أردوغان الضعيف لا يزالُ يُمثِّلُ خبرًا سَيِّئًا للديموقراطية في تركيا

أظهرت الانتخابات البلدية التي جرت في آذار (مارس) في تركيا أن الانفتاح الديموقراطي في بلاد أتاتورك لا يزال مُمكنًا. لكن طريق العودة من الاستبداد لن يكونَ قصيرًا أو سهلًا.

رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو: فاز على أردوغان في عقر داره.

ميشال مظلوم*

إذا افترضنا أن حالته الصحية لا تزال جيدة وأنه لن يسحبَ أرنبًا من قُبّعته ــفي شكلِ مُراجعةٍ دستوريةــ لمنح نفسه فترة ولاية أخرى، فإنَّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيبقى في منصبه حتى العام 2028. مع ذلك، فإن وضعه السياسي يبدو أكثر هشاشةً اليوم من أيّ وقتٍ مضى منذ نجاته من محاولة انقلاب في العام 2016. لكن، من غير المرجح أن يؤدّي ضعف أردوغان الداخلي إلى أيِّ “اعتدالٍ” في سياساته. بل على العكس، فإنَّ الهزيمةَ السياسية التي تعرّضَ لها حزب العدالة والتنمية الحاكم في الانتخابات البلدية في آذار (مارس) من المرجح أن تسفرَ عن محاولاتٍ أكبر لتوطيدِ سلطته في الداخل وإظهارِ الحزمِ في الخارج، على الأقل في الأمد القريب.

هناكَ أربعةُ أسبابٍ على الأقل قد تكون أفقدت حزب العدالة والتنمية بريقه. أوّلًا وقبل كل شيء الاقتصاد التركي. لفترةٍ طويلة، أصرَّ أردوغان على منحِ أسعار فائدة منخفضة وإنفاقِ احتياطات البلاد الأجنبية كوسيلةٍ لتعويم الليرة. مع ذلك، منذ العام 2023، سمح على مضضٍ “تطبيع” السياسة الاقتصادية لتركيا بعد أن أجبرته مخاوف طفيفة في الانتخابات العامة في ذلك العام على خوضِ جولةِ إعادة ثانية. ورُغمَ أنه يبدو أنَّ هناكَ بعضَ التحسّنِ نتيجةً لذلك، فإنَّ فريقه من الإصلاحيين لا يستطيع فعل الكثير بشأن الفساد المُرتَبِط بشكلٍ منهجي بنظامِ المحسوبية لأردوغان. علاوةً على ذلك، ثبت أنَّ السيطرةَ على التضخّم أمرٌ بالغ الصعوبة، الأمر الذي أدّى إلى معاناةٍ صادمة للعديدِ من الأُسَرِ التركية.

ثانيًا، حَرصَ أردوغان على تركيزِ السيطرة حول نفسه لدرجةِ أنَّ الحزبَ الحاكم يبدو غير قادرٍ على رعايةِ وتقديم مُرَشَّحين مؤهّلين بما فيه الكفاية للحملات البلدية. على سبيل المثال، كانَ مُرشَّحُ حزب العدالة والتنمية لانتخابات رئيس بلدية إسطنبول، مراد كوروم، يفتقر إلى المؤهّلات والموهبة السياسية إلى حد كبير، حتى أنَّ زلّاته في حملته الإنتخابية أثارت لفترةٍ وجيزة ضجّة كبيرة على الإنترنت.

ثالثًا، على النقيضِ من حزب العدالة والتنمية، أظهرَ حزب الشعب الجمهوري المُعارض الرئيسي، حيويةً جديدة منذ فشله في الانتخابات العامة لعام 2023، وأظهر مرشحوه، وخصوصًا في المدن الكبرى، موهبةً حقيقية في الحملات الانتخابية وفي الحكم.

رابعًا وأخيرًا، بعضُ القاعدة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية لم يدعم مُرَشَّحي الحزب في هذه الانتخابات، فاختار إمّا اختيار الأحزاب الإسلامية الأكثر تشدّدًا مثل حزب الرفاه الجديد، أو البقاء في المنزل ببساطة. ويبدو أنَّ السببَ وراء ذلك ينبعُ من متاعب الاقتصاد التركي، ولكن أيضًا من الحرب في غزة، حيث على الرُغمِ من دَعمِ أردوغان العلني الصاخب ل”حماس”، فإن رفضه قبل الانتخابات قطع العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل أثار إدانةً كبيرة من المعارضة. وقد يفسر هذا القرار الذي اتخذته الحكومة بعد الانتخابات بتعليق الواردات والصادرات مع إسرائيل طوال مدة الصراع.

على النقيضِ من العام 2019، عندما استجابت الحكومة المركزية للنكساتِ في الانتخابات البلدية من خلال عمليات تطهير واسعة النطاق لأحزاب المعارضة التي أطاحت العشرات من رؤساء البلديات، خصوصًا في المناطق ذات الأغلبية الكردية، لم يستخدم أردوغان حتى الآن المحاكم كسلاحٍ ضدّ رؤساءِ البلديات المُعارضين الفائزين بالطريقة نفسها. في “هكاري”، تمَّ في الواقع استبدالُ رئيس البلدية الفائز المُنتَمي إلى حزب المساواة وديموقراطية الشعوب المؤيّد للأكراد بوصيٍّ مُعَيَّن من قبل الدولة في الثالث من حزيران (يونيو). ولكن على النقيض من ذلك، في مدينة “فان” الشرقية ذات الأغلبية الكردية، قام المجلس الأعلى الانتخابي –المؤلّف بالكامل تقريبًا من المُعَيَّنين من قبل أردوغان- بإلغاءِ انتخاب عبد الله زيدان لفترة وجيزة، وهو مرشحٌ آخر لحزب المساواة وديموقراطية الشعوب. ولكن في مواجهة الاحتجاجات الحاشدة، تراجعت الحكومة في نهاية المطاف، وقررت على ما يبدو أنَّ تكلفة الاحتفاظ بالسيطرة على المدينة كانت باهظة للغاية.

على نحوٍ مُماثل، لا تزال دعوى قضائية تُهدّدُ من الناحية النظرية ولاية رئيس بلدية إسطنبول الذي يتمتع بشخصيةٍ كاريزمية، أكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري الذي فاز بولايةٍ ثانية في أهم مدينة في تركيا. لكن يبدو أن الحكومة المركزية حتى الآن تُفضّلُ الاحتفاظ بالقضية احتياطيًا بدلًا من محاولة استخدامها فعليًا للإطاحة بسياسيٍّ يتمتّعُ بشعبيةٍ كبيرة. لا شكّ أنَّ تركيا في عهد أردوغان سلطوية، ولكن الأتراك ما زالوا يعتقدون أنَّ أصواتهم لا بدَّ أن تكونَ ذات أهمية ومسموعة، وأنَّ رفضَ خياراتهم في صناديق الاقتراع بشكلٍ صارخٍ سوف يأتي بتكاليف باهظة للغاية، سواء من حيث السمعة أو الاستقرار الأساسي.

بدلًا من ذلك، اتخذ أردوغان نهجًا ذا شقّين، حيث جمع بين المزيد من القمع لبعض شخصيات المعارضة والإصلاحات الهيكلية التي تنقل السلطة بعيدًا من البلديات التي تسيطر عليها المعارضة ونحو الحكومة المركزية.

لقد ركّزَ القمعُ على اثنين من “عفاريت” الخطاب القومي التركي: الأكراد و”النفوذ الأجنبي”. بعد أسبوعين على الانتخابات، حكمت محكمة تركية على شخصياتٍ سياسية كردية بارزة –بمن فيهم صلاح الدين دميرتاش، أحد أشهر سياسيي المعارضة في تركيا- بالسجن لعقود من الزمن؛ ويقبع دميرتاش نفسه خلف القضبان منذ العام 2016، على الرُغمِ من الأحكام المتكررة الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بضرورة إطلاق سراحه. في الأسبوع نفسه، رفضت محكمة تركية أيضًا استئناف رجل الأعمال الخيرية المسجون عثمان كافالا لإعادة محاكمته، مرة أخرى على الرُغم من الأحكام المتعددة الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بضرورة إطلاق سراحه.

في هذه الأثناء، تستمرُّ الحملة العامة ضد الأعداء المحلّيين، الحقيقيين والمُتَخَيَّلين، على قدمٍ وساق، بما في ذلك الصحافيين الأكراد -وهو هدفٌ مألوف- وحتى صاحب مطعم كانت لديه الجرأة لتقديم خدمات مؤسّسته باللغة الكردية. بالإضافة إلى ذلك، تزعمُ الحكومة كل أسبوع تقريبًا أنها كشفت عن المزيد من أتباع فتح الله غولن، الزعيم الديني المنفي اختياريًا الذي يتهمه أردوغان منذ فترة طويلة بمحاولة الانقلاب في العام 2016. ومن المؤكّد تقريبًا أنَّ حركة غولن لعبت دورًا كبيرًا في تلك المؤامرة الفاشلة. ولكن يبدو من المشكوك فيه أن تتمكّنَ السلطات التركية، بعد ما يقرب من ثماني سنوات من عمليات التطهير التي شملت مئات الآلاف من الاعتقالات، من العثور على أتباع غولن جدد لإزاحتهم من مناصب السلطة. ومع ذلك، ووفقًا لوزير الداخلية علي يرليكايا، فقد تم اعتقال أكثر من 8,000 من أتباع غولن خلال الأشهر الأحد عشر الماضية فقط.

عند هذه النقطة، فإنَّ الميزة السياسية لهذه الحملات القمعية لا تتعلّقُ بتحسين أمن الدولة بقدر ما تتعلّقُ بتغذية صورة تركيا كدولة تحت الحصار. ومثلها كمثل “الحروب على الإرهاب” المزعومة الأخرى، تُوَفّرُ التهديدات المُبالَغ فيها فُرَصًا لمزيدٍ من الأمن، مما يُعزّزُ ادعاءات الحكومة بأنها تحمي مواطنيها وتساعد على تصوير المعارضة على أنها “متساهلة مع الإرهاب”.

من ناحيةٍ أخرى، أطلقت الحكومة التركية أيضًا مشروعَ قانونٍ بشأن “العملاء الأجانب” أشبه بالمشروع الذي تمَّ تبنّيه أخيرًا في جورجيا وغيره من القوانين الأخرى التي يجري النظر فيها في ما يقرب من ست دول أخرى، بما فيها المجر، وصربيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان. ومن شأن هذا الإجراء أن يزيدَ من إعاقة قدرة الصحافيين على العمل في تركيا، وربما الأسوأ من ذلك، أن يُقَوِّضَ بشكلٍ كبير منظّمّات المجتمع المدني المُحاصَرة في تركيا.

وتخشى الحكومات الغربية، ولها بعض المبرّرات، أن تكونَ هذه التطورات المُوازية نابعةً من جهود موسكو، وربما تكون على حق. مع ذلك فإنَّ حملةَ القمع ضد المجتمع المدني التركي والميل إلى إلقاء اللوم على النفوذ الغربي بسبب المعارضة الداخلية لها تاريخ طويل في تركيا يسبق حزب العدالة والتنمية، ولو أنها اشتدت في العقد الماضي أو نحو ذلك. في الواقع، فإنَّ القضيةَ المرفوعة ضد كافالا، والتي أشرنا إليها سابقًا، ترتكزُ في جوهرها على روايةٍ كاذبةٍ مفادها أن المكائد الغربية كانت وراء احتجاجات “جيزي” التي هزّت تركيا في العام 2013. ويتمتع كافالا المُهذَّب ذو الكلام الهادئ والذي تدرّب وتعلّمَ في فرنسا، بعلاقاتٍ جيدة مع الغرب، وقد كرّسَ حياته لظهور وإبراز تركيا التي تحتفي وتفتخر بالتنوّع بدلًا من محاولة محوه. مع ذلك، منذ أن أصبح محطَّ غضبِ أردوغان، أصبحت الجهود المبذولة لإبقاء كافالا في السجن غير متناسبة على الإطلاق مع دوره السياسي الفعلي أو سلطته.

على نطاقٍ أوسع، يعتمدُ العديد من عناصر المجتمع المدني التركي –وخصوصًا الدفاع عن حقوق المثليين وحقوق المرأة وحقوق الإنسان على نطاق أوسع، وكذلك السياسة البيئية– بشكلٍ كبير على الدعم المالي الغربي. إنَّ مشروعَ قانون العملاء الأجانب، إذا تمَّ إقراره، سوف يلغي الكثير من هذا العمل. ومن المرجح أن يقترنَ ذلك بمزيدٍ من حملاتِ القمع على “الحركات السياسية التقدّمية” بينما يحاول أردوغان تعزيز ضعفه الجديد في اليمين الإسلامي. ربما تكون المعارضة العلمانية قد حققت انتصارات كبيرة في انتخابات آذار (مارس)، لكن من المرجح أن تتحرك البلاد نحو اليمين في المستقبل المنظور.

يقضي أردوغان حاليًا ما ينبغي أن تكون فترة ولايته الأخيرة في منصبه، وفي ظل الظروف العادية سيتقاعد في العام 2028. ومع ذلك، فإن مستقبل السياسة الداخلية في تركيا ــومؤسّساتها الديموقراطيةــ لم يكن غامضًا إلى هذا الحد منذ سنوات عديدة. قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2023، بدا أن أردوغان كان يهدف إلى ضمانِ انتقالٍ سلسٍ للسلطة إلى خليفته الذي اختاره بنفسه: صهره، سلجوق بيرقدار، الذي يرأس الشركة التي تنتج الطائرات العسكرية المُسَيَّرة في تركيا. وفي حين أن هذا لا يزال احتمالًا، فإنَّ الانتقال السلس إلى خليفةٍ مُعَيَّن لم يعد من المرجح أن يكون سلسًا كما كان أردوغان يأمل ذات يوم. والخيار الآخر هو الدفع بتعديلٍ دستوري من شأنه أن يتيح لأردوغان فرصةً لولايةٍ أخرى في منصبه. لكن الحصولَ على دعمِ المعارضة اللازم سيكون بمثابة تسلُّقٍ صعب وسيتطلّب منه تقديم شيء في المقابل. تجدر الإشارة إلى أنه في أعقاب الانتخابات البلدية لعام 2024، اهتم أردوغان للمرة الأولى منذ ثماني سنوات بلقاء زعماء المعارضة.

مع ذلك، في المدى القصير، يبدو أن أردوغان يُركّزُ على دعمِ قاعدته والعودة إلى الأدوات الاستبدادية التي كانت عُنصرًا رئيسًا في قيادته لأكثر من عقد من الزمن: التشهير والإجراءات العقابية ضد “أعداء الأمة” المزعومين، الدعوة إلى العمل الوطني ضد النفوذ الأجنبي –إقرأ: النفوذ الغربي– والمحاولات التدريجية لمركزية السيطرة الحقيقية في يديه قدر الإمكان.  لقد أظهرت الانتخابات البلدية التي جرت في آذار (مارس) أنَّ الانفتاحَ الديموقراطي في تركيا لا يزال مُمكنًا. لكن طريق العودة من الاستبداد لن يكون قصيرًا أو سهلًا.

  • ميشال مظلوم هو كاتب وصحافي لبناني من أسرة “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى