العِراقِيُّ الغامِض
قِراءَةٌ مُتَأَخِّرة في عَقلِ صدّام حسين
(7)
النائب
سليمان الفرزلي*
“سيادةُ نائب رئيس الجمهورية العراقية”، يزهو صدّام حسين بنفسه، لَكَمْ انتَظَرَ هذا اليوم، وعملَ له ببطش، منذُ انقلابِ 1968 واقترابه من أحمد حسن البكر. فقد أزاح من دَربِ وصولِهِ إلى السلطة، مَن عَلَت منزلتهم، وكانوا يُشَكّلون عائقًا، وعقبةً كأداء أمامه، إن في مزاياهم الفكرية والثقافية، أم في تاريخهم الحزبي الطويل، وبحضورهم الطاغي داخل العراق وخارجه.
وكرَّت سبَّحة الرؤوس التي صُفِّيت، وتلك التي كُتِبَ لها العمر، فطواها المنفى، أو أُبعِدَت وطواها النسيان.
فبعدَ التخلُّصِ من النائبين السابقَين الفريق صالح مهدي عمّاش، والفريق حردان التكريتي، ها هو عبد الخالق السامرائي، آخرُ حبّةٍ في مسبحة الرؤوس التي كان صدام حسين يتوجَّسُ منها، يخضعُ لبطشه وظلمه.
***
تعاوَنَت على تكوينِ شخصيةِ عبد الخالق السامرائي، عواملَ عدّة:
بيئةٌ صالحةٌ مُصلِحة، فالرجلُ من عشيرةِ “الجبور”، في “سامراء”، (الرابضة على الضفة الشرقية من نهر دجلة)، شيبها حافظوا على التراث والتقاليد والعادات، وشبابها شبُّوا على التحصيل العلمي، فكانَ بينهم جلَّة من أهل الفكر والعلوم.
منبتٌ طيِّبٌ، ونشأةٌ مُنفَتِحةٌ مُتفتّحة، فلا غرابةَ، وقد اعْتُجِنَ من خميرةٍ طيِّبة.
في بغداد درس الحقوق، وتعرَّفَ على “حزب البعث” وفكره وعقيدته، فانتمى إليه، وتَدرَّج في كوادره إلى أن تربَّع عضوًا فاعِلًا، في القيادتين القومية والقطرية، فاصطفاه ميشال عفلق وقرَّبهُ منه.
نابهًا، نازهَ النفس، كان عبد الخالق السامرائي، وعلى ثقافةٍ لا تبرُّج فيها، ولا زيف، يملك ذكاءً لمَّاحًا، مكَّنه دائمًا من استقراءِ المواقف، ولا مرّةً حَكَمَ بظاهرِ الأمور، إنَّما كان يتحرّى ما وراء الظاهر، ويعمدُ إلى الجوهر، فيدفعك للإنصاتِ إليه.
كانت حياته، حتى مماته، مجموعةً من مواقف تتَّسِمُ بالشجاعةِ والإقدام، فلقد كانَ من عيّنَة مَنْ يقولُ الصحيحَ غير هيَّاب، ولو حرقت الكلمات شفتيه. من الممكن أن تختلفَ مع عبد الخالق السامرائي، لكن لا يُمكِنكَ أن تختلفَ عليه البتَّة.
ألهى نفسه عن الاشتغال في الحكومات المُتعاقِبة، رافضًا أن يتولّى أيَّ حقيبةٍ وزارية، وانصرفَ بكليتهِ إلى الاشتغالِ بالتنظيمِ الثقافي والإعلامي.
ظلمتهُ الحياة، فتحمَّلَ ضَيمَها، ومراراتها، وذُلَّها حتى مماته.
هكذا عرفتُ عبد الخالق السامرائي، الذي التقيته في بيروت، وكنت حاضرًا في كلِّ اجتماعاته، لمَّا أُوفِدَ من القيادة القومية في بغداد لتهدئة الأجواء، بعد الزوبعة التي أثارها صدام حسين، وارتجَّ لها البعثيون في لبنان.
***
لما ترك طلال سلمان رئاسة تحرير مجلة “الصياد”، أصبحَ مُراسِلًا جوَّالًا لها، حدثَ أن مهَّدَ له أحدهم وسعى إلى إجراء مقابلةٍ مع “السيد النائب” صدام حسين في بغداد.
تم اللقاء، وجلس صدام حسين إلى الحديث مع طلال سلمان، والمقابلة التي نشرتها “الصياد”، كانت عاديةً جدًا إن في الأسئلة التي طُرِحَت، أم في إجاباتِ صدام حسين عنها، لولا أنَّ “السيد النائب” تعمَّدَ فيها إعلانَ موقفٍ أثارَ الريبةَ في الأوساط الحزبية، خصوصًا أنه جاءَ بعد صدمةِ انسحاب الجيش العراقي من الأردن في أيلول (سبتمبر) سنة 1970 خلال المواجهاتِ الدامية بين الجيش الأردني ومقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية.
فقد أعلن صدام حسين بالفم الملآن: ” نحن لسنا ضدَّ الحل السلمي بالمُطلَق”!
ويستأنفُ صدام حسين فيقول، مُتناوِلًا ياسر عرفات ومنظمة التحريرالفلسطينية بالنقدِ اللاذع، والتجريح النافر، فشبَّهَ المنظمة بأنها “مثل الصابونة، كل نظام عربي، بمن فيهم نظامنا، يغسل يديه بها (من القضية) الى أن تذوب، وتصبح “بَرْوَة” لا تصلحُ لشيءٍ فتُلقى جانباً”!
إذا كان الكلام السياسي لصدام حسين قوبلَ باستهجانٍ من القيادة القطرية في لبنان، فإنَّ ما تسرَّبَ حولَ وَعدِ “السيد النائب” لطلال سلمان، بتحويل مليون دولار لإصدار جريدة، ارتجَّت له بيروت… وثارت ثائرةُ البعثيين اللبنانيين، عندما تمَّ بالفعلِ تحويلُ هذا المبلغ الى السفارة العراقية لدى لبنان، لتسليمه الى طلال سلمان.
تخوَّفَت القيادة القومية في بغداد من تطوُّرِ تلك المسألة، فأوفدت عبد الخالق السامرائي، مسؤول الثقافة والإعلام في القيادتين القومية والقطرية، للوقوف على حقيقة الأمور، والتهدئة.
وصلَ السامرائي الى بيروت، ودفع حياته، ثمن الرأي الذي خَرَجَ به من لقاءاته، واجتماعاته، التي وقفتُ على تفاصيلها وكنتُ حاضرًا فيها.
***
كانَ اعتراضُ القيادةِ القطرية في لبنان على “مشروع” صدام حسين الإعلامي، أنه تجاوزها، فلا يجوزُ أن يتمَّ المشروعُ المزعوم من وراء ظهر تلك القيادة، فلا تُسأل، ولا تُستشارُ، إنّما يتمُّ كلُّ شيءٍ بالفَرض.
لم يكن ميشال عفلق بعيدًا من موقف القيادة القطرية في لبنان، وإنَ كانَ ظلَّ خارج ذلك الجدل، والأخذ والرد، والاعتراض ورفض الإذعان.
على مدى ثلاثةِ أيامٍ التقى عبد الخالق السامرائي أعضاءَ القيادة القطرية، وبعثيين قدامى، كما اختلى بميشال عفلق. وخلص، بعد تلك اللقاءات والاجتماعات المُطَوَّلة، إلى رأيٍ واضح، مفاده، أنه كان على صدام حسين طَرح المشروع الاعلامي على قيادة الحزب في لبنان، واستشارتها، قبل تحويل أي مبلغ… وهذا من أصول التخاطُب الحزبي.
لقد أدرك عبد الخالق السامرائي، بنظرهِ الثاقب، وذهنه الوقَّاد، ما كان صدام حسين ينوي ويريد من مشروعه الإعلامي مع طلال سلمان، هو إيجاد وسيلة إعلامية غير حزبية، يُمرّرُ فيها رسائلَ من بابِ جسِّ النبض السياسي، من مثل ما قاله عن الحلِّ السلمي وعدم رفضه بالمُطلَق.
وقبل مغادرته بيروت، استدعى عبد الخالق السامرائي، السفير العراقي لدى لبنان، وطلب منه “الاحتفاظ بالتحويلِ وعدم تسليمه لطلال سلمان”.
وكان لنقيب الصحافة اللبنانية وقتذاك، رياض طه، ما يقوله في لقائه السامرائي، فقد عرض “خدمات” جريدة “الكفاح”، القائمة والمعروفة، وهي ذات انتشار وتوزيع لا بأس بهما، وبالتالي، تُغني عن تأسيسِ وإصدارِ جريدةٍ جديدة تتطلّبُ مصاريف تأسيس، وتجهيز، ووقتًا كي تثبت نفسها بين الجرائد اللبنانية الأخرى.
وهكذا كان، تمَّت الموافقة على عرض رياض طه، وتحوَّل المبلغ من جيب طلال سلمان، الى جيب نقيب الصحافة وجريدته، وأُحبِطَ مشروعُ “السيد النائب”.
أما طلال سلمان، فراحَ في مجالسه الخاصة، يردُّ على اعتراضِ البعثيين على مشروعه الإعلامي، بأنه لا يُزاحمهم على مال صدام حسين، والأهم، أنه لم يكن واردًا، بالنسبة إليه، العمل لا مع صدام حسين، ولا مع أيِّ نظامٍ عربي آخر!
بعدما خاب أمل طلال سلمان بدَعمِ صدام حسين، خَطَبَ ودَّ معمر القذافي، وما لم ينله من بيت المال العراقي، ناله من بيت المال الليبي، ثم الفلسطيني، فكانت جريدة “السفير”.
على الرُغمِ من كلِّ ما كان طلال سلمان يقوله، حرص البعثيون في لبنان على التعاونِ معه، فطلبوا مني أن أفسحَ له في المجال ليكتبَ في مجلة “الأحرار”، التي كُنتُ أرأس تحريرها.
عرضتُ عليه الأمر، لم يتردّد بالقبول، واتفقنا على مبلغ 600 ليرة لبنانية لكلِّ مقالٍ في الأسبوع، لكنه اشترطَ أنه لن يُوَقِّعَ ما يَكتُب باسمه، بل باسمٍ مُستعار هو “طه إبراهيم”، فجرى الاتفاق على هذا الأساس.
بعدما تمَّ الاتفاقُ بين النقيب رياض طه والعراقيين، عرض رئاسة التحرير على طلال سلمان فرفض، عندئذ طلبوا مني أن أقومَ بهذه المهمة، فانتقلت من “الأحرار” الى “الكفاح”.
***
الصدمةُ الأولى التي تلقّاها صدام حسين، بعد أن أصبح “الرجل القوي في البلاد”، كانت على يَدَي عبد الخالق السامرائي، فازدادَ تربُّصًا به، وراحَ يُخَطِّطُ للتخلص منه في القيادتَين القومية والقطرية.
كعادته، قبل أن ينقضَّ على فريسته، كان صدام حسين يُحاصِرُها، ويُجَرِّدها من المُسانِدين لها، فبدأَ مُحاصرةَ عبد الخالق السامرائي، والقضاء على مَن يتوكّأ عليهم ويُساندوه، فرفعَ إلى القيادة القومية تقريرًا مُوَثَّقًا، بالصور والشهود، عن الميولِ النسائية لعبد الله سلوم السامرائي، وزير الإعلام وسند عبد الخالق، وتورُّطهُ في علاقاتٍ مشبوهة، فأُقيلَ من منصبه، وطُرِد من الحزب.
في منتصف سنة 1973، ولم يكن مضى كثيرُ وقتٍ على طرد عبد الله سلوم السامرائي، لاحَت لصدام حسين سانحةٌ للتخلّصِ من عبد الخالق السامرائي، رئيسه ومرشده السابق في الحزب.
كان الرئيس أحمد حسن البكر، في زيارة رسمية لكلٍّ من بولندا وبلغاريا، فحاكَ “السيد النائب” بمغزلٍ رفيع خطةً أصابَ فيها عصفورَين بحجرٍ واحد.
قبلَ عودةِ الرئيس البكر إلى بغداد من زيارتيه بوقتٍ قصير، أرسل إليه إشارةً يدعوهُ فيها إلى تأخيرِ عودته ثلاث ساعات، فأعدَّ له الرئيس البلغاري جولةً سياحية في مدينة “فارنا” على البحر الأسود لتمضيةِ تلك الساعات الثلاث. ثم أعلن في بغداد عن مؤامرة أعدها مدير الأمن العام ناظم كزار للقبض على الرئيس البكر فور وصوله الى المطار، أو تصفيته ونائبه صدام الذي سيجيءُ لاستقباله حسب البروتوكول، مما أثارَ موجةً من الملاحقات، اضطرَّ معها كزار إلى الهرب باتجاهِ الحدود الإيرانية، لكنه تمَّ اعتقاله قبل عبوره الحدود بعد قتله وزير الدفاع آنذاك حمَّاد شهاب.
حُوكِمَ ناظم كزار وجرى إعدامه، وتمت ملاحقة آخرين، من بينهم محمد فاضل، عضو القيادة القطرية، الذي أُعدِمَ هو الآخر في خضمِّ تلك الملابسات.
في تلك السانحة قرَّر صدام حسين تصفية عبد الخالق السامرائي بتُهمةِ ضلوعه بمؤامرة ناظم كزار وحكم عليه بالإعدام، واقتيدَ إلى سجن ” ابو غريب” لتنفيذ الحكم.
أثارَ ذلك زوبعةً من الاحتجاجات في لبنان تزعّمها كمال جنبلاط وقادة الفصائل الفلسطينية، فقد كان عبد الخالق السامرائي من الأعضاء البارزين في “الجبهة العربية المُسانِدة للثورة الفلسطينية”، ورشحه جنبلاط لتولي رئاستها. وتوالت الاحتجاجات أيضًا من زعماء وأحزاب سياسية في طول المنفسح العربي وعرضه. وتدخّلَ ميشال عفلق، طالباً من الرئيس البكر عدم التصديق على مرسومِ تنفيذِ الإعدام.
امتثلَ البكر، ولم يُوَقِّع المرسوم، وخفّفَ العقوبة إلى السجن المؤبد. رضي “السيد النائب” على مضض، واشترط أن يُوضَعَ في الانفراد طوال مدة سجنه.
كانت زنزانة عبد الخالق السامرائي تحت الأرض، لم يكن يعرف فيها إنْ كان الوقتُ نهارًا أم ليلًا… بعد ثلاث سنوات من السجن، سُمح لوالدته بزيارته، فسألها: ” نحن في النهار أم في الليل، في أيِّ يوم، وأيِّ شهر، وأيِّ سنة؟”
بعدَ سَجنِ عبد الخالق السامرائي، أصبح مكتب الثقافة والإعلام في قبضة صدام حسين، وأهمّيةُ هذا المركز، ليس أنه يمنح “السيد النائب” بُعدًا ثقافيًا، هو بحاجة ماسَّة إليه فحسب، بل لأنه المؤسّسة التي يستطيع من خلالها أن يُراقِبَ نشاطَ مكتب العلاقات الذي صار يُسمى “المخابرات العامة”.
ومن خلال المراكز الثقافية، ومكاتب الجرائد والمجلات، وبجهود الصحافيين العرب، وأكثرهم من المصريين، ارتفعَ ستارٌ حاجبٌ لمشاهد البطشِ والقمعِ والتعذيبِ والقتل عن الرأي العام العربي والدولي. وراحَ هؤلاء يُصَوِّرون “السيد النائب” على أنه الفارس الشهم، الهمّام، المغوار، والبلاد على عهده أصبحت موئلًا وملاذًا، وواحة أمن وأمان واستقرار وازدهار!
لم يكتفِ صدام حسين بسجنِ وإذلالِ عبد الخالق السامرائي، ولم يُثنهِ ذلك عن عزمه التخلّص منه، فانتظرَ ستَّ سنوات أخرى، حتى حانت “المؤامرة الكبرى”، التي أدت الى مجزرة “دار الخلد”، فأدخله في لائحة المتآمرين من القياديين للحزب في العراق، وأنزل به حُكم الإعدام، يوم لم يكن له شفيع، لأن صدام حسين صار رئيسًا للجمهورية.
في 8 من آب/ أغسطس سنة 1979، دخل زنزانة عبد الخالق السامرائي ثلة من الحراس، اقتادوه الى ساحة مجاورة للقصر الجمهوري، حيث نفَّذ اثنان من أقاربه حكم الإعدام به رمياً بالرصاص.
فلقد كان صدام اتّخذ قرارًا، وافقت عليه القيادة القطرية، بأن يُكَلَّفَ أقرباءُ المحكوم عليه تنفيذ الحكم، فكانت تلك ظاهرة فريدة من نوعها في العالم، سمُّوها “القتل برصاص العشيرة”!
***
كثيرًا، في تلك الأيام، ما كُنتُ ألتقي صلاح عمر العلي، الساكن في شقةٍ مجاورةٍ لبيتي في “الروشة”، وتنزل على الكلام بيننا أمور السياسة في العراق، والعلاقة المُلتبسة بين الرئيس البكر ونائبه، فقال لي مرة: “إن البكر يخافُ من صدام!”.
ومن الطبيعي الافتراض، أنَّ الرئيس البكر أيضًا، بسبب تلك الملابسات، بات هو الآخر يتحيَّنُ الفُرَصَ لإزاحة صدام حسين، وإعادة النظر في طريقةِ تكوينِ السلطة حتى لا تتكرر تلك العلاقة المُلتَبسة بين الرئيس ونائبه.
من بدايةِ وصوله إلى منصبِ نائب الرئيس، حاول صدام حسين، أن يُظهِرَ نفسه بصورةٍ جديدة، ومن هنا اهتمامه بالإعلام. صار يتأنّى في حديثه، ويهتمُّ كثيرًا بمظهره الخارجي من حيث المبالغة في الأناقة، وكأنه يُقدّمُ صورته الجديدة مثالًا للرجل العراقي، فصارَ كثيرون من البعثيين يُقلّدونه، وكذلك بعض الرجال العراقيين، فصارَ مظهرُ صدام حسين وعاداته في بغداد “موضة”، وكأن ذلك ضمن برنامجه بصفته “المُرَبّي”. وربما أرادَ أن يَظهرَ بصورةٍ جديدة أمام العالم الخارجي.
في مرحلةٍ لاحقة، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكنتُ في رئاسة تحرير جريدة “بيروت” التابعة لحزب البعث اللبناني، كانت تصلني نشرات للقيادات الحزبية، تتضمّنُ فحوى أحاديث صدام حسين مع شخصياتٍ عالمية زارت بغداد في تلك الأيام. وعندما استقلت من الجريدة مطلع العام 1976، تركتُ في درج مكتبي نشرتَين: واحدة تتضمّنُ حديثَ صدام مع المصرفي الأميركي المعروف دايفيد روكفلر، وأُخرى حديثه مع رئيس وزراء بنغلاديش مجيب الرحمن.
تلك النشرات كانت تتضمن فقط ما كان يقوله صدام لضيوفه، ولم تصدر نشرة تتضمّن ما يقوله الضيف في القضايا المطروحة للنقاش، سوى عبارات المُجامَلة والتبجيل، فكأنَ الهدف منها “تبليغي” للضيوف، و”تربوي” للحزبيين، و”إعلامي” للصحافيين والمروِّجين في أجهزة الإعلام الموالية.
كان من الملفت حديث صدام حسين مع مجيب الرحمن، فكأنه يُلقي عليه درسًا في أصول الحكم، بعد حربٍ أهلية بين شطري باكستان، وحرب هندية–باكستانية انتصرت فيها الهند. فقد قال له: “إنه لن يفيدك أن تترك الأبواب مُشَرَّعة لخصومك، لأنهم سوف ينقلبون عليك، فتخسر السلطة”. وقال له إنَّ الوقت ليس لصالحه، وسوف يخسر الحكم، وربما حياته، إذا لم يبادر الى ملاحقة خصومه وتركيز السلطة الفعلية في يده من دون منازع.
وبالفعل، بدأ مجيب الرحمن يعمل بهذه “النصيحة”، فأعلن حالة الطوارئ، وعلَّق الدستور، وحلَّ جميع الأحزاب السياسية، وأعلن نفسه رئيسًا للجمهورية، وفرض الرقابة على الصحف، وحصر جميع السلطات بين يديه. لكن الوقت داهمه، وكذلك الجيش، الذي انقلب عليه بعد أقل من ثمانية أشهر على ذلك، فقامت مجموعة من الضباط بقتله مع عدد من أفراد عائلته، كما توقَّعَ له صدام حسين!
***
كانت العلاقات بين بغداد وواشنطن ما زالت مقطوعة منذ حرب حزيران (يونيو) 1967، عندما قرر المصرفي الأميركي المعروف دايفيد روكفلر زيارة بغداد لمدة 24 ساعة فقط، بتكليف من هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، غايتها مقابلة صدام حسين وإبلاغه رسالة من كيسنجر.
على الرُغمِ من انقطاعِ العلاقات الأميركية–العراقية في ذلك الوقت، أبقى بنك روكفلر علاقة مراسلة مع البنك المركزي العراقي. وبسبب ذلك حصل روكفلر على تأشيرةِ دخولٍ الى بغداد بمعونةٍ من مدير “مصرف الرافدين”. ويبدو أن ما شجَّع كيسنجر على محاولةِ الاتصال بصدام حسين، عبر روكفلر، ما قاله نائب الرئيس العراقي لطلال سلمان في مجلة “الصياد”: “لسنا ضدّ الحلّ السلمي بالمطلق”!
يقول روكفلر في كتاب مذكراته الصادر في العام 2002 عن “راندوم هاوس” في نيويورك: “طلبتُ مقابلة وزير الخارجية سعدون حمادي، الذي كان يتكلّم الانكليزية بشكلٍ جيد، على الرُغمِ من أنه كان عدائيًا معي منذ لحظة دخولي مكتبه، وازداد جفاؤه بعد أن قلتُ له إنني جئتُ بطلبٍ من كيسنجر، حاملًا رسالة لصدام حسين. وكان ردُّهُ أنَّ الأمرَ مستحيل. فقلتُ إنني باقٍ 24 ساعة في بغداد وجاهز للمقابلة في أيِّ لحظةٍ من الليل أو النهار. طلبَ حمادي الرسالة فاعتذرت عن تسليمها إليه.
في المساءِ نفسه، قبل خروجي إلى دعوةِ عشاءٍ من مصرف الرافدين، أخبروني أنَّ نائبَ الرئيس سيستقبلني في التاسعة في مكتبه.
لما وصلتُ إلى هناك أدخلوني إلى غرفةٍ صغيرةٍ قليلة الأثاث من دون نوافذ، حيّاني صدام حسين بلُطف، فتحادثنا لأكثر من ساعة، عبرَ مُترجم. وعلى الرُغمِ من عدم وجودِ غيرنا في الغرفة، فإنَّ تقريرًا عن الزيارة ظهر بعد أيام في صحيفة “النهار” البيروتية”!
يَجزُم روكفلر أنه لم يصدر عنه أيُّ تصريح بهذا الخصوص لأحد. وبالتالي، فإنَّ المصادرَ العراقية هي التي سرّبت الخبر إلى “النهار”، مما يؤكّد أن ذلك حصل بالطريقة ذاتها التي تسرَّب فيه للجريدة نفسها، الخبر الاستفهامي حول زيارة صدام حسين السرّية الى بيروت في أعقاب انسحاب الجيش العراقي من الأردن في العام 1970، كما مرَّ معنا.
شرَحَ روكفلر لصدّام أنَّ هنري كيسنجر يعتقد أنَّ من مصلحة البلدين إقامة حوار بينهما. فردَّ صدام مُشيرًا إلى الباب الذي دخل منه الزائر وقال: “هذا الباب يُمكِنُ أن ينفرجَ قليلًا إذا تحقّقَ شرطان: أولًا أن توقف أميركا تزويد إسرائيل بسلاحٍ يُمكن أن يُستَعمل ضد العراق، وأن تلعبَ دورًا حاسمًا في الاقرار بحقوق الشعب الفلسطيني. وثانيًا، أن تتوقف عن بيع السلاح إلى إيران، أو أن تشترط على الأقل، ألّاَ تقوم إيران باستخدام سلاحها ضد العراق والأمة العربية”.
أضاف “السيد النائب” أنه لا أملَ في إعادة العلاقات مع واشنطن طالما استمرّ شاه إيران في تسليح المتمرّدين الأكراد. لكن هذه العقبة زالت بعد أشهرٍ قليلة إذ تحسنت العلاقات مع إيران. أما قضية حرمان إسرائيل من السلاح الأميركي فلم تكن قابلة للمناقشة.
يَتّضح من هذا الكلام، أنَّ الولايات المتحدة هي التي عملت لمصالحة شاه إيران مع صدام حسين، فقطع الشاه المساعدات إلى المتمردين الأكراد آنذاك، فانهارَ التمرّد الكردي، واستقبلت واشنطن قائد التمرّد الملا مصطفى البارزاني لاجئًا لديها!
(في الحلقة الثامنة يوم الأربعاء المقبل: “الرئيس”).
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.