذلك، وهي بالتالي مسألة ما زالت بحاجةٍ إلى نقاشٍ صريحٍ وشفَّاف.
***
بينَ صياحِ الناس وهتافاتهم وحماستهم دَعمًا له، ينتشي صدام حسين، ظنَّ أنَّ ذاك أول الغيث، وهذه بداية تحقيق الهدف في اقتلاع “الشوكة الإيرانية” من خاصرة العراق.
مرّت الأيام بعد حادثة “الجامعة المستنصرية” (وبعدها، حادثة إلقاء قنبلة على مُشَيِّعي ضحايا تلك الحادثة، في 5 نيسان (أبريل) 1980)، مُدلهِمَّة، مشحونة، حبلى بالتوقّعات وعلامات الاستفهام.
في خطبه وتصريحاته ولقاءاته، أخذ صدام يُغَيِّرُ من لغته، فبدأ يقول كلامًا في الإمام الخميني وفي “العنصرية الفارسية” لم يقله من قبل، بحيث بدت حملته، من هذه الناحية، كأنها “عنصريَّة عربية” ضد الفرس!
انعكسَ ذلك فورًا على الإعلام العراقي، فما عادت الصحف تستخدم كلمة “إيران”، بل “الطغمة الفارسية”!
كانَ صدّام حسين يُدرِكُ أنَّ نقطةَ الضعفِ الإعلامي في حربه ضدّ إيران أنّهُ غَيَّرَ ترتيبَ الأولويّات العربية، من الصراع العربي–الإسرائيلي إلى الصراعِ العربي–الإيراني، ولهذا راحَ يطرحُ تلك الحرب من الناحية الإعلامية والدعائية على أنها “صراعٌ بين العرب والفرس”، وأطلق عليها اسم “قادسية صدام”، مُتمثِّلًا “القادسية الأولى” في الفتح العربي الإسلامي لبلاد فارس في القرن السابع الميلادي، بقيادة سعد بن أبي وقَّاص!
كما بدأت وزارة الإعلام نشرَ سلسلةٍ من التحليلات، التي تُعزِّزُ موقف القيادة السياسية، بأنَّ الأزمة مع إيران هي مواجهة بين قوميتَين: عربية وفارسية!
وكانَ طارق عزيز كَتبَ سلسلةً من المقالات في جريدة “الثورة” في هذا الإطار، وفيها تعرَّضَ إلى سوريا، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وليبيا، لتأييدها الثورة الإيرانية.
***
من بداياته كانَ صدّام حسين “مُحارِباً”، لكنّهُ لم يكن في تجربته قائدًا ميدانيًا، فما انتسبَ يومًا إلى المؤسّسة العسكرية. تلك كانت ثغرةً مؤرقةً طُمسَ فيها الفارقُ الرفيعُ بين القتال والقتل. ولذلك ظلَّ تصنيفهُ من هذه الناحية غامضًا، بأن امتزجَ فيه “القاتل” في طريقه إلى السلطة المطلقة، و”المُحارِب” الذي كادت حروبه الإقليمية تُقوِّضُ السلمَ العالمي في مرحلةٍ بدأ يختلُّ التوازُنَ بين القوى الدولية، فوجدَ نفسه حليفًا للقوة الدولية الكبرى… وعدوًا لها في وقتٍ واحد!
الدارسون المحترفون لمجريات الحرب العراقية-الإيرانية التي انطلقت في شهر أيلول (سبتمبر) 1980، خصوصًا في الغرب، لاحظوا أنَّ هناكَ أزمةَ قيادةٍ ميدانية في “العسكرية العراقية”، نسبها بعضهم إلى التدخُّلِ غير “المهني” للرئيس العراقي في مجريات الميدان.
عزمه على خوض تلك الحرب، طغى في عقله على أيِّ حسابٍ آخر، وهو السبب الموجب لاستعجاله الوصول إلى قمة السلطة.
***
المَراجِعُ الأميركية حولَ علاقةِ صدّام حسين مع واشنطن خلالَ الحربِ مع إيران تكشُفُ ما انغلقَ على كثيرين: عندما بدأ يظهرُ للمراقبين العسكريين أنَّ زخمَ الهجوم العراقي على إيران أخذَ يتراجع، أصدرَ الرئيس رونالد ريغان أمرًا للمعنيين في وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية، بعملِ كلِّ ما يمنع هزيمة صدّام حسين، سواء لجهة تقديم المعلومات، والصور الفضائية للمواقع والتحركات الإيرانية، أو لجهة تسهيل القروض والاعتمادات المالية، دعمًا للمجهود الحربي بالسرعة اللازمة.
لاقى الملك حسين بن طلال الدعم الأميركي، بحيث جعل الأردن مجالًا حيويًا للعراق والعراقيين.
بعد شهرٍ على نشوب الحرب، طلبتُ موعدًا مع الملك حسين لإجراءِ حديثٍ لمجلة “الحوادث”، فجاءني الموعد متأخّرًا في وقتٍ كُنتُ مُزمِعًا على السفر إلى الولايات المتحدة لتغطيةِ الانتخابات الرئاسية لعام 1980 بين الرئيس جيمي كارتر ومنافسه رونالد ريغان، فتوَجّهتُ الى عمَّان أولًا.
لدى وصولي العاصمة الأردنية أبلغوني بتأجيلِ الموعد مع الملك ليومين، لأنه اضطرّ إلى زيارة بغداد، وفي تلك الأثناء التقيتُ برجلِ الأعمال اللبناني الراحل علي غندور، المُقرَّب من الملك، فكنّا نجلسُ إلى الحديث من دونِ تحفُّظات.
من جملة ما أسرَّ به، أنَّ الملك حسين أوفده إلى طهران حاملًا رسالة إلى الإمام الخميني، ونقل رده عليها، ووَعَدَ بإعطائي صورة عن تلك المراسلة.
عندما حان موعدي مع الملك وتوجّهت إلى “المقر”، كما يسمُّون مكتب الملك، استقبلني مدير الديوان، ينال حكمت، الذي كنتُ تزاملتُ معه في الجامعة الأميركية. وفيما كنتُ أنتظر في مكتبه، جاء السفير الأميركي على عجل (اسمه نيكولاس فيليوتس، إن لم تخُنِّي الذاكرة)، وطلبَ موعدًا عاجلًا مع الملك لدقائق، اقتطعت من وقت مقابلتي، بهدف تبليغه رسالة “مهمة”.
بعد خروجِ السفير، اقتربَ منّي ينال حكمت، واعتذر مني مرة ثانية، لأن أليك دوغلاس هيوم رئيس الحكومة البريطانية الأسبق، طلب، هو الآخر، موعدًا مستعجلًا، فكان لا بدَّ من تلبيةِ طلبه.
لكنَّ العاهلَ الأردني عاد وغمرني بلطفه، وهو يبلغني عن انشغاله في هذا الوقت، مما أدّى إلى التباسٍ في المواعيد، وأعطاني وقتًا إضافيًا للتعويضِ عمّا فات.
في الحديث الصريح، عن الحرب العراقية–الإيرانية، سألته عن رسالته إلى الخميني، فرأيته فوجئ بالسؤال، وحاولَ بديبلوماسية أن يُقلّلَ من أهمّية ذلك، واضعًا الأمر في إطارِ “المساعي الحميدة”.
في المساء، التقيتُ علي غندور آملًا أن أحصلَ منه على “المراسلة الخمينية، فوجدته يُقدّمُ الأعذارَ لعَدمِ تمكُّنه من الحصول عليها!
بدا لي في تلك الزيارة إلى عَمَّان، أنَّ هناكَ تعليماتٍ ملكية إلى المسؤولين الأردنيين على جميع المستويات، بالتحفُّظِ في أيِّ كلامٍ عن الحرب العراقية–الإيرانية.
***
في السنة الأولى من الحرب، واجَهَ الجيشُ العراقي نقصًا في قذائف “لونا” الصاروخية القصيرة المدى، وهي سوفياتية الصنع، فامتنع “الكرملين” عن تزويد العراق بهذه القذائف بحجّةِ أنَّ موسكو تلتزمُ الحيادَ بين الجانبَين المُتحارِبَين.
على الرُغمِ من أنَّ العراق كانَ في حالةِ قطيعة مع مصر، ويتزعَّم ما كانوا يسمُّونه في حينه “جبهة الرفض” في مواجهة “صلح أنور السادات المُنفرد”، فقد عقد صدام حسين “صفقةً سريَّة” مع القاهرة لشراءِ كمية من تلك الصواريخ المُخزَّنة في الترسانة المصرية… وقام مهندسون عراقيون ومصريون، بتطوير تلك الصواريخ لزيادة مداها إلى 90 كيلومترًا.
لكن لسببٍ من الأسباب، كشف الرئيس المصري أنور السادات في خطاب له ربيع 1981، عن تلك الصفقة، في معرض تنديده بالمقاطعة العربية لمصر، مُسَمِّيًا “جبهة الرفض” تلك بأنها “زعبورة”.
في مساءِ ذلك اليوم التقيتُ مدير الأمن العام العراقي الدكتور فاضل البراك، الذي كانت تربُطُني به صداقةٌ قديمة منذُ أن كانَ يُعِدُّ أطروحته للدكتوراه في موسكو مطلع سبعينيات القرن الماضي، ودار الحديث الطويل بيننا حول هذا الموضوع، فبادرني بالقول: “تدري أنَّ لكلِّ دولةٍ في العالم سياسةً مُعلنة، وسياسةً خفيَّة تحت الطاولة. أو كما نقول في لغتنا “الضرورات تبيح المحظورات”. لكنني لا أعرف لماذا كشف السادات عن الموضوع، الذي كان من المُفترَض أن يبقى سرِّيًا”.
فقلت له: “أنا أعرف، ومن دونِ أيِّ معلومات: “فتش عن أميركا وإسرائيل”.
ردَّ عليَّ البراك بالقول: “إن سياستنا مع أميركا معقَّدة وتتقاطَعُ فيها المصالح، وهناك أيضًا بفِعلِ تلك المصالح ما يُمكِنُ أن نُسمّيهِ “تلاقي الأضّداد”، وهي تحالفاتٌ موضوعية تأخذُ مجراها لوحدها، مثل علاقتنا مع جيراننا العرب. هم الآن معنا، لكنهم في حقيقة الأمر ليسوا معنا. بعضهم متفرجٌ في الواقع، وإن كان صوته عاليًا في دعمنا. ومنهم من هم مسرورون بانغماسِ العراق في الحرب ويشجعون على ذلك. فاشتباكُ القوَّتَين الإقليميتين الكبيرتَين في الخليج يُريحهم، وهذا مفهوم. لكن الميزان دقيق، بمعنى أنَّ أيَّ اختلالٍ في هذا الميزان يُحَوِّلهُم برمشةِ عين إلى مُتآمرين ومُتواطئين علينا. وبالتالي، يمكنك أن تقول في المحصلة، إنه لا أميركا معنا، ولا جيراننا العرب معنا في نهاية المطاف. نحنُ مكتوبٌ علينا أن نُقلّعَ شوكنا بأيدينا. فالحربُ مكتوبةٌ علينا، لأنَّ السلامَ في هذه المنطقة من العالم يكادُ يكونُ مستحيلًا. ليس الأمر سهلًا أو هَيِّناً”!
ووضعتُ أمام البراك ما كان يطرحه سياسيون ومفكّرون، في تناولهم الحرب مع إيران: “إنَّ العقلَ العربي مُبَرمَجٌ، حتى الآن، على الصراعِ الأساس مع إسرائيل، وأعتقدُ أنَّ الحربَ مع إيران أحدثت صدمةً انفصامية، فيأخذ البعض عليكم أنكم غيّرتُم في أولويات الصراع، بأن حَوَّلتم الأنظارَ من عدوٍّ إلى آخر. وقد يذهبُ البعضُ إلى القول بأنَّ في ذلك خدمة مجانية لإسرائيل. وهذا يُضيفُ تعقيدًا جديدًا إلى الحالة النفسية العربية المُعقَّدة أصلًا بتناقضاتٍ لا عَدَّ لها ولا حصر. ولذلك أخشى أن تخسروا الحرب في الضمير العربي أوّلًا”.
أطرَقَ البراك قليلًا، ثم أخذَ الكلام: “هناك أمران يجب ألّاَ يغيبا عن البال في هذه الحرب: الأّول، أنَّ هناكَ تحالُفًا موضوعيًا بين إيران وإسرائيل، وبعض العرب ركيزته أو نقطة التلاقي فيه، وهي إبقاء العراق ضعيفًا إلى الأبد، والفرصة أمامنا الآن جيدة، لكون إيران هي الآن ضعيفة من حيث القدرة العسكريَّة، ومن حيث بنية جيشها راهنًا. والثاني، يُمكنُكَ أن تنظرَ الى هذه الحرب على أنها مناورةٌ بالذخيرة الحية استعدادًا للحرب المقبلة مع العدو الصهيوني. إنها رسالة إلى العدو وإلى الصديق عن اقتدار العراق وصلابة إرادته”.
***
يوم الرابع عشر من نيسان (أبريل) 1981، أجرينا الزميلة هدى الحسيني، وأنا، حديثًا صحافيًا مع الرئيس صدام حسين، في منزله في بغداد، نُشر في مجلة “الحوادث”.
قالَ من جملة ما قال فيه، إنه يطلب من الدول الوقوف على الحياد، وكأنه واثقٌ من أنه يستطيع وحده أن يهزُمَ إيران، إذا لم تحصل مداخلات خارجية.
وجوابًا عن السؤال، أيُّ حيادٍ يُفضّل، الجانب الذي يمتنع عن مساعدته ومساعدة عدوه، (مثل الموقف السوفياتي في ذلك الوقت)، أو الجانب الذي يساعده ويساعد عدوه في الوقت ذاته (كما حال الولايات المتحدة تاليًا، منذ مطلع الولاية الثانية للرئيس رونالد ريغان في العام 1985). صمتَ قليلًا، وكأنه يريد اختيار كلماته بدقة، ثم قال: “والله… إن الذي يساعدني ويساعد عدوي أيضًا، لا بدَّ أن نيّته سيئة”!
وقتها، لم تكن هناك أيُّ بوادر تُشيرُ إلى إمكانيةِ مَيلٍ أميركي إلى مساعدة إيران، ولو بالاحتمال، كما جرى تاليًا (بعد أربع سنوات)، عندما تمَّت صفقة السلاح الأميركية للإيرانيين من خلال إسرائيل، وهو ما عُرِفَ تاليًا تحت اسم “إيران–كونترا”، بحجة مبادلة الرهائن الأميركيين المحتجزين في لبنان.
وقد قال لنا صدام حسين في تلك المقابلة، إنه يقبل بشراء الأسلحة من أيِّ بلدٍ ما عدا إسرائيل.
لكنَّ الرئيس العراقي كان يعرفُ مليًّا، أنَّ إسرائيل حاضرة بقوة في الحرب العراقية–الإيرانية، وبعد أقل من ثلاثة أشهر على تلك المقابلة، أي في السابع من شهر حزيران (يونيو) 1981، قام الطيران الإسرائيلي بتدمير المفاعل النووي العراقي في جنوب شرق بغداد (أطلق عليها الإسرائيليون اسم “عملية أوبرا”).
تمضي سنواتٌ عشر تقريبًا، وحدثَ أن التقيتُ في لندن والزميلين هدى الحسيني وريمون عطا الله الرئيس اللبناني الأسبق الشيخ أمين الجميل، ونزل موضوع تسليح إيران على الكلام، فقال الجميل: “إن الأميركيين نقلوا السلاح المطلوب من الإيرانيين من مستودعات الجيش الأميركي في إسرائيل، إلى قاعدة للحلف الأطلسي في البرتغال، ومن هناك نُقلت إلى إيران للتعتيم على مصدر ذلك السلاح”!
***
بينَ الوثائق الأميركية المُفرَج عنها بموجب قانون “حرية المعلومات”، شهادةٌ لعضوٍ في مجلس الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس رونالد ريغان، واسمه هوارد تايتشر، يؤكد فيها صدقية صدام حسين لجهة أنه يرفضُ أيَّ سلاحٍ من إسرائيل كما قال لنا في المقابلة التي نُشِرَت في مجلة “الحوادث”.
لكن هذا الشاهد نفسه قال في شهادة لاحقة، إن الإسرائيليين في العام 1984، أي في السنة الأخيرة من ولاية ريغان الأولى، قرروا أن إيران أخطر عليهم من العراق، بسبب من وجودها على حدودهم مع لبنان، (قاصدًا بذلك “حزب الله”)، فعرضوا مساعدة العراق سرًّا.
أضاف، إنه حضر اجتماعًا بين وزير الدفاع الأميركي آنذاك دونالد رامسفيلد، وبين وزير الخارجية الإسرائيلي في حينه إسحق شامير، جرى فيه بحث هذا الموضوع، وقام شامير بتحميل رامسفيلد رسالة خطيَّة بهذا الخصوص إلى وزير الخارجية العراقي آنذاك طارق عزيز. لكن الوزير العراقي رفض أن يتسلَّمَ رسالة شامير، قائلًا حسب شهادة تايتشر: “إذا تسلّمتها، فإنَّ الرئيس صدام سوف يعدُمني على الفور”.
كان واضحًا في ذلك الحين، أنَّ شيئًا ما قد تغيَّرَ في مسارِ الحرب العراقية–الإيرانية، وأنَّ الأدوارَ قد تبدَّلت، حيث أصبح العراق في موقع الدفاع، وإيران في موقع الهجوم، وذلك قُبيل الاحتلال الإيراني لشبه جزيرة الفاو ” في مطلع العام 1986. وكانَ من المُلاحَظ أيضًا أنَّ في الجانب العراقي نوعًا من الأزمة في القيادة. فالقائد الأعلى، أي الرئيس صدام حسين، ليس قائدًا ميدانيًا، ولم يظهر في الحرب اسم أي قائد ميداني مُتَمَيِّز، فالإعلام العراقي كان يُركّز فقط على القائد الأعلى. وهذا أمرٌ مُلفِت، لأنّهُ حتى في أعتى الحالات الديكتاتورية الفردية، تبرزُ قياداتٌ ميدانية مُتمَيِّزة في الحروب الكبرى.
ففي الاتحاد السوفياتي، زمن جوزيف ستالين، برزت قياداتٌ ميدانية مُتفوِّقة في الحرب العالمية الثانية، منها على سبيل المثال، لا الحصر، الجنرال سيميون تيموشنكو (أوكراني)، في معركة “ستالينغراد”، والماريشال غيورغي جوكوف، الذي احتل برلين، وفي احتفال النصر بحضور ستالين على المنصّة في الساحة الحمراء في موسكو، قاد جوكوف العرض العسكري وهو على متن حصان أبيض، وضجّت الصحافة الغربية وقتها، بأنَّ ستالين سوف يغار من جوكوف، وتوقعوا أن يقوم بتصفيته، لكن جوكوف مات مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا بعد ربع قرن على وفاة ستالين!
شَكَّلَ احتلالُ الإيرانيين لشبه “جزيرة الفاو” صدمةً للعراقيين، عسكريين ومدنيين، كما أحدثَ ذُعرًا في الخليج، خصوصًا في الكويت، لأنَّ ذلك من شأنه، إذا اتسع، أن يفتحَ طريق القوات الإيرانية إلى الكويت. وكان اللافت في التقارير العسكرية أنَّ سلاح الجو العراقي لم يتدخّل لصدِّ الهجوم الإيراني، بحجة أنَّ الأحوالَ الجوية لم تكن تسمح بذلك!
ذلك الوضع، أطلق تكهُّنات بأنَّ سلاح الجو العراقي تعمَّدَ عدم التدخل، لخلقِ ظروفٍ تسمحُ لقيادته في حينه أن تنقلبَ على صدام حسين، وتضع نهايةً للحرب.
يومها كتبَ ضابطٌ عراقيٌّ بارز مقالًا في مجلة “كل العرب”، الصادرة في باريس، والتابعة للمخابرات العراقية، اتّهَمَ فيه الإنكليز بأنهم وراء الاحتلال الإيراني لشبه “جزيرة الفاو”!
***
قبيل الاحتلال الإيراني لشبه “جزيرة الفاو”، دعاني الزميل فؤاد مطر ناشر مجلة “التضامن”، الموالية للعراق في ذلك الوقت، إلى لقاءٍ في مكتبه في لندن مع محمد حسنين هيكل، بحضور اثنين من الزملاء، وهو ثاني لقاء لي مع هيكل بعد اللقاء العَرَضي الأول في قمة دول المواجهة المنعقدة في العاصمة الليبية طرابلس مطلع حزيران (يونيو) 1970، (جرت القمة في قاعدة “ويلاس” الجوية الأميركية سابقًا، وغيَّر معمر القذافي اسمها إلى “قاعدة عقبة بن نافع”، بحضور الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والرئيس العراقي أحمد حسن البكر، قبل نحو ثلاثة أشهر من وفاة عبد الناصر).
دارَ الحديثُ بطبيعة الحال عن الحرب العراقية–الإيرانية، فقلتُ للزملاء الحاضرين بأنّهُ لم يعد مُجديًا أو منطقيًا، البحث في أسباب الحرب، أو مشروعيتها، أو المواقف المُعلَنة، أو غير المُعلَنة، منها. البحث الآن يجب أن يدورَ حولَ العوامل الكامنة وراء إطالة أمد الحرب.
فسألني محمد حسنين هيكل: “وما هي تلك الأسباب برأيك؟”.
قلت في الجواب: “السبب البديهي الأول، هو استنزاف وإضعاف أكبر وأقوى قوتين إقليميتين على مقربة من أكبر مستودع للنفط والغاز في العالم، أي دول الخليج العربية. لكن هناك أسبابًا أخرى لا تقلُّ أهمّية، أبرزها حماية إسرائيل، التي لها تاريخ طويل من خرق جدار الأمن القومي للعراق وإيران، وقد شاهدنا كيف أصيبت إسرائيل بالذعر بعد اتفاق الجزائر في العام 1975، بين الشاه محمد رضا بهلوي وبين صدام حسين نائب الرئيس العراقي آنذاك، وانسدَّ بفعله أكبر خرق في جدار الأمن القومي العراقي، من خلال قطع التدخّل الإسرائيلي في إذكاء ودعم التمرّد الكردي عبر الممر الإيراني. لذلك فإنَّ إطالةَ أمدِ الحرب بين العراق وإيران تؤدّي خدمةً ثمينة للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وفي الوقت ذاته يريح الدول الخليجية الصغيرة الخائفة من أطماع جيرانها الكبار”.
وأضفت: “أعرف أنَّ الأميركيين حاولوا حمل صدام حسين على تشجيع الملك حسين باتجاه الصلح العلني مع إسرائيل، لكنه رفض. وقد كتبت إحدى الصحف الأميركية الكبرى مقالاً انتقدت فيه صدام حسين بشدّة لموقفه هذا”.
استمع محمد حسنين هيكل ولم يناقش!
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.