لماذا تَجبُرُ حَربُ غزّة أوروبا على التَحَرُّك؟
إن ما يحدث في الشرق الأوسط لن يبقى في الشرق الأوسط ولن يتمَّ احتواؤه هناك، لذا يتعيّن على الاتحاد الأوروبي أن يستعدَّ لذلك من خلال إعادة التأكيد على قِيَمِهِ.
الدكتور هشام أ. هلير*
الذكرى السنوية الثانية للغزو الروسي لأوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط (فبراير) سوف تكون بمثابةِ تذكيرٍ للأوروبيين بأنَّ النموذجَ الأمني الضامن والآمن لأوروبا لا ينبغي اعتباره أمرًا مفروغًا منه. مع ذلك، هناكَ تحدّياتٌ أخرى في الجوار الأوسع لأوروبا. مع احتدامِ الحربِ في غزّة، يتعيّن على الاتحاد الأوروبي كمؤسّسة، وأوروبا كقارة، أن يُدركا أنَّ هناكَ ضروراتٍ أمنية خطيرة تنشأ عن الصراع أيضًا.
خلال “الاجتماع الثلجي” الذي عقده خبراء الأمن في ليتوانيا في شهر كانون الثاني (يناير)، أشارَ وزير الخارجية الليتواني غابريليوس لاندسبيرجيس إلى “أننا نرى طغاةً وإرهابيين آخرين يكتسبون المزيد من الجرأة وهم يروننا نكافح من أجل مساعدة وتجهيز أوكرانيا لتحقيق النصر”. لقد كان مُحقًّا. تعلّمَ كثيرون الدروس الخاطئة من أوكرانيا. ولكن عندما يتعلق الأمر بالمناطق المتاخمة لأوروبا من الجنوب، فقد تعلّمنا أيضًا الدروس الخاطئة، ونتيجةً لذلك اكتسبَ العديد من الجهات الفاعلة السيّئة والشريرة المزيد من الجرأة. وهذا يُشَكّلُ تهديدًا أمنيًا لقارتنا، وهو تهديدٌ له تداعياتٌ هائلة من المُرجّح أن تتزايد في المَدَيَين المتوسط والطويل. وسوف تؤثّر هذه الأمور في الأمن المباشر لأوروبا، فضلًا عن مصداقيتها في المدى الطويل. وفي كلٍّ من هاتين الساحتين تواجه أوروبا خطرًا مباشرًا وقائمًا، ويتعيّن على الاتحاد الأوروبي أن يأخذَ كلًّا منهما على محمل الجدّ من خلال تبنّي السياسات المناسبة.
عندما يتعلّقُ الأمر بالأمن الصعب المباشر لأوروبا، فإنَّ الصراعَ في غزة لم يَعُد يقتصرُ على غزة، حيث قُتِلَ حوالي 25,000 إلى 30,000 فلسطيني، معظمهم من المدنيين، نتيجةً للقصف الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). التوتّر الحاصل عبر الحدود بين لبنان وإسرائيل أدّى إلى احتمالِ كبير بأن ينجحَ الإسرائيليون في جَرِّ “حزب الله” ولبنان إلى صراعٍ أوسع، على الرُغم من الإشارات الواضحة من “حزب الله” إلى أنَّ هذا ليس المسار المُفَضَّل للبنانيين. وتواجه القدس الشرقية والضفة الغربية أيضًا أزمةً كبيرة، بسبب الاحتلال الإسرائيلي والعنف الذي يمارسه المستوطنون الإسرائيليون، ما أدّى إلى مقتل مئات الفلسطينيين. ويحدث كل هذا قريبًا من قبرص الواقعة على الجهة الجنوبية للاتحاد الأوروبي، ويبعد قليلًا عن اليونان (وكذلك تركيا الدولة غير العضو في الاتحاد الأوروبي). ما لا يقل عن نصف الدول التي تندرجُ في إطار سياسة الجوار الأوروبية للاتحاد الأوروبي -الجزائر وأرمينيا وأذربيجان وبيلاروسيا ومصر وجورجيا وإسرائيل والأردن ولبنان وليبيا ومولدوفا والمغرب وسوريا وفلسطين وتونس وأوكرانيا- من المحتمل أن تتأثر بما يحدث في الشرق الأوسط.
وبعيدًا من غزة ولبنان، كانت للهجمات التي شنّتها جماعة “أنصار الله”، المعروفة أكثر باسم الحوثيين، في البحر الأحمر، والتي بدأت بهدف فَرضِ وقفٍ لإطلاق النار في غزة، آثارٌ كبيرة على مستقبل التجارة البحرية الدولية، مع ضربة عميقة مؤثّرة على الأمن الاقتصادي في أوروبا. كما شهدت الولايات المتحدة وإيران صراعهما الخاص يتصاعد ويتّسع، وإن كان ذلك على الأراضي السورية والعراقية. وقد يحاول البعض فصل ذلك عن الوضع في غزة، رُغم أنه مُرتبطٌ بشكلٍ واضحٍ بما يجري هناك.
قد نحاولُ العَيشَ في وَهمِ أنَّ ما يَحدُث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يبقى في المنطقة، لكن الواقعَ مُختلف. وإذا أصبح الصراع في غزة أكثر إقليمية، وهو أمرٌ مُمكنٌ تمامًا بسبب الصراع في العراق والتدخّلات الإيرانية المُزعزِعة للاستقرار، إلى جانب الأعمال الانتقامية الأميركية، فقد تنجرُّ أوروبا إلى دوراتٍ من التصعيد حيث ستدفع ثمنًا باهظًا بسببها.
وتواجِهُ أوروبا مشكلةً إضافية، هي الأخرى من صنعها، وتتعلّق بمصداقيتها في التعامل مع شركائها الدوليين. إنَّ الدول الأوروبية لا تتعامل مع بعضها البعض فحسب، بل إنها تتعامل أيضًا مع بلدانٍ في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، حيث يسودُ الغضبُ والمعارضة على نطاقٍ واسع للقصف الإسرائيلي لغزة. وفي حين أعرب بعض الدول الأوروبية، مثل إيرلندا وبلجيكا وإسبانيا، عن مشاعر مماثلة وصوّتت في الأمم المتحدة بما يتماشى مع بقية الرأي الدولي بشأن الصراع، فقد سلكت دولٌ أخرى طريقًا مختلفًا. وألمانيا، على وجه الخصوص، ظلت ثابتة في الوقوف إلى جانب إسرائيل، إلى حدّ التدخّل لصالح الدولة العبرية أمام محكمة العدل الدولية، بعد أن اتهمت جنوب أفريقيا إسرائيل بارتكابِ جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين.
لا يُمكن المبالغة في تقدير مدى الضرر الذي أصاب مصداقية أوروبا بشكلٍ خاص، والغرب بشكلٍ عام، على المستوى الدولي بسبب فشلهما في دعم القانون الدولي والنظام العالمي العادل. بالنسبة إلى غالبية دول العالم، ورُغمَ أنَّ هجمات “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) كانت مُرَوِّعة وغير مُبرَّرة، فإنها لم تحدث من فراغ، بل جاءت على خلفية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية الذي دام عقودًا من الزمن. إن هذه الدول لا تعتبر “حماس” مُعادِلة لروسيا وإسرائيل مُعادِلة لأوكرانيا، بل تعتبر إسرائيل مُعادلِة لروسيا والفلسطينيين مُعادِلين لأوكرانيا.
إنَّ الأوروبيين لديهم مصلحة عميقة في تعزيز النظام العالمي الذي يرتكزُ على القانون الدولي. فإذا نُظِرَ إليهم على أنهم يتصرّفون بشكلٍ انتقائي، والأسوأ من ذلك، أنهم يدافعون عن حليفتهم إسرائيل، عندما تنتهك بشكل صارخ القانون الدولي ضد شعبٍ مُعترَفٍ به على أنه مُحتَلٌّ عسكريًا، فسوف يجدون صعوبة في إلزام الآخرين في جميع أنحاء العالم بمعيارٍ عالمي.
على الرغم من اختلاف هذه التحدّيات، إلّا أنَّ هناكَ حلًّا مُوَحَّدًا لمعالجتها، وهو على وجهِ التحديد أنَّ أوروبا يجب أن تتعامل مع مثل هذه المواقف من خلال التمسّكِ بقِيَمِها الخاصة. وهذا لن ينجح فقط في ما يتعلق بالأهداف المُعلَنة للاتحاد الأوروبي، بل إنه يتماشى أيضًا مع المصالح الأوروبية على المستوى الدولي. تتجلّى أهدافُ الاتحاد الأوروبي في المادة الثالثة من معاهدة لشبونة، التي تدعم بوضوح حقوق الإنسان وسيادة القانون، ليس فقط في الداخل بل وأيضًا في العالم أجمع. وبسبب هذا الإصرار، اكتسب الاتحاد الأوروبي السلطة الأخلاقية التي افتقرت إليها التجمّعات الأخرى أو الدول الفردية، كما سمح للنشاط الأوروبي المُتعدّد الأطراف النجاح على المستوى الدولي.
مع ذلك، فإنَّ هذا النفوذ مُعَرَّضٌ للخطر اليوم، حيث أنَّ الاتحاد الأوروبي مُنقَسِمٌ حول فلسطين. وفي ما يتعلق بأوكرانيا، تظل المجر هي الدولة الوحيدة الشاذة، بينما في ما يتعلق بفلسطين، فإنَّ ألمانيا تكاد تكون وحدها في موقفها المؤيّد لإسرائيل. إنَّ تبنّي سياسة مُتَّسقة للاتحاد الأوروبي تتماشى مع القِيَمِ الأوروبية، والتي تتضمّن دعم القانون الدولي، يعني دفعًا أكثر عالمية نحو وقفٍ دائم لإطلاق النار في غزة، في حين تأخذُ على محمل الجد التوصّل إلى حلٍّ سياسي شامل للاحتلال الإسرائيلي. فالأولى هي خطوة أولية مباشرة لتحقيق الثانية، التي هي أكثر تعقيدًا بكثير. لسنواتٍ عديدة، كان التركيز على حلِّ الدولتين. ومع ذلك فقد أوضح الإسرائيليون بشكلٍ لا لبس فيه أنهم لا يرون إنشاء دولة فلسطينية في الأفق.
لكن لا ينبغي لهذا أن يُشَكّلَ عائقًا أمام صنّاع السياسات الأوروبيين. قد لا تكون أوروبا قادرة على قيادة النوع نفسه من القوة الصارمة التي تمتلكها الولايات المتحدة، لكنها تتمتّعُ بالقدرة على التحكّم في سياساتها، وبالتالي التحكّم في الكيفية التي ينظر بها العالم إليها. في الوضع الحالي، فإنَّ الاتحاد الأوروبي يسير على خطى واشنطن، مثل المناقشة الأخيرة حول ما إذا كان سيتم فرض عقوبات على حفنةٍ من المستوطنين الإسرائيليين. يتعيّن على الزعماء الأوروبيين أن يفهموا أهمية العودة إلى الأُطُرِ القائمة على القانون والحقوق لمعالجة تحديات الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وهو ما من شأنه أن يَضمَنَ أنَّ تَعامُلَهم مع الإسرائيليين يعتمدُ على نصوصٍ واضحة في القانون الدولي. وهذا من شأنه أن يجعلَ النقاشُ حول فرض عقوباتٍ على المستوطنين موضع نقاش. إنّ المستوطناتَ الإسرائيلية، بحكم تعريفها، غير قانونية، وفَرضَ عقوباتٍ على عددٍ قليل من المستوطنين العنيفين بدلًا من فَرضِ عقوباتٍ على المشروعِ الاستيطاني بأكمله وأولئك الذين يُسَهّلونه، يبدو أمرًا غريبًا.
من شأنِ هذا النهج أن يؤدّي إلى علاقةٍ أكثر تعقيدًا في الفترة الانتقالية مع إسرائيل، خصوصًا وأنَّ اليمين المتطرّف يتولّى دورًا حاكمًا ومُهَيمنًا أكثر هناك. لكن من شأنه أن يُعزّزَ الأمن الأوروبي والمصداقية الأوروبية الآن ولسنواتٍ عديدة مقبلة. إنَّ مصالحَ أوروبا في الداخل والخارج لن تتحقق من خلالِ خيانةِ وكالتها أو قِيَمِها.
- دكتور هشام هيلير باحث غير مقيم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. وهو يعمل زميلًا مشاركًا أول في المعهد الملكي للخدمات المتحدة لدراسات الدفاع والأمن في لندن، وهو زميل في جامعة كامبريدج.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.