ترامب الواقعي: الرئيسُ السابق يَفهَمُ حُدودَ القوّة الأميركية

ربما لا يزال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب يصدُمُ الكثيرين في واشنطن، ولا شكَّ أنه يتمتّعُ بشخصيةٍ مُثيرةٍ للانقسام. لكن سياساته الخارجية هي نتاجٌ مُتَوَقَّعٌ لقوى غير شخصية إلى حدٍّ كبير.

شي جين بينغ: تزامن صعوده مع صعود ترامب ولكن…

أندرو بايرز وراندال شويلر*

مَنَحَت بُنيةُ القطبية الأحادية، التي بدأت مع انهيارِ الاتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة قوةً هائلة لا ضابطَ لها. أصبحت أميركا أوّل دولة في التاريخ لا يوجد لها أيُّ منافسين نظيرين أو قريبين من الأقران. وأصبحت الدولة الوحيدة التي تتمتّعُ بنفوذٍ في كلِّ منطقة من مناطق العالم والوحيدة التي تُهيمنُ بلا شك على جوارها. وبحلول العام 1992، ربما كانت الولايات المتحدة أصبحت الدولة الأقوى في كل مسرح عالمي أساسي.

بالنسبة إلى المسؤولين الأميركيين، كان الإغراءُ الطبيعي هو استغلالَ هذه اللحظة لتوسيعِ نفوذ الولايات المتحدة العالمي. قامت واشنطن، التي كانت مخمورة بالقوّة، بتوسيع حلف شمال الأطلسي إلى أوروبا الشرقية، بدون أن تكترثَ كثيرًا للمخاوف الروسية بشأن التعدّيات الغربية. ووسَّعت نطاق تبنّيها للانفتاحِ الاقتصادي، ودعمت إنشاء منظمة التجارة العالمية في العام 1995، على الرُغم من التهديدِ المُحتَمَل الذي تفرضهُ تسوية المنازعات الإلزامية على السيادة الوطنية. كما دعمت عضوية الصين في المنظمة في العام 2001. وفي نظر صنّاع السياسة الأميركيين، لم تكن هذه الحملة التوسُّعية مُفيدة لبلادهم فحسب، بل كانت مُفيدةً للعالم أيضًا. واشنطن، مثل كل القوى المهيمنة، أقنعت نفسها بأنَّ النظامَ العالمي الذي كانت تخلقه مُفَضَّلٌ عالميًا على كل الأنظمة الأخرى. وبدأت في ملاحقة ما أسماه خبير العلاقات الدولية أرنولد ولفرز “أهداف البيئة”، أو الأهداف المُصَمَّمة لجعل العالم أكثر توافُقًا مع قِيَمِ دولة واحدة.

في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانَ من المُمكن الدفاع عن هذا الخط الفكري. فعندما تتركّزُ السلطة بشكلٍ كبير في أيدي دولةٍ مُهَيمنة واحدة، فإنَّ حظوظ الكيان المُهَيمِن ومصائبه غالبًا ما يتقاسمها الجميع في الواقع. إنَّ رفاهيةَ الدولة المُهَيمنة تحملُ بالضرورة قدرًا من الرفاهية للأعضاء الآخرين في النظام الدولي، لأنَّ انهيارَها سيؤدّي إلى انهيار النظام ككل. ولهذا السبب، كان بوسع إدارة جورج دبليو بوش، في استراتيجيتها للأمن القومي لعام 2002، أن تزعمَ بأمانة أن القوى الكبرى في العالم كانت تتقارَبُ حولَ “نموذجٍ واحدٍ مُستدام لتحقيقِ النجاح الوطني: الحرية، والديموقراطية، والمشاريع الحرة”. وتابعت الوثيقة أن هذه الدول كانت “على الجانب عينه – مُتَحِدة بسببِ المخاطر المشتركة المُتمثّلة في العنف الإرهابي والفوضى”.

لكن، مع بدءِ هَيمَنة الدولة المُهَيمِنة في التلاشي، فإنَّ هذا الانسجام الطبيعي للمصالح بدأ يتلاشى أيضًا. فقد أصبحت القوى الصاعدة غير راضية على نحوٍ متزايد عن مكانتها العالمية، وعن قواعد النظام الدولي ومعاييره، وعن المصالح والقيم التي يُرَوِّجُ لها النظام. لم تَعُد مصالح المجتمع تطغى على المصالح الفردية. ومع نموِّ قوة الدول الرجعية، فإنها تُطَوِّرُ قدرتها على تحقيق أهدافها. ففي تقريرٍ يعد العام 2002، على سبيل المثال، صوّرت إدارة بوش الصين باعتبارها لاعبًا جماعيًا، “يكتشفُ أنَّ الحرية الاقتصادية هي المصدر الوحيد للثروة الوطنية”. ولكن بحلول العام 2017، أعلنت استراتيجية الأمن القومي الأميركية أنَّ “اندماجَ الصين في النظام الدولي بعد الحرب” كان فاشلًا، ووصفت الصين بأنها قوة “تعديلية” أو “تحريفية” تريدُ “تشكيلَ عالمٍ يتناقضُ مع القيم والمصالح الأميركية”.

إنَّ المُنافِسين الصاعدين ليسوا هم التعديليين والتحريفيين الوحيدين: فمع تَراجُعِ القوّة المُهَيمِنة، تُصبحُ أيضًا مُحبَطة إزاء النظام القائم. العديد من الصفقات التي أبرمتها في ذروة قوتها لم تعد منطقية. على سبيل المثال، أصبح صنّاع السياسات في الولايات المتحدة من مختلف الأطياف الإيديولوجية والحزبية مُحبَطين من الشراكة عبر الأطلسي. في الصفقة الأصلية التي تمَّ التوصُّلُ إليها بعد الحرب العالمية الثانية، قدّمت واشنطن الأمن لحلفائها الأوروبيين والمساعدة الاقتصادية الحيوية لاقتصاداتهم المُتَعثّرة في فترة ما بعد الحرب. في المقابل، دعموا واشنطن في الغالب خلال الحرب الباردة مع موسكو ومكَّنوا الولايات المتحدة من إبراز قوّتها في القارة الأوروبية. ولكن بمجرّد تفكُّك الاتحاد السوفياتي وأصبحت أوروبا غنية، لم يعد من المنطقي بالنسبة إلى الولايات المتحدة أن تتحمّلَ أكثر من 70% من الإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلسي. ولم يعد للتحالف سبب واضح لوجوده.

ليس من المُستَغرَب إذن أن يبتعدَ العديدُ من الأميركيين عن المرشحين الرئاسيين الذين يتبنّون سياسةً خارجية قوية وتوسّعية. وهم يرون الأسباب الهيكلية المُقنعة للمطالبة بالتحوّل. وقد احتضن العديد منهم المرشح الذي دعا إلى ضبط النفس العالمي، والتخندق، والمصلحة الذاتية الضيِّقة: دونالد ترامب.

خلال فترة ولايته الأولى كرئيس، أثبت ترامب أنه فريدٌ حقًا بين قادة الولايات المتحدة المُعاصرين. وعلى عكسِ أيِّ رئيسٍ سبقه في حقبة ما بعد العام 1945، كانَ مُتَشَكِّكًا في المعاهدات والتحالفات، مُفضّلًا المنافسة على التعاون. وحدَّدَ المصلحة الوطنية باستبعادِ أشياءٍ مثل انتشار القيم الليبرالية والتدخّلات العسكرية أو الإنسانية. فهو لم ينظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها المُتَدَخِّل الإلهي في التعامل مع الذين يتعرّضون لسوءِ المُعامَلة في الخارج. بدلًا من ذلك، حوّلَ تركيزَ واشنطن إلى منافسة القوى العظمى واستعادة مزايا القوة العالمية التي تتمتّع بها الولايات المتحدة. لقد كان، بعبارةٍ أخرى، واقعيًا حقيقيًا: فهو شخصٌ يتجنَّبُ وجهات النظر المثالية والإيديولوجية في التعامل مع الشؤون العالمية لصالح سياسات القوة.

في فترة ولاية ترامب الأولى، تمَّ إسكاتُ هذه النبضات الواقعية، بل وإيقافها في بعض الأحيان من قبل موظفي الأمن القومي الصقور الذين لم يشاركوه رؤيته. ولكن بعد أن تعلّمَ أن شؤون الموظفين هي السياسة، فإنَّ ترامب لن يرتكبَ هذا الخطأ مرة أخرى إذا وصل إلى البيت الأبيض. بدلاً من ذلك، ستؤدي إدارته المقبلة إلى سياسة خارجية أميركية ربما تكون الأكثر تحفّظًا في التاريخ الحديث.

التحقُّق من الواقع

يخوضُ الحزبُ الجمهوري نقاشًا حادًا حول العلاقات الدولية. وتتكوَّن المؤسّسة التقليدية للحزب من المحافظين الجدد والمتطرّفين الذين يريدون للولايات المتحدة أن تمارس قوتها في جميع أنحاء العالم وأن تستخدمَ قدراتها العسكرية لتحقيق العديد من الغايات والأغراض. على سبيل المثال، فهم يدعمون المساعدات الأميركية الضخمة والمستمرة لأوكرانيا كوسيلةٍ لمواجهة واستنزاف روسيا، وقد تبنّوا بكلِّ إخلاصٍ تأطيرَ إدارة بايدن للدعم العسكري لأوكرانيا على أنه منافسة بين الديموقراطية والاستبداد. ومن ناحيةٍ أخرى، لا يدعم ترامب وحلفاؤه تقديم المزيد من المساعدات لأوكرانيا. وهم لا ينظرون إلى الجغرافيا السياسية باعتبارها منافسة إيديولوجية كبرى. وعلى عكس المحافظين الجدد، فإنهم يفضلون بشكل واضح أن يدفع حلفاء الولايات المتحدة تكاليف أمنهم. في شباط (فبراير)، على سبيل المثال، أعلن ترامب أنه سيسمح لروسيا بممارسة طريقتها مع أي دولة أوروبية لا تنفق ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع عن نفسها. وروى ترامب أن زعيم إحدى دول “الناتو” سأله.”إذا لم ندفع وتعرّضنا لهجومٍ من روسيا، فهل ستحمينا؟” “لا، لن أحميكم. في الواقع، أود أن أشجعهم على فعل ما يريدون بحق الجحيم. عليكم أن تدفعوا. عليكم أن تدفعوا فواتيركم”.

لا تزال المؤسسة الجمهورية التقليدية تحتفظُ بقوّةٍ كبيرة. على سبيل المثال، يُهيمنُ المحافظون الجدد على قيادة الحزب في مجلس الشيوخ. ولكن ببطء وثبات، ينتصر المعسكر الترامبي. وهو يفعل ذلك، بشكلٍ أكثر وضوحًا، في الانتخابات التمهيدية، حيث يستمر ترامب والمرشحون الذين يدعمهم في الفوز. لكن استطلاعات الرأي تشير إلى أنَّ الواقعية الترامبية تفوز أيضا بقلوب وعقول الناخبين المحافظين. في استطلاعٍ للرأي أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية أخيرًا، أجاب 53 في المئة من الجمهوريين بـ”البقاء بعيدًا” من الصراعات الخارجية عن السؤال “هل تعتقد أنه سيكون من الأفضل لمستقبل البلاد إذا قمنا بدورٍ نشط في الشؤون العالمية أو إذا بقينا بعيدين من شؤون العالم؟” وقال عددٌ مُماثل – 55% – إن التكاليف تفوق فوائد الحفاظ على دور الولايات المتحدة في العالم.

بالنسبة إلى غالبية نخب السياسة الخارجية، الذين ينظرون إلى قوة الولايات المتحدة باعتبارها خيرًا معياريًا، يبدو هذا الاتجاه بغيضًا. لكن أجندة الرئيس السابق “أميركا أوّلًا” هي عبارة عن برنامجٍ واقعي يمكن الدفاع عنه فكريًا ويسعى إلى التأكُّدِ من المصالح الوطنية للولايات المتحدة والعمل على تحقيقها بدلًا من مصالح الآخرين. إنها تُولَدُ من فرضيةٍ لا مفرَّ منها: لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بالقوة التي كانت تتمتع بها في السابق، وهي آخذة في الانتشار والتوسُّع بشكل غير مناسب للغاية. ويتعيَّن عليها أن تُفرِّقَ بين مصالحها الوطنية الأساسية ومصالحها المرغوبة. ويجب عليها أن تنقل المزيد من المسؤولية إلى حلفائها الأثرياء. يجب أن تتوقف عن محاولة التواجد في كل مكان والقيام بكل شيء.

في فترةِ ولايته الأولى، كانت غرائز ترامب الواقعية تُحبَطُ في كثير من الأحيان من قبل كبار مستشاريه للأمن القومي. لكن ميل الرئيس السابق إلى ضبط النفس شكّلَ سياساته. لقد تجنّبَ ترامب تورّطات عسكرية جديدة، وبدأ إخراج الولايات المتحدة من احتلالها لأفغانستان الذي دام عشرين عامًا، واشتبك مع دولٍ مُعادية مثل الصين وكوريا الشمالية وروسيا بطُرُقٍ قلَّلت من احتمالاتِ الصراع. لقد حوَّلَ عبءَ دفعِ تكاليف الدفاع المشترك إلى الحلفاء وبعيدًا من دافعي الضرائب الأميركيين. وتحدّثَ بصرامةٍ كوسيلةٍ للضغطِ على القادة الآخرين واسترضاء قاعدته المحلية. لكنه لم يتصرَّف قط مثل المحافظين الجدد البدائيين. وحتى عندما يتعلق الأمر بإيران، الدولة التي كان ترامب الأكثر عدوانية تجاهها، كان الرئيس السابق يتراجع دائمًا عن حافة استخدام قوة عسكرية كبيرة.

فسحة حرة

في فترة ولايته الثانية (إذا أُعيدَ انتخابه)، سوف تجد غرائز ترامب الواقعية تعبيرًا أكثر. لن يُديرَ ترامب ظهر واشنطن للعالم بشكلٍ كامل (خلافًا لادِّعاءات معارضيه). لكن من المرجح أن ينسحبَ على الأقل من بعض التزامات الولايات المتحدة الحالية في الشرق الأوسط الكبير. ومن المؤكَّد أنه سيطالب الحلفاء الأثرياء في آسيا وأوروبا بدفع المزيد من تكاليف أمنهم. ومن المرجح أن يُركّزَ معظم اهتمامه على بكين، مع التركيز على سُبُلِ التغلب على الصين مع تجنُّبِ الصراع العسكري وحرب باردة الجديدة.

كما تحدّث ترامب وحلفاؤه عن الحاجة إلى أن تصبح الولايات المتحدة أقل اعتمادًا على مصادر الطاقة الأجنبية؛ ويتوقعون أن يؤدي المزيد من الاكتفاء الذاتي إلى نمو الوظائف في البلاد وانخفاض تكاليف الطاقة بالنسبة إلى المستهلكين الأميركيين. كرئيسٍ للجمهورية، من المرجح أن يتابع ترامب هذا الخطاب من خلال إلغاء العديد من التنظيمات الحالية في قطاع الطاقة، وبالتالي تسهيل عملية الحفر على منتجي النفط والغاز المحليين. ومن الأهمية بمكان أنَّ مثل هذه السياسة من شأنها أن تجعل الخليج العربي أقل أهمية بكثير بالنسبة إلى واشنطن. على مدار الخمسين عامًا الماضية، اضطرت كل إدارة رئاسية أميركية، بسبب الظروف، إلى إنفاق قدر غير مُتناسِب من الوقت والاهتمام والموارد على الشرق الأوسط – في جُزءٍ ليس قليلًا لضمان تدفُّق النفط. والولايات المتحدة التي لم تَعُد بحاجة إلى القيام بذلك ستتحرّر من الاضطرار إلى الاهتمام كثيرًا بالمشاحنات الإيرانية-السعودية ولن تحتاجَ بعد الآن إلى الحفاظ على عدد كبير من القوات الأميركية في منطقة الخليج العربي. وكما أظهرت تجارب إدارة بايدن، فإن القوات الأميركية المنتشرة عبر عشرات القواعد في العراق وسوريا معرَّضةٌ لخطر التعرُّض لهجوم من قبل إيران ووكلائها.

وبطبيعة الحال، سيواصل الرئيس السابق خطابه العدواني تجاه خصوم واشنطن، مُنتقِدًا نهبهم وأعمالهم العدوانية. يمكن أن يكون مثل هذا الحديث مفيدًا في تذكير بقية العالم بأنَّ الولايات المتحدة لا تتقاسم العديد من القيم مع دولٍ مثل الصين، وإيران، وروسيا، أو حتى بعض حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك المملكة العربية السعودية – وأنه حتى الولايات المتحدة الأكثر واقعية ومعاملاتية لن تنحدر إلى مستوى تلك الدول. لكن لا ينبغي لترامب أن يدفع الولايات المتحدة إلى حرب باردة جديدة مع الصين أو حرب ساخنة مع المنافسين الإقليميين مثل إيران. يجب على إدارة ترامب محاسبة الدول الأخرى واستخلاص أفضل الصفقات الممكنة للولايات المتحدة. لكن الصراع العسكري أو فترات العداء الطويلة ليست في مصلحة أحد.

لحسن الحظ، يتمتّع ترامب بسجلٍ مثير للإعجاب في تجنُّب استخدام القوة العسكرية الأميركية. وهذا ليس لأنه إنساني أكثر من أسلافه، بل لأنه ينظر إلى السياسة العالمية من منظورٍ جيواقتصادي أكثر من منظور جيوستراتيجي، ولذلك فهو يحاول إدارة الصراع عبر الوسائل الاقتصادية وليس العسكرية. وقال ترامب في العام 2019، عندما تحدَّثَ عن إيران وبرنامجها النووي: “أريد أن أغزو، إذا اضطررت لذلك، اقتصاديًا. لدينا قوة هائلة اقتصاديًا. إذا كان بإمكاني حلّ الأمور اقتصاديًا، فهذه هي الطريقة التي أريدها”.

وهذا الشعور يتمسّك به الرئيس السابق بشدة. وبالعودة إلى العام 2015، عندما كانت واشنطن بأكملها تحت تأثير شعارات التجارة الحرة غير المُقَيَّدة، حذّرَ ترامب من مخاطر التبعيات الاقتصادية، التي تراكمت على مدى عقودٍ من التحرير، والتي يمكن استغلالها لتحقيق النفوذ الجيوسياسي. (تعتمد الولايات المتحدة، على سبيل المثال، على الدول الأجنبية للحصول على الطاقة، والمعدات الطبية، وأشباه الموصلات، والمعادن المهمة). كما أكد على القوة الهائلة التي تتمتع بها الولايات المتحدة في أشكال التعريفات الجمركية، والعقوبات، والقدرة على الوصول إلى الدولار، والتحويلات المالية، والسيطرة على الشبكات الاقتصادية العالمية. وبمجرد وصوله إلى منصبه، استخدم القوة الاقتصادية الأميركية، التي يُنظر إليها عادة كوسيلة لإغراء الآخرين للانضمام إلى نظام التجارة الحرة المتعدد الأطراف، كعصا لمعاقبة أولئك الذين امتصّوا واشنطن خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وأعلن ترامب عند توقيع الاتفاق التجاري المؤقت مع الصين: “إننا نُصحّح أخطاء الماضي ونحقق مستقبلًا من العدالة الاقتصادية والأمن للعمال والمزارعين والأسر الأميركية. كان يجب أن يحدث ذلك قبل 25 عامًا”.

العملاقُ المرهق

باعتباره واقعيًا محافظًا، يجب على ترامب أن يكون واضحًا بشأن ما يهم واشنطن حقًا وأن يتجنَّب الخطوات التي قد تثير المواجهة العسكرية. كلما كان ذلك ممكنا، يجب عليه تفويض المسؤولية عن المشاكل العالمية لحلفاء الولايات المتحدة، وترك واشنطن للتركيز فقط على ما هو ضروري حقًا للمصلحة الوطنية الأميركية.

يستطيع ترامب أن يبدأ التركيز على الصين. إن تأمين علاقة مع بكين تضمن الرخاء الأميركي ولا تزيد من احتمالية الحرب قد يكون التحدي الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة. تتنافس بكين وواشنطن على القيادة الاقتصادية والسياسية العالمية، وهناك العديد من نقاط التوتر بينهما. لكن لا ينبغي لأيٍّ من هذه الأمور أن يؤدّي إلى صراع. إن النقطة الأساسية للخلاف العسكري –مصير تايوان– لا تتطلّب تدخُّلًا عسكريًا أميركيًا. يجب على الولايات المتحدة تسليح الجزيرة حتى تتمكّن من ردع الغزو الصيني وهزيمته. لكن تايوان ليست حليفة للولايات المتحدة، وبالتالي لا ينبغي لواشنطن أن تخاطر بالحرب مع الصين للدفاع عنها بشكل مباشر.

في مجالاتٍ أخرى، يستطيع ترامب تقييد الصين من خلال الاعتماد، كما يفعل عادة، على القيود التجارية. لقد أصبح استخدام إدارة ترامب المُبتكَر لضوابط التصدير على التكنولوجيا المتطورة الأداة الجديدة المفضَّلة لسياسات القوة في القرن الحادي والعشرين. وعلى عكس التوازن التقليدي، الذي يقوم على حشد القوة من خلال الأسلحة والحلفاء لتعويض القوة العسكرية للهدف، تسعى استراتيجية ترامب إلى منع، وليس مواجهة، المزيد من صعود منافس نظير. في السنوات المقبلة، سوف ترغب كل من الولايات المتحدة وأوروبا في ضمان تجنب شركاتهما مشاركة تقنيات معينة مع بكين والاعتماد على الموردين غير الصينيين في القطاعات الحيوية، مثل الاتصالات والبنية التحتية.

لكن واشنطن قادرة على تقييد الصين بدون شنِّ حربٍ تجارية شاملة، لذلك ينبغي لها أن تتجنّبَ إصدار تعريفات جديدة، إلّا في حالة الرد المباشر على القيود التجارية الصينية ضد البضائع الأميركية. ويجب على المسؤولين الأميركيين أيضًا تجنُّب المبادرات العسكرية العدائية التي من شأنها المخاطرة باندلاع حرب فعلية بين الدولتين. وفي حال وجدت الدولتان نفسيهما مُعرَّضتَين لخطر صراع ساخن، يجب على الولايات المتحدة الدفع بتحالف من دول المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك أوستراليا والهند واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام –التي تتطابق وتساوي قوتها الإجمالية تقريبًا مع قوة الصين- لأخذ زمام المبادرة في احتواء بكين.

مع خصوم الولايات المتحدة الآخرين، يجب أن تكون واشنطن أقل انخراطًا. ربما تشكل روسيا خطرًا عسكريًا، لكنها لا تُشكّلُ تهديدًا وجوديًا للولايات المتحدة ــ وهي الحقيقة التي أوضحها أداؤها المتوسّط ​​في أوكرانيا. لذلك فمن غير المنطقي أن تستمر واشنطن في كتابة شيكات على بياض لكييف، وخصوصًا عندما يكون جيران أوكرانيا الأوروبيون أثرياء للغاية. وينبغي على الولايات المتحدة أن تمارس ضغوطًا كبيرة على هذه الدول للبدء في دفع تكاليف الدفاع عن أوكرانيا، خصوصًا وأن هذه الدول هي الدول التي تهدّدها موسكو فعليًا. وعلى نحوٍ مماثل، يتعيَّن على واشنطن أن تضغطَ على كوريا الجنوبية لحملها على تولّي القيادة في احتواء جارتها الشمالية الفقيرة. بل يتعيَّن على الولايات المتحدة أن تدفعَ شركائها العرب وإسرائيل إلى العمل معًا لضبط إيران، حتى تتمكّن واشنطن من سحب معظم قواتها من الشرق الأوسط.

والحقيقة هي أنه بعد ما يقرب من 80 عامًا من القيادة الأميركية، دخل العالم مرحلةً انتقالية من نظام الهيمنة إلى استعادة توازن القوى. مثل جميع أنظمة توازن القوى السابقة، سيشهد هذا النظام انشقاقًا عالميًا، وتنافرًا، ومنافسة بين القوى العظمى. واليوم، تأتي مثل هذه المعارضة بشكل واضح من الصين، وإيران، وكوريا الشمالية، وروسيا. ومع ذلك، فإن اختلال الاستقرار العالمي خلال هذه المرحلة الانتقالية لا يأتي فقط من المنافسين الصاعدين، بل أيضًا من الدولة المهيمنة نفسها. ومن أجل منع الانحدار، تعمل القوة المهيمنة على تقويض نظامها الخاص، الذي تبدأ في رؤيته باعتباره استنزافًا. ويتزايد عدم رغبتها في قبول دعم أمن الحلفاء ورفاهية العالم بشكل عام. وهي تنظر بشكلٍ متزايد إلى السياسة التجارية ليس من حيث تحسين الأسعار والكفاءة وأرباح الشركات ولكن من حيث ما إذا كانت تجعل البلاد أضعف أو أقوى، وما إذا كانت تساعد الطبقة العاملة في العثور على وظائف جيدة الأجر والحفاظ عليها، وما إذا كانت تبني المجتمعات أو تدمّرها. وما إذا كان يسبب فوائض تجارية أو عجزًا. فالقوة المهيمنة التي تشهد انحدارًا لم تعد تعتقد أن التجارة حرة.

لقد أصبحت الولايات المتحدة بالضبط هذا النوع من العمالقة المرهقين، وأقل قدرة على احترام الالتزامات الخارجية وأقل اهتمامًا بالقيام بذلك أيضًا. وهذا ما يفسّر صعود ترامب وجاذبيته لدى أتباعه، الذين يحتقرون ما يعتبرونها طبقة حاكمة فاسدة تضع رفاهية العالم فوق مصالح بلادهم. وهو ما يفسر تزامن صعوده مع صعود الرئيس الصيني شي جين بينغ. كلا الرجلين، على الرغم من أن لديهما شخصيات مختلفة تمامًا، تعهّدا بجعل بلديهما عظيمين مرة أخرى من خلال قلب النظام العالمي الليبرالي. وهذا ينبغي أن يُنَبّهَ المحللين إلى حقيقة أن أيًا منهما ليس مسؤولًا عن زوال النظام. بدلًا من ذلك، هناك عوامل هيكلية أكبر تعمل. ربما لا يزال ترامب يصدم الكثيرين في واشنطن، ولا شك أنه يتمتع بشخصية مثيرة للانقسام. لكن سياساته الخارجية هي نتاج متوقع لقوى غير شخصية إلى حد كبير.

  • أندرو بايرز هو زميل غير مقيم في مركز ألبريتون للاستراتيجية الكبرى في جامعة تكساس “إي أند أم”.
  • راندال شويلر هو أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج دراسة السياسة الخارجية الواقعية في جامعة ولاية أوهايو.
  • يصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى