أيُّ نظامٍ إقليمي في المنطقة؟
الدكتور ناصيف حتّي*
أيُّ نظامٍ إقليمي في المنطقة؟ سؤالٌ يُطرَحُ باستمرارٍ وإلحاحٍ في ظلِّ حالةِ الفوضى التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط والتي أكثر ما يدلُّ عليها عددُ النقاطِ الساخنة في الإقليم من حروبٍ وصراعاتٍ واضطراباتٍ يَحكُمُ مسارَ تطوّرها التفاعلُ بين العناصرِ الداخلية والعناصرِ الخارجية في كلٍّ من هذه النقاط، حيث أنَّ كلَّ مجموعةٍ من هذه العناصر تُغَذّي، وتَتَغذّى على، الأُخرى.
نَشهَدُ ذلك، ولو بدرجاتٍ مُختلفة، من ليبيا إلى الصومال الذي كان شبهَ مَنسيٍّ حتى جاء صاعقُ التفجير الذي شكّله الاتفاقُ الإثيوبي مع دولة “أرض الصومال”، (غير المُعتَرَف بها دوليًا)، لتأمينِ مَوقِعٍ استراتيجي لإثيوبيا على البحر الأحمر.
أضِف إلى ذلك السودان الذي يبدو على عتبةِ انفجارِ حَربٍ داخلية مُتَجَدّدة، إلى الدور الحوثي الناشط تحت عنوان دعم فلسطين عبر سياسةٍ تقومُ على توجيه رسائل “إقليمية” بواسطة الصواريخ ضد بواخر أميركية وغربية في منطقة باب المندب والبحر الأحمر، وهي منطقة استراتيجية جدًا لكافة القوى الإقليمية والدولية.
وفي السياق ذاته يشهد العراق عودةَ بعض السخونة في لعبة تبادل الرسائل الإيرانية-الغربية وخصوصًا الإيرانية-الأميركية عبر تبادل القصف الصاروخي بين بعض أطراف الحشد الشعبي من جهة والقوات الأميركية من جهةٍ أُخرى. الأمرُ الذي أعادَ إلى واجهةِ الأحداث موضوعَ الاتفاق العراقي-الغربي حول القوات العسكرية، خصوصًا الأميركية، الموجودة في العراق والبحث في إنهاء هذا الاتفاق، أو ربما إدخال بعض التغييرات إلى عناصره إذا ما توافق الطرفان المَعنيان على ذلك.
سوريا أيضًا ما زالت ساحةَ صراعٍ غربي-إيراني وإسرائيلي-إيراني عبر “رسائل” الأعمال العسكرية بين الأطرافِ المُشار إليها. وبالطبع يبرزُ لبنان الذي كان دائمًا ساحةَ صراعاتٍ إقليمية في رَبطِ الحرب الدائرة في الجنوب بحربِ غزّة تحت عنوان “وحدة الساحات”، فيما تُهدّدُ إسرائيل بأنّها لن تقبلَ بالعودةِ إلى الوضعِ الذي كان قائمًا قبل حرب غزّة. وترفعُ سَقفَ مطالبها عاليًا على هذه الجبهة كشرطٍ لوقفِ الحرب بغضِّ النظر عن تطوّرِ الوَضعِ على جبهة غزة. مطالبٌ ذات سقفٍ مُرتفع وغير قابلة للتحقيق، وقد تنتهي عندما يتمُّ إقفالُ ملفّ غزة والتوصّل إلى وقف إطلاق النار وإلى، أيًّا كانت المسمّيات الي ستُعطى له، تفاهمٍ جديد على صورة تفاهم نيسان لعام ١٩٩٦ مع الأخذ بعين الاعتبار المستجدّات الحاصلة منذ ذلك الحين.
مُقابلُ هذة التطورات الساخنة والتي تُهدّدُ الاستقرارَ الإقليمي، شهدَ الشرق الاوسط ثلاثة مساراتٍ تطبيعية استقرّت، ولو بسرعاتٍ ودرجاتٍ مختلفة في العام الماضي. أول هذه المسارات كان التطبيع التركي-العربي (مع الدول التي كانت على علاقات خلافية كبيرة مع تركيا). أدّى التغييرُ في السياسة الخارجية التركية والانتقال من المواقف الإيديولوجية الحادّة إلى مواقف براغماتية بعد إسقاط العنصر الإيديولوجي من السياسة التركية إلى ذلك. المسارُ الثاني تَمَثلَ في التطبيع الذي شهدته العلاقات السعودية-الإيرانية. وأخيرًا حصل التطبيع في العلاقات السورية-العربية مع عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.
على صعيدِ القوى الدولية يشهدُ الإقليمُ عودةً قوية للدور الأميركي، وتراجعَ الدورِ الروسي بعض الشيء مُقارنةً مع الماضي لانشغالِ موسكو بالملفِّ الأوكراني، فيما نشهدُ بداياتٍ لمحاولة الصين الشعبية توظيف علاقاتها الاقتصادية الناشطة والمُتقدّمة في المنطقة في دورٍ سياسي في الملفّات الاقليمية. وعلى صعيدٍ آخر يبرزُ غيابٌ أوروبي، لخلافاتٍ ضمن البيت الاوروبي، في شأنِ بعض القضايا الساخنة أو بسبب الانجرار وراء الموقف الأميركي مع تمايزات بسيطة عن ذلك الموقف، أو بدون تاثيرٍ يُذكَر بسبب ذلك الانحياز. مساراتُ التطبيع المُشار إليها تُساهِمُ بدرجاتٍ مختلفة في احتواء ما كان يُمكِنُ أن يكونَ تصعيدًا أو استقطابًا أكثر حدّة في التوتّرات القائمة ولكنه غير كافٍ لاحتواءٍ كُلّي لهذه التوتّرات المفتوحة على كافةِ أنواعِ التصعيد بشكلٍ مباشر أو بالوكالة عبر أطرافٍ حليفة مختلفة. المنطقة تعيشُ على صفيحٍ ساخن في سباقٍ بين مساراتٍ تطبيعية لم تستقر بعد بقوةٍ وفعالية ولم ينتج عنها بعض التفاهمات العملية الضرورية للإسهام في احتواء هذه الحرائق التي تطال مصالح الجميع بأشكالٍ وأوقات مختلفة من جهة، وبين التصعيد الحاصل في هذه النقاط الساخنة والتي قد تهدد بدرجاتٍ مختلفة بعض هذه المسارات من جهة أخرى. إنه سباقٌ بين عودةِ الحرائق إلى المنطقة أو النجاح التدريجي في احتوائها والعمل على إخمادها، وهو أمرٌ ليس بالسهل ولكنه ليس بالمستحيل إذا ما توفّرت الرؤية والإرادة لذلك.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).