في غيابِ الحلول، قَيس سعَيِّد يبحثُ عن كبشِ فداء

يقول صحافي ومُحلّل سياسي تونسي طلب عدم الكشف عن هويته بسبب القمع المستمر: “لا يقتصرُ الأمرُ على أنَّ قيس سعَيِّد يتلقّى نصائح سيِّئة للغاية، لكنه لا يثق بأحد. إنهُ يعيشُ في برجٍ عاجي ويعتقدُ أنه لا يوجد أشخاصٌ أكفّاء لتنفيذ سياساته”.

معارضون للرئيس قيس سعيِّد يتظاهرون رغم معرفتهم المُسبَقة بأنّ معظمهم سيدخل السجن جراء ذلك.

فرانسيسكو سيرانو*

في أواخر أيار (مايو)، تَصَدَّرَ الرئيس التونسي قَيس سعَيِّد عناوينَ الأخبارِ مرّةً أخرى بسببِ شخصيته الغريبة وقراراته التي لا يُمكِنُ التنبُّؤ بها: فقد أقالَ اثنين من وزرائه فجأةً ومن دونِ سابقِ إنذار.

هذه المرّة، سقطت المطرقة على وزير الداخلية كمال الفقي ووزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي، وهما من حلفاء سعَيِّد المُقَرَّبين. وكما في المناسبات السابقة، لم يُقدِّم مكتبُ الرئيس أيَّ مُبَرِّراتٍ للإقالتين.

جاءت الإقالتان الأخيرتان في وقتٍ تتصاعدُ التوتُّرات السياسية في تونس. لقد واصلَ نظامُ سعَيِّد الاستبدادي اعتقالَ المُنتقِدين وشخصيات المعارضة، حتى أنّهُ واجهَ احتجاجاتٍ في شوارع العاصمة تونس في أيار (مايو) جرّاء ذلك.

مع ذلك، أصبحت عملياتُ الفَصلِ والطَردِ غير المُتَوَقَّعة للمسؤولين الحكوميين شائعةً جدًا في عهدِ سعَيِّد لدرجةٍ أنهُ باتَ من الصعبِ فَهمُ ما تَعنيهِ فعليًا عند حدوثها.

منذُ صيفِ 2021، عندما بدأَ تركيزَ السلطاتِ في الرئاسة عبر انقلابٍ دستوري، أقالَ سعَيِّد ما يقربُ من 80 مسؤولًا حكوميًا، من بينهم رئيسان للوزراء، و20 وزيرًا، و14 واليًا إقليميًا، والعديد من مديري الشركات العامة ومجموعة كبيرة أخرى من الموظفين العموميين.

على الرُغمِ من التعتيمِ الإعلامي الذي يُصاحِبُ معظم هذه التغييرات الحكومية، يبدو أنّها تُشيرُ إلى شعورٍ عام بانعدام الهدفِ وعدم وجود التوجيه في قمّة النظامِ التونسي.

ورُغمَ كلِّ تبجّحهِ ووعودهِ بـ”استئصال الفساد” و”إنقاذ تونس”، فإنَّ سعَيِّد ليس لديه الكثير ليُقَدِّمه لحُكمِه. تمَّ انتخابُ الحقوقي وأستاذ القانون البالغ من العمر 66 عامًا رئيسًا للجمهورية في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 بعد ترشّحه كمُستَقلٍ من خارج النظام وتصوير نفسه على أنه الشخصُ الوحيد الذي يُمكِنهُ ترويض الديموقراطية البرلمانية الفوضوية في تونس.

مع ذلك، فإنَّ الطريقةَ الوحيدة التي نجحَ بها في تغيير البلاد بشكلٍ ملحوظ كانت من خلالِ دفعها بشكلٍ لا هوادة فيه نحو الاستبداد. في تموز (يوليو) 2021، مُستَغِلًّا الاحتجاجات الشعبية الناجمة عن الأزمة الاقتصادية المُستَمِرّة وتفاقُمِ جائحة كوفيد-19، قامَ سعَيِّد بحلِّ البرلمان. ومنذ ذلك الحين، عزّزَ صلاحياته، وسجَنَ مُنتقديه وزعماء المعارضة، ويبدو أنه رفضَ استشارةِ آراءِ أي شخص آخر في إدارة شؤون الدولة.

يتمُّ الآن اعتقالُ الصحافيين والناشطين الذين ينتقدون الحكومة بشكلٍ روتيني وإيداعهم السجن. وقد وُجِّهَت إلى معظمهم تُهَمٌ بموجب المرسوم 54، وهو قانون أصدره سعَيِّد في العام 2022 يُجَرِّمُ نشرَ “أخبارٍ كاذبة”، ويُعاقَب المُتّهم بموجبه بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات.

ومن المُثيرِ للسخرية كما يبدو الآن، أنَّ سعَيِّد شاركَ في حياته السابقة كباحثٍ قانوني في صياغةِ دستور تونس لعام 2014، بعد ثلاث سنوات من الاحتجاجات التي أطاحت الديكتاتور السابق زين العابدين بن علي. وعلى الرُغم من أنها كانت مُعيبة، فقد بلورت الوثيقة الكثير من الانفتاح السياسي الذي أعقب ثورة 2011.

لكن كرئيسٍ للجمهورية، كان سعَيِّد مشغولًا بتفكيك الديموقراطية التونسية، حتى عندما كانَ يتستّرُ بشكلٍ روتيني على سوءِ إدارته من خلالِ ملاحقاتٍ قضائية رفيعة المستوى لمُنتقديه. وبعد أن حَكَمَ بمرسومٍ رئاسي لمدّةِ عامٍ بعدَ حلِّ البرلمان، طرح دستورًا جديدًا لاستفتاءٍ زائف في تموز (يوليو) 2022، حيث تمّت الموافقة على الوثيقة بنسبة 94 في المئة من الأصوات. ولتصويرِ ذلك على أنهُ انتصارٌ، كانَ سعَيِّد وأنصاره سُعداء بتجاهُلِ حقيقةِ أنَّ أكثر من 70 في المئة من الناخبين التونسيين قاطعوا الانتخابات. وكانت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الأولى بموجب الدستور الجديد في كانون الأول (ديسمبر) 2022 أسوأ من ذلك: إذ لم يُكَلِّف سوى 11% من الناخبين عناء الإدلاء بأصواتهم.

بين عمليتَي الاقتراع، في أيلول (سبتمبر) 2022، وَقَّعَ سعَيِّد على المرسوم 54 ليصبح قانونًا. ومنذ ذلك الحين، استخدمه نظامه لمُلاحَقة أكثر من 60 صحافيًا ومحاميًا وناشطًا.

على هذه الخلفية من القمعِ المُتزايد والأزمة الاقتصادية المُستمرّة، يبدو أنَّ مُعدَّل الدوران والطرد المُرتفع في الحكومة وإدارة الدولة في تونس هو الطريقة المثالية لسعَيِّد للعثورِ على كِبشِ فداء لافتقارهِ إلى حلولٍ لمشاكل البلاد. لكنه يشيرُ أيضًا إلى عزلته المتزايدة، حتى مع عدم الكشف عن استراتيجيته الحقيقية لتونس.

في كلِّ مرّة يلتقي فيها مسؤولين حكوميين أو أعضاء في إدارة البلاد، تنشرُ وسائل الإعلام المحلّية صورًا مصحوبة بقصّة مُتَمَلِّقة وتافهة حول ما تمّت مناقشته. مع ذلك، في كل صورة من هذه الصور، يبدو سعَيِّد وكأنه يُلقي مُحاضرةً في فصلٍ دراسي، بدلًا من مناقشة السياسة مع مسؤولين حكوميين.

يقول صحافي ومُحلّل سياسي تونسي طلبَ عدمِ الكشفِ عن هويته بسببِ القَمعِ المُستَمرّ: “لا يقتصرُ الأمرُ على أنَّ قيس سعَيِّد يتلقّى نصائح سيِّئة للغاية، لكنه لا يثق بأحد. إنهُ يعيشُ في بُرجٍ عاجيٍّ ويعتقدُ أنه لا يوجدُ أشخاصٌ أكفّاء لتنفيذ سياساته”.

منذُ وصوله إلى السلطة، وخصوصًا بعدَ قيامِهِ بحَلِّ البرلمان لتركيزِ السيطرة في الرئاسة، يتحدّثُ سعَيِّد بشكلٍ مُتزايد عن نفسه باعتباره الرجل الذي يملك كلّ الحلول. لكنه حتى الآن لم يتمكّن من تحقيق استقرارِ اقتصاد البلاد أو سياساتها.

لا يزالُ العديدُ من التونسيين ينسبون الفضل إلى نظام سعَيِّد لملاحقته لرجال الأعمال ذوي النفوذ المُتَّهَمين بالفساد. لكن في مناخٍ يَسهُلُ فيه استهدافُ أيِّ أصواتٍ معارضة من قبل السلطات من خلال نظامٍ قضائي مَرِنٍ وطَيِّع، غالبًا ما يكونُ من الصعب التمييز بين الجهود المشروعة لمكافحة الفساد والاضطهاد السياسي.

ويبدو الآن أنَّ العديدَ من قرارات الرئيس للحُكمِ يتمُّ اتخاذها وإصدارها في وقتٍ متأخّرٍ من الليل ومن دونِ أيِّ تفسيرٍ حقيقي. ومع عدم رغبته بشكلٍ متزايد في مخاطبة التونسيين علنًا، سيهرع سعَيِّد مع ذلك ويختلق مشكلة أو أزمة إذا اكتسبت القضية زخمًا على وسائل التواصل الاجتماعي. وهناك، سوف يوبّخُ بشكلٍ عام المسؤولين الحكوميين أو يشتكي من بطء الإدارة التي يرأسها منذ سنوات.

لن يتفاقَمَ السياقُ الحالي إلّا بسبب حالةِ عدمِ اليقين الُمحيطة بالانتخابات الرئاسية المقبلة. من المُقرَّر أن تنتهي ولاية سعَيِّد الرئاسية في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. لكن على الرُغم من أنَّ الانتخابات ستُجرى في وقت ما قبل ذلك في الخريف، إلّا أنّهُ لم يتم الإعلان عن موعدٍ بعد.

يُمكِنُ لسعَيِّد أن يُجادِلَ بأنَّ ولايته الرئاسية لم تبدأ فعليًا إلّا في تموز (يوليو) 2022، بعد الموافقة على الدستور الجديد. لذلك قد ينتهي به الأمر إلى إلغاء الانتخابات هذا العام تمامًا، مما يدفع تونس إلى مزيد من التدهور الدستوري. على أيِّ حال، سواءَ قرّرَ تجاوز الاقتراع أو إدارة الانتخابات لمنح نفسه فترة ولاية أخرى من دون السماح بإجراء انتخابات حرّة ونزيهة، يُمكنُ للتونسيين أن يتوقّعوا زيادة حالة عدم اليقين. ومع تفاقُم الوضع السياسي والاقتصادي سوءًا، فمن المرجّح أن تكونَ لدى المزيد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين فتراتٌ قصيرة وغير مُنتَظِمة في مناصبهم.

في فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ بما فيه الكفاية، تنتهي جميع الأنظمة الاستبدادية. لكن في تونس، من المرجح أن لن يعود بمقدور سعَيِّد أن يجدَ الأشخاص الذين يمكن توظيفهم قبل وقت طويل من انتهاء فترة وجوده في السلطة. من المرجح أن يجعل هذا الأمر اتخاذ قراراته أكثر اضطرابًا ولا يمكن التنبؤ بها.

حتى ذلك الحين، يُمكِنُ لأيِّ مسؤولٍ يقبلُ العملَ في حكومته أن يتأكّدَ من أمرَين: عدم الاستقرار الوظيفي ومكانته في التاريخ كأحد العوامل التي ساعدت على عودة تونس إلى الاستبداد.

  • فرانسيسكو سيرانو هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي برتغالي. يُركّز أبحاثه على شمال أفريقيا والشرق الأوسط الكبير وأميركا اللاتينية. ألّفَ كتبًا عدة آخرها في العام 2022 حول الشرق الأوسط في العقد الذي أعقب الثورات الشعبية في العام 2011 بعنوان “أنقاض العقد” (As Ruínas da Década).
  • كٌتِبَ هذا التحقيق بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى