سعد الحريري: ما له وما عليه (1): أنا لستُ أبي
سليمان الفرزلي*
ما مِن شكٍّ في أنَّ رئيسَ الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الدين الحريري، الموجود حاليًا في زيارته السنوية العابرة الى بيروت بمناسبة الاحتفال بذكرى اغتيال والده، الشهيد رفيق الحريري، يُمثّلُ ما لا يُمثّلهُ معظم السياسيين السنَّة في لبنان. لا لأنهم أقل منه قدرة أو شأنًا، بل لأنَّ لهُ حضورٌ سياسيٌّ وازِن على كامل الجغرافيا اللبنانية، من شبعا في أقصى الجنوب، إلى حلبا في أقصى الشمال، ومن الصويري ومجدل عنجر وبر الياس في أقصى الشرق، إلى صيدا وبيروت وطرابلس في أقصى الغرب. هذه ميزة لم تُتَح لأيِّ زعيمٍ سنّيٍّ آخر، لا في السابق ولا في الحاضر، ربما باستثناء أبيه، بل ربما هو تفوَّقَ على أبيه، لأنه أضافَ إلى إرثِ أبيه عَطفًا شاملًا من اللبنانيين عليه، لمزايا شخصيَّة فيه مُنفَصِلة عن إرثِ أبيه. إذ إنَّ ذاك الإرث شَكَّلَ، في بعضِ الأحيان، عبئًا عليه كاد ينوءُ به. ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يقولَ أنا أبي، ولا يستطيعُ أن يقولَ أنا لستُ أبي. وهذه عقدةٌ تُقعِدُ وتُلَعثِمُ أيَّ مُمثّلٍ على مسرحٍ سياسي معقَّد، كما هو الحال في لبنان.
لكن يُمكِنُ القول بأنَّ سعد الحريري لم يَستَهدِ بَعد على صورتهِ الحقيقية بمعزلٍ عن أبيه. فقد ظهر في المرحلة الأولى، بعد استشهاد والده، خجولًا شبه مذعور، عندما أحجم عن الإقدام، فأخلى مكانه لشخصٍ مُثيرٍ للجدل لا يوحي بالثقة، ثم عندما تقدَّمَ للمُهِمّة، مارسَ دوره السياسي وكأنه على مسرحٍ تمثيلي لا على مسرحٍ سياسي، حيث صعد ليخطب على المنصة في ساحة الشهداء وخلفه جدارية للملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، وفجأة خلعَ “جاكيتته” وألقاها جانبًا، وشمَّرَ عن ساعديه، وألقى كلمة ناريَّة، فكأنه أرادَ بذلك أن يظهرَ بصورةٍ جديدة، فيها إشارة الى كونه رجلَ حزمٍ وحَسم. ويُقالُ إنه فعل ذلك بتوصية من شركةٍ أجنبية للعلاقات العامة مُختصَّة بتعليمِ السياسيين المُبتدئين تفانين اللعبة التي تجذبُ المُتفرّجين، وتُفرِجُ كربة المحازبين. ويُقالُ أيضًا إنَّ سعد الحريري ندم على تلك المسرحية، والله أعلم.
واليوم أتى سعد الحريري إلى بيروت، مُشتاقًا ومُشتاقًا إليه، بصورةٍ جديدة، ليست صورة المُعتَد ب”شبوبيته”، بقدر ما هي صورة الواثق من نُضجه في الطريق الى كهولته. هو الآن بإمكانه أن يودّعَ أباه، ويودّعَ ميراثه، وينطلقَ إلى قمةٍ جديدة بمفرده على ثنايا محبّة اللبنانيين لشخصه.
وإذا كانت لا تجوز المقارنة بين سعد الحريري وأقرانه من السياسيين السنَّة في الوقت الحاضر، فإنَّ مُقارنته بمَن سبقوه فيها أيضًا مُفارقات، بمثل الفارق بين لبنان القديم قبل الحرب الأهلية، وبين لبنان الميليشيات الحاكمة الآن. حتى بالمُقارنة بينه وبين الزعيم الاستقلالي رياض الصلح، من حيث الوضع السياسي لهذا الأخير في حينه، تُعطي أرجحية لسعد الحريري. فقد كان رياض الصلح حائرًا في اختيار دائرته الانتخابية، لأنه لم يكن واثقًا من شعبيته، فتارةً هو صيداوي، وتارةً هو بيروتي. أما سعد الحريري، فبعد أن حسم أمر دائرته الانتخابية من البداية، عمل على أن تكون له مكانة متقدّمة في جميع الدوائر الانتخابية في طول لبنان وعرضه. أما رأسًا لرأس، خارج العامل الانتخابي، فإنَّ قامة رياض الصلح تبقى أعلى من قامة سعد الحريري مهما ارتفعت.
وقد حاول الرئيس ميشال عون أكثر من مرة أن يُدخِلَ في رأس سعد الحريري أن يُشكّلَ معه ثُنائيًا شبيهًا بالثُنائي الاستقلالي، بشارة الخوري ورياض الصلح، لكن هذه الفكرة لم تركب في رأس الحريري، ربما لأنه لم يقتنع بها، أو أنه لم يستوعبها. ومع ذلك فإنَّ ميشال عون ما كان ليفوز بالرئاسة لولا دعم سعد الحريري. وكانت رئاسته ستبقى غير ميثاقية، لو كان فازَ رُغمًا عنه.
لكن سعد الحريري عندما يزور بيروت في السنة مرَّة، تكريمًا لذكرى والده الشهيد في 14 شباط (فبراير)، يبدو وكأنَّ هناك خيطًا غير منظور يشدُّه الى الوراء. أو لا يريده سوى أن يتذكر الموت على طريقة الرومان مع قياصرتهم. وفي نهاية المطاف، لا يستطيع أن يكون سعد الحريري زعيمًا لبنانيًا فاعلًا إذا بقي زعيمًا زائرًا. فهو ليس مَنفيًا من قبل اللبنانيين، بل إنَّ اللبنانيين اليوم مُقبلون عليه أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وبعضهم يفتقده افتقاد البدر في الليلة الظلماء.
فإذا كان سعد الحريري نافيًا نفسه بصورةٍ طوعية، فإنه مُلزَمٌ أن يُقدّمَ للبنانيين بوضوحٍ تام أسبابه وأعذاره، لكي يتلمّسوا طريقهم به أو بدونه. أما إذا كان منفاه مشروطًا من جهةٍ خارجية، فلا يجوز أن يبقى ذلك في مدار الشبهة، لأنَّ فيه احتقارًا للبنانيين، مُكَمِّلًا لاحتقارهم السابق بفرض الاستقالة من رئاسة الحكومة عليه. ومن نافل القول، إنَّ في هذه الحالة انتقاصًا من شرعية ومكانة أيِّ جهة قامت بذلك كائنة مَن كانت.
فالأحرى بسعد الحريري أن يأتي الى بيروت يوم 14 شباط (فبراير) باشتياق عيد العشاق، إذا كان يريد أن يَخرجَ، وأن يُخرِجَ لبنان من دائرة الضيق والموت، لأنه من المفارقات المؤسفة أن يكون الزعيم الأقوى في البلاد، هو الأكثر خوفًا من تحمُّل المسؤولية. ويجب أن يعرفَ اللبنانيون أن عامل الخوف، ممثلًا بذلك الخيط الافتراضي غير المنظور الذي يشدُّه إلى الوراء، وهو خيط افتراضي لأنه موصولٌ بإرثِ أبيه.
وبالتالي فإنَّ شرعيةَ الزعامة الحريرية التي يلبسها سعد الحريري سوف تبقى ناقصة، وربما عبثية، ما لم يقف على قبر والده ويُعلن على الملأ أنه باقٍ في بيروت ولن يتزحزح منها، هاتفًا بأعلى صوته: أنا لست أبي!
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com