حُروبُ غزّة إلى أين؟
الدكتور ناصيف حتّي*
تَدُلُّ كافةُ المؤشِّراتِ على أنَّ الحربَ الإسرائيلية على غزّة التي دخلت شهرها التاسع مُستَمِرّة في التمدّدِ في الزمانِ والمكان، كما أشرنا إلى ذلك مرارًا منذ بداياتها. “الغَرَقُ” الإسرائيلي في “مستنقعِ غزّة” يتأكّدُ كلَّ يوم. أخيرًا نَفَّذَ كلٌّ من الوزيرَين في حكومةِ الحرب الإسرائيلية بيني غانتس وغادي إيزنكوت تهديدهما بالاستقالة بسببِ الخلافِ حولَ كيفيّةِ خدمةِ الأهدافِ الاستراتيجية للحرب، وعدم اتّخاذِ القراراتِ الضرورية الحاسمة، ودور العناصر الخارجية والسياسية في إفشالِ هذه الأهداف حسب غانتس وإيزنكوت. وهذا الأمرُ يفتحُ البابَ أمامَ تصاعُدِ الأزمةِ الحكومية الإسرائيلية التي كانت مُقَيَّدة، أو مُسيطَرًا عليها، لدرجةٍ مُعَيَّنةٍ بسبب الحرب القائمة. أزمةٌ قد تؤدّي مع الوقت، كما يُطالِبُ الوزيران المُستقيلان، إلى الذهابِ إلى انتخاباتٍ جديدةٍ لإعادةِ تشكيلِ السلطة فيما الحربُ دائرةٌ ومفتوحةٌ على التصعيد كما أشرنا.
والذي شجّعَ على استمرارِ السيطرة على الوَضعِ الحكومي، وهنا المفارقة، كانت الرغبة في عدمِ انفجارِ الحكومة وسقوطها طالما الحرب مُستَمرّة ومُتصاعدة. ويزيدُ من حدّةِ المأزقِ الذي تَجِدُ إسرائيل أنها تعيشُ في خضمّه الأزمة الاقتصادية الداخلية بأبعادِها وأوجُهِها المختلفة. محافظ بنك إسرائيل المركزي يُحذّرُ أنه كلّما طالت الحرب، وهي ستطولُ كما أشرنا، خفّت قدرة الاقتصاد على التحمّل. وهناك ثلاثةُ موشّرات أساسية إلى ذلك وهي: ازديادُ العجز في الموازنة العامة وازدياد الاقتراض والحاجة إليه وتخفيض الإنفاق.
إنَّ تراجُعَ النمو مع تراجُعِ حجم الاستثمارات وهروبها، وانخفاضَ التصديرِ كما تراجُع قطاعَي السياحة والزراعة، أضِف إلى ذلك ارتفاع تكاليف النزوح الداخلي، كُلُّها موشّرات إلى تفاقُمِ الأزمة التي تعيشها إسرائيل بسبب حربها المفتوحة وأهدافها العالية السقف وغير القابلة للتحقيق. إسرائيل اليوم صارت أسيرةَ هذه الأهداف بعد أشهرٍ ثمانية من هذه الحرب. أضف إلى ذلك تعثُّرَ مُبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي اعتبرها أنها مبادرة إسرائيلية بالأساس، رُغمَ أنَّ “الوثيقة الإسرائيلية” التي شكّلت “ورقة” الموقف الإسرائيلي للتفاوض غير المباشر مع حركة “حماس”، غير مُتطابقة مع مقترحات بايدن في أمورٍ أساسية. فالورقة لا تُشيرُ إلى وَقفِ إطلاقِ نارٍ كاملٍ ودائم، كما جاء في الأفكار التي طرحها الرئيس الأميركي، كما لا يبدو أن هناك أيَّ تغيّرٍ في الموقف الإسرائيلي الذي يودُّ إبقاءَ الإشراف أو السيطرة العسكرية والأمنية الإسرائيلية على القطاع وإحداثِ ترتيبات دولية إقليمية لإدارةِ القطاع بعد إخراجِ “حماس” من المعادلة كلّيًا، تحت هذا الإشراف. الموقف الإسرائلي ليس غريبًا إذ إنه يُشكّلُ نوعًا من الهروبِ إلى الأمام وشراء الوقت وانتظار الانتخابات الأميركية في الخريف المقبل التي قد تُغيّرُ المعادلة كُلِّيًّا، حسب الرأي السائد في الحكومة الإسرائيلية فيما لو عاد دونالد ترامب “الحليف الاستراتيجي” الأهم إلى البيت الأبيض.
نحنُ أمامَ مشهدٍ يُمكِن وصفه بالتالي:
أوّلًا، غيابُ أيّ تقدّمٍ فعلي على أرضِ المفاوضات بشأنِ غزّة.
ثانيًا، استمرارُ التصعيدِ في جنوب لبنان من دونِ الذهابِ إلى حَربٍ مفتوحة لا تستطيع إسرائيل الذهاب إليها فيما حربُ غزّة مستمرّة. أضف إلى ذلك الضغوطات أو الرسائل بهذا الخصوص من واشنطن والدول الصديقة لإسرائيل حول أهمّية “تخفيض القتال” على جبهة الجنوب، وكذلك قرار “حزب الله” بعدمِ الذهابِ إلى حربٍ مفتوحة، عناصرٌ ساهمت في ما يبدو أنه “تطوير” لقواعد الاشتباك التي كانت قائمة على الجبهة اللبنانية قبل حرب غزّة وحرب “وحدة الساحات”، من دون الذهاب إلى الحرب الكُلّية والتي تعني عمليًا غزو إسرائيلي جديد للبنان. الأمر الذي يعني إسقاطَ كافة هذه القواعد التي استقرّت واستمرّت منذ العام ٢٠٠٦ تحت عنوان التنفيذ التدريجي والمرن للقرار ١٧٠١ الصادر عن مجلس الأمن الدولي. لكن ذلك لا يلغي كُلّيًا إمكانية الانزلاق نحو حربٍ مفتوحةٍ على الجبهة اللبنانية.
ثالثًا ،هناكَ تحذيراتٌ تصدرُ عن بعضِ الأوساطِ الإسرائيلية من مخاطر حصول “طوفان أقصى جديد” في الضفة الغربية حيث يزدادُ الاحتقانُ وكذلك التوتر كما حصل أخيرًا مع اقتحامِ مدينتي جنين والخليل. أضف إلى ذلك المظاهرات التي قام بها المُتطرّفون في القدس الشرقية في إطارِ ما يُعرَفُ بالاحتفال السنوي بإعادةِ توحيد المدينة ومخاطر تطوّر الاعتداءات المُتَكرّرة على الأماكن المقدّسة الإسلامية وتحديدًا ما يجري حول المسجد الأقصى. كُلُّها عوامل تُشيرُ إلى احتمالِ فَتحِ “جبهةٍ ثالثة” في الضفة الغربية وذلك في إطارِ تسريعِ عملية تهويد الضفة الغربية في الديموغرافيا والجغرافيا كما حذّرنا مرارًا وتكرارًا .
السوال التالي يعودُ دائمًا للأذهان في ظلِّ التطوّراتِ الحاصلة والحاملة لمخاطر وتداعيات تطالُ الإقليم الشرق أوسطي كلّه، ولو بأشكالٍ مختلفة. سؤالٌ قوامه متى ستاتي اللحظة التي تشعر فيها القوى الدولية المؤثّرة والفاعلة والمَعنية بالاستقرار في المنطقة، الذي هو في مصلحتها، بضرورةِ بلورةِ موقفٍ حازمٍ وفاعلٍ لفرض وقف الحرب الإسرائيلية الدائرة؟ يكون ذلك من خلالِ فَرضِ وقف إطلاقِ نارٍ كُلّي ودائم، والعمل نحو إعادة إطلاق عملية سلام على أساس القرارت الدولية ذات الصلة ومبادرة السلام العربية. لن يكون ذلك بالأمرِ السهل بسبب السياسات الإسرائيلية وهيمنة اليمين الإسرائيلي المتشدّد في المجتمع. ولكنه ليس بالأمرِ المستحيل، رُغمَ العوائق الكثيرة أمامه، إذا ما توفّرت الإرادة والرؤيا بأنه السبيل الوحيد للخروج من حالة الحروب المتكرّرة بأشكالٍ ودرجاتٍ مختلفة والهُدَن المطوّلة التي تُهدّد الاستقرار وتزيد في أزمات المنطقة: تُوَظَّف في ازماتٍ قائمة كما تصنعُ الأرضية لأزماتٍ مقبلة .
ولا بدَّ من التذكير أنَّ بعدَ غزة، إذا ما توقّفَ القتال لا غير، لن يكونَ كما كانَ الوضع قبل غزة بسبب المُعطياتِ الجديدة التي خلقتها الحرب الإسرائيلية لتعيد وضع القضية الفلسطينية على رأسِ جدول التحدّيات الإقليمية الساخنة والقابلة للاشتعال .
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).