لماذا الوِحدَةُ الفلسطينية مُهِمّةٌ وتَعني الكثير؟

لن يكونَ هناك أيٌّ “يومٍ تالٍ” من دون توحيد فلسطين أوّلًا. إنَّ المفتاحَ لمعالجة كل الحقائق المُزعِجة يَكمُنُ في إعادة توحيد غزة مع الضفة الغربية في ظلِّ السلطة الفلسطينية.

هذا الدمار مَن يُزيله ويُعيد البناء إذا لم يتوحّد الفلسطينيون؟

سلام فيَّاض*

في العاشرِ من حزيران (يونيو)، وبغالبيةٍ ساحقة، تبنّى مجلس الأمن الدولي خطّةَ الرئيس الأميركي جو بايدن لإنهاءِ الحرب الدائرة في قطاع غزة. تدعو الخطّة إلى وَقفِ القتال وتبادُلِ الرهائن والأسرى بين إسرائيل وحركة “حماس”، وتوسيع المساعدات الإنسانية، ومن ثمَّ إنهاء الحرب بشكلٍ دائم.

لكن، على الرُغمِ من الخسائرِ الفادحة في الأرواح والدمار والبؤس، التي تَعجَزُ الكلماتُ عن وصفها والتي سبّبها وأحدثها الصراع، فإنَّ هناكَ القليل من اليقين بشأنِ كيفيةِ تَنفيذِ خطّة بايدن. وحتى لو صمتت الأسلحة، فإنَّ تنفيذَ هذا الاقتراح سوفَ يكون مليئًا بالصعوبات والمَطبّات. منذُ الأيام الأولى للحرب، لم تُبدِ الحكومة الإسرائيلية اهتمامًا كبيرًا بوَقفِ هجماتها ما لم تتمكّن من تحقيقِ “النصرِ الكامل”، وهو مفهومٌ مائع –على الرُغمِ من تخفيفه عن تعريفه الأولي، أي القضاء على “حماس” وتدميرها بالكامل- يظل أمرًا بعيدًا من متناول إسرائيل. لا يوجد حتى الآن إجماعٌ حول كيفية حُكم غزة بعد الحرب. في الواقع، أصبحَ هدفُ ضمان وقف إطلاق النار الذي يمكن أن يُمهِّدَ الطريق لتهدئةٍ مُستدامة بعيد المنال بشكلٍ متزايد.

يُمكِنُ القول إنَّ السببَ وراء هذا المسار السلبي بالتأكيد لم يَكُن الجهلُ بحقائقِ الوَضعِ بقَدرِ ما كانَ التردّدُ في مواجهتها أو إعطاء الأولوِيّةِ لها. يجبُ أن يتغيَّرَ ذلك. وكما قلتُ في “فورين أفّيرز” و”أسواق العرب” في الخريف الفائت، يتعيَّنُ على قيادةِ الحركة الوطنية الفلسطينية أن تَتَحِدَ تحتَ راية منظمة التحرير الفلسطينية. وللقيامِ بذلك، يتعيَّنُ على منظمة التحرير الفلسطينية أن تقبلَ انضمام “حماس”، فضلًا عن الفصائل المهمّة الأخرى، إلى عضويتها. إنَّ القيامَ بذلك أمرٌ أساس لتَمكينِ السلطة الفلسطينية من الاضطلاع بدورِها الصحيح في حُكمِ كُلٍّ من غزة والضفة الغربية – بما يتوافَقُ مع تفويضِ السلطة الفلسطينية عند إنشائها في العام 1994.

في قرارِ مجلس الأمن الدولي، اتَّخذَت القوى العظمى في العالم الخطوة الأولى نحو قبولِ هذه الرؤية. بالإضافة إلى الدعوة إلى إنهاءِ القتال، أكَّدَ القرارُ على “أهمّية توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية تحت قيادة السلطة الفلسطينية”. لكن الإقرارَ هو مجرّدُ خطوةٍ أولى. ينبغي لهذه القوى الآن أن تُحقّقَ حلّها من خلالِ دعم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في محاولتها توحيد النظام السياسي الفلسطيني.

حقائق غير مُريحة

“حماس” باقية ولن ترحل. عندما يصلُ ما يُسَمّى ب”اليوم التالي” إلى غزة، فإنَّ “حماس” ستكون ما زالت موجودة. الواقعُ أنَّ “حماس”، بعد أن نجت من وطأة القوة العسكرية الإسرائيلية في الجيب الذي استغرقت إسرائيل بضع ساعات فقط للاستيلاء عليه في العام 1967، سوفَ تَدّعي وتزعمُ بكلِّ مصداقية أنها مُنتَصِرة. إنَّ الشعورَ بأنَّ الحركة ستنتصرُ قد أدّى إلى تهدئة الأصوات المُعارضة، خصوصًا في غزة. فقد مَكَّنَ الحركة الإسلامية من الصمود وكَبحِ أيِّ شكوكٍ حول قرارها بمهاجمة إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

على النقيضِ من ذلك، سوفَ تَجِدُ إسرائيل صعوبةً في الادِّعاء بأنها انتصرت. إنَّ البلادَ قد فشلت في تحقيق معظم، إن لم يكُن كل، أهداف الحرب المُعلَنة. وحتى أبسط صياغة لهذه الأهداف –على وجهِ التحديد، القضاء على “حماس” وإزالتها من الحكومة– تبدو بعيدة المنال. كانت “حماس” القوّة السياسية الأكثر هَيمنةً في غزة قبل تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ولا تزال كذلك حتى اليوم. وقد تُوافِقُ الحركة على فَصلِ نفسها عن حُكمِ غزة، لكن لا يُمكِنُ عزلها بالقوّة من الحكومة. الواقع أنَّ الوجودَ المؤسّسي ل”حماس”، بما في ذلك شرطة غزة، من المرجح أن يُشَكِّلَ جُزءًا لا يتجزّأ من واقع ما بعد الحرب. وهذا، بطبيعة الحال، لا يعني ضمنًا أنَّ “حماس” سوفَ تكونُ قادرةً على التعامُلِ مع المهمّة الهائلة المُتمثّلة في إعادة بناء غزة – وهي حقيقةٌ مُزعجة بالنسبة إلى “حماس”.

بدلًا من تحقيقِ النصر، أدخلت إسرائيل نفسها في حربٍ لا نهاية لها. لا يُمكنها تحقيق أهدافها من دون أن تتكبَّدَ المزيدَ من الضرّر، وربما لا يُمكِنُ إصلاحه، لسمعتها الدولية بسبب الدمار الهائل والعشوائي في كثيرٍ من الأحيان للحياة وسُبُلِ العيش في غزة. إنَّ الاستمرارَ في الردِّ على اتهاماتِ جرائم الحرب ذات المصداقية من خلال التأكيد ببساطة على أنَّ الدافِعَ وراء هذه الاتهامات هو مُعاداةُ السامية لن يفعلَ الكثير لتعزيز مكانة إسرائيل. في الواقع، يمكن أن يؤدّي هذا الردّ بالناس إلى التقليل بشكلٍ خطير من آفة واشمئزاز مُعاداة السامية الحقيقية.

في غضونِ ذلك، سوفَ تكتسبُ “حماس” قدرًا أكبر من المصداقية داخل كلٍّ من غزة والضفة الغربية. إذا لم تَكُن قد فعلت ذلك أصلًا، فمن المرجح أن ينتهي الأمر بالجماعة الإسلامية إلى إبعادِ عباءة التمثيل الفلسطيني عن منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت المنظمة تُعاني أصلًا من فشلِ نموذج أوسلو في أن يؤدي إلى التمكين الذاتي، وكذلك من فشلها في تقديم الحُكم الرشيد والفعّال، عندما اندلعت الحرب. إنَّ الموقفَ السلبي والتفاعُلي إلى حدٍّ كبير الذي اتخذته المنظمة تجاه الحرب قد أدّى إلى إضعافها أكثر.

ولعلَّ الأمرَ الأكثر أهمية هو فشل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في توسيع صفوفها لتشمل جميع الفصائل والحركات السياسية الفلسطينية المهمّة، وخصوصًا “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. وأعرب كلا الفصيلين عن اهتمامهما بمثل هذا التوسّع. كما أعربا عن دعمهما لفكرة وجودِ حكومةٍ توافقية، غير مُكوَّنة من فصائل، تُديرُ كُلًا من غزة والضفة الغربية لفترةٍ انتقالية متعددة السنوات تنتهي بإجراءِ انتخاباتٍ وطنية.

يُريدُ بعضُ المُحَلّلين وصنّاع القرار تَجاهُلَ “حماس” والتركيز ببساطة على إصلاح السلطة الفلسطينية حتى تتمكّن من الاضطلاع بسلطتها في غزة. ولكن النظام السياسي الفلسطيني، بما في ذلك “حماس”، لا بُدَّ أن يكونَ مُتَّحِدًا من أجل منح السلطة الفلسطينية السلطة السياسية والشرعية التي تحتاجها للحكم. تحتاجُ السلطة أيضًا إلى ترقية قدرتها على الحكم. مع ذلك، أوّلًا وقبل كل شيء، تحتاج السلطة الفلسطينية إلى تأمين الإجماع الوطني الفلسطيني الضروري لتتمكّن من الاضطلاع بدورها ومسؤولياتها في غزة ما بعد الحرب.

خبراءٌ آخرون يريدون تجاوزَ السلطة الفلسطينية بالكامل والتوصُّلَ بدلًا من ذلك إلى ترتيباتٍ حكومية مُختلفة لغزة. لكن لا يوجدُ بديلٌ واقعيٌّ وموثوقٌ من السلطة الفلسطينية. إنَّ الفكرةَ القائلة بأنَّ الحُكمَ في غزة يُمكنُ أن يتمَّ التعاملُ معه بشكلٍ انتقالي من قبل إدارةٍ مُتعدّدة الجنسيات، تدعمها قوة عسكرية خارجية، قبل تسليم المنطقة إلى إدارةٍ فلسطينية محلّية جديدة، فكرةٌ ساذجة في أحسن الأحوال وخطيرة في أسوَإِ الأحوال. من الصعبِ التَصَوَّر أنَّ أيَّ دولةٍ قد تكون على استعدادِ لنشر قواتها في غزة من دون دعوةٍ رسميةٍ من قِبَلِ كيانٍ سياسي فلسطيني مُوَحَّد يضمُّ “حماس”، أو على الأقل بموافقة “حماس”. وحتى لو كانت الدولة مستعدة لقبول مثل هذه الدعوة، فإنَّ إبقاءَ غزة مُنفَصِلة سياسيًا عن الضفة الغربية –وهو أمرٌ قد ينتهي إلى أن لا يكون انتقاليًا- من شأنه أن يزيدَ من تدهور المسار نحو إقامةِ دولةٍ فلسطينية.

الحَلُّ البديل

تحدّثَ العديدُ من صنّاعِ السياسات عن الحاجةِ إلى إحياءِ عمليةِ السلام، بهدفِ إقامةِ دولةٍ فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في العام 1967. كما تحدّث مسؤولون مرارًا وتكرارًا عن الحاجة إلى أن تكون هذه الجهود ذات مصداقية. وقد استخدم الزعماء العرب، على وجه الخصوص، عبارة “الطريق الذي لا رجعة فيه ولا عودةً  عنه إلى الدولة” للإشارة إلى أنَّ هذه الجهود يجب أن تكون جادة. لكن لكي يحصل الفلسطينيون على دولة، يتعيَّنُ على العالم أن يواجِهَ حقيقةً مفادها أنَّ جهوده سوف تلقى الرفض من قِبَل الحكومة الإسرائيلية، التي تُعارِضُ إقامة دولة فلسطينية من أيِّ نوع. بل إنَّ بعضَ كبارِ مسؤوليها عازمٌ على تدمير ما تبقّى من السلطة الفلسطينية.

إنَّ موقفَ إسرائيل المُتشَدّد لا يعني أنَّ العالمَ الأوسع يجب أن يتجنَّبَ التركيز على مسألة الدولة الفلسطينية بمجرّدِ إعلانِ وقف إطلاق النار. لا ينبغي. لكنَّ القيامَ بذلك سوف يستلزمُ على الأرجح العملَ حول إسرائيل وإيجاد بديلٍ من النهجِ المُتَجَسِّدِ في نموذجِ أوسلو – وهو النهج الذي يرتكز على تأمين الاعتراف الدولي، المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن الدولي، بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. ويشمل ذلك الحق في إقامة دولة ذات سيادة على كامل الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في العام 1967.

لكن لن يكونَ أيٌّ من هذا مُمكِنًا من دون توحيد فلسطين أوّلًا. والواقع أنَّ المفتاحَ إلى معالجة كل هذه الحقائق المُزعِجة يَكمُنُ في إعادة توحيد غزة مع الضفة الغربية في ظلِّ السلطة الفلسطينية. ولذلك فمن المُشَجّعِ أنَّ قرارَ مجلس الأمن أكّدَ على الحاجة إلى إعادة التوحيد هذه. ولكن من الضروري أن يعرفَ جميعُ الأطراف المعنية أنَّ السلطة الفلسطينية لن تكون قادرة على حُكمِ المنطقتين ما لم يَتَّحِد الكيان السياسي الفلسطيني أوّلًا. ويجب أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية أكثر شمولًا، ويتعيَّن على السلطة الفلسطينية أن تحكُمَ من خلالِ حكومةٍ تتمتع بصلاحياتٍ كاملة، وفقًا لأحكامِ قانونها الأساسي وبدعمٍ من إجماعٍ وطني واسع النطاق. ومن المُرَجّح أن يؤدي الفشل في القيام بذلك إلى أن تؤدّي غزة -التي يُطلَقُ عليها منذ فترة طويلة “أكبر سجن مفتوح في العالم”- إلى قضاءِ عقودٍ من الزمن كأكبرِ مخيَّمٍ في العالم. وينبغي أن تكون هذه النتيجة غير مقبولة على الإطلاق للجميع.

  • سلام فياض هو باحث كبير ومحاضر زائر في جامعة برينستون. وقد شغلَ من العام 2007 إلى العام 2013، منصب رئيس وزراء السلطة الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى