غزّة تُعيدُ توحيدَ الشرق الأوسط: جبهةٌ إسلاميّةٌ جديدة تُواجِهُ أميركا

في غيابِ الحلِّ العادل وعريض القاعدة للقضيّة الفلسطينية، فإنَّ الشرق الأوسط لن يتمكّنَ أبدًا من تحقيق السلام الدائم أو ذلك النوع من التعاون السياسي والاقتصادي الذي طالما حلم به كثيرون. والبديلُ هو دورةٌ لا تنتهي من العنف، وتراجُعُ النفوذ والشرعية الغربيين.

المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي: دعم محوره لـ”حماس” أعطاه اليد الطولى في المنطقة… الآن.

توبي ماتيسين*

من الواضحِ أنَّ الحربَ في قطاعِ غزّة لم تَعُد مُقتَصِرةً على إسرائيل وحركة “حماس”. في 25 كانون الأول (ديسمبر)، قتلت غارة جوية إسرائيلية مسؤولًا كبيرًا في الحرس الثوري الإيراني، السيد راضي موسوي، في حي السيدة زينب الذي يسيطر عليه الشيعة في دمشق. في 2 كانون الثاني (يناير)، اغتُيلَ صالح العاروري، نائب رئيس حركة “حماس” ومؤسس جناحها العسكري، في هجوم بطائرةٍ إسرائيلية مُسَيَّرة في الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل “حزب الله” الشيعي المُسَلَّح. ويتبادل “حزب الله” وإسرائيل إطلاق النار بشكلٍ شبه يومي منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وقد اغتالت إسرائيل عددًا من كبار قادته. وفي البحر الأحمر، هاجم الحوثيون، وهم من أتباع المذهب الشيعي، بلا هوادة السفن التجارية، الأمر الذي استفزّ الولايات المتحدة وبريطانيا لضرب أهدافٍ للحوثيين في اليمن. وبعد غارةٍ جوية بطائرةٍ مُسَيَّرة شنّتها جماعة شيعية جديدة وغامضة تدعى “المقاومة الإسلامية في العراق” أدّت إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين في موقعٍ عسكري بالأردن في أواخر كانون الثاني (يناير)، ردّت الولايات المتحدة بسلسلةٍ من الضربات على عشرات الأهداف في العراق وسوريا. هناكَ خطرٌ حقيقي من أن يؤدي هذا التوتر وتبادل العنف إلى صراعٍ عسكري أميركي مباشر مع إيران.

وكما لاحظ كثيرون، فإنَّ نقاطَ التوتّر هذه تُظهِرُ المدى المتزايد الذي وصله لما يسمى ب”محور المقاومة”، وهي المجموعة الفضفاضة من الميليشيات المدعومة من إيران والتي تهاجم المصالح الإسرائيلية والأميركية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. لكنَّ الأمرَ الأقل ملاحظة هو المدى الذي أدّى به هذا الصراع الأوسع إلى طمس الانقسامات الطائفية التي غالبًا ما شكّلت المنطقة. ففي نهاية المطاف، كانت الحروب الأهلية الشرسة في العراق وسوريا واليمن تشتمل على عنصرٍ شيعي-سني؛ لسنوات، استحضرت إيران والمملكة العربية السعودية الولاءات الطائفية في منافستهما الطويلة الأمد للهيمنة الإقليمية. إلّا أنَّ الحربَ في غزة تحدّت هذا التوتر: فالغالبية الساحقة من الفلسطينيين من المسلمين السُنّة، وحركة “حماس” نشأت من رحم جماعة “الإخوان المسلمين”، الحركة الإسلامية السُنّية الأكثر أهمية والتي تمتد جذورها إلى مصر. كيف وجدت “حماس” بعضًا من أقوى حلفائها في الجماعات والأنظمة التي يقودها الشيعة في إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن؟

بعيدًا من “محور المقاومة”، يكمنُ التفسيرُ في المكانة الخاصة التي يحتلّها تحرير فلسطين منذ فترة طويلة بين السنّة والشيعة العاديين، وكيف حوّلت الحرب هذه المشاعر إلى قوّةٍ مُوَحِّدة قوية. والحقيقة أنه حتى عندما كانت تندلع توترات طائفية في أماكن أخرى، فإنَّ محنة الفلسطينيين ظلت لفترة طويلة بمثابة نقطة التقاء مشتركة في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، بينما واصل القادة العرب السنّة صفقات “التطبيع” مع إسرائيل وتجاهلوا القضية الفلسطينية بشكل متزايد، أصبحت الحكومة الإيرانية وحلفاؤها الشيعة الداعمين الأساسيين للمقاومة الفلسطينية المسلحة. في المقابل، فإنَّ التحوّلات الإقليمية، بما في ذلك التقارب بين إيران والمملكة العربية السعودية في آذار (مارس) 2023، ومحادثات السلام الجارية بين الحوثيين والسعودية وبين اليمنيين، والديناميات المتغيرة في العراق ولبنان، جعلت الانقسام الطائفي أقل بروزًا بكثير.

والآن، بعد ما يقرب من أربعة أشهر على الحرب الكارثية، أدى الهجوم الإسرائيلي على غزة إلى إيقاظ جبهةٍ إسلامية تضمُّ الجماهير العربية السُنّية، التي تعارض بغالبيةٍ ساحقة التطبيع العربي، والجماعات الشيعية المسلّحة التي تُشكّل لُبَّ قوى المقاومة الإيرانية. بالنسبة إلى الولايات المتحدة وشركائها، يُشَكّلُ هذا التطور تحدّيًا استراتيجيًا يتجاوز بكثير مواجهة الميليشيات العراقية والحوثيين بضربات مُستهدِفة. من خلال الجمع بين منطقةٍ مُقَسَّمة منذ فترة طويلة، تُهدّدُ الحربُ في غزة بمزيدٍ من تقويضِ النفوذِ الأميركي، وفي المدى الطويل، يمكن أن تجعل العديد من المهام العسكرية الأميركية غير قابلة للاستمرار. وتُثيرُ هذه الوحدة الجديدة أيضًا عقباتٍ كبيرة أمامَ أيِّ جهودٍ تقودها الولايات المتحدة لفَرضِ اتفاق سلام من أعلى إلى أسفل يستبعدُ الإسلاميين الفلسطينيين.

إنشاءاتٌ استعمارية

على الرُغمِ من أنَّ الانقساماتَ الطائفية لعبت منذ فترة طويلة دورًا بارزًا في صراعات الشرق الأوسط، إلّا أنَّ دوافعها كثيرًا ما يُساءُ فهمها. من الناحية العقائدية، يتعلّق الانقسام الشيعي-السني بخلافة النبي محمد، حيث يؤكد السنّة أنَّ خلفاءه، المعروفين بالخلفاء الراشدين، تمّ اختيارهم من بين مجتمعِ أقربِ أتباعه الأوائل، ويقول الشيعة بدلًا من ذلك أن خلفاءه، الذين يسمّونهم أئمة، يجب أن ينحدروا مباشرة من النبي محمد. وتدريجًا، تطوّرَ كلٌّ من المذهبين السنّي والشيعي إلى فرعَين رئيسيين للإسلام، مع تمسك غالبية المسلمين في مختلف أنحاء العالم بالفرع الأول. وعلى النقيض من ذلك، تركّزَ المذهب الشيعي في إيران، في أعقاب تحوّلِ الإيرانيين من خلال السلالة الصفوية إلى المذهب الشيعي الاثني عشري في القرن السادس عشر، وفي العراق، حيث كان الشيعة يشكّلون الغالبية؛ وكانت هناك أيضًا مجتمعات شيعية كبيرة في لبنان واليمن ودول الخليج وجنوب آسيا. ومع ذلك، لقرونٍ عديدة، لم يتأثر الفلسطينيون في الغالب بهذا الانقسام: باعتبارهم رعايا للإمبراطورية العثمانية السنّية وكسنّة ومسيحيين يتحدثون العربية، لم يتعرّضوا إلّا قليلاً للمذهب الشيعي أو الانقسام الشيعي-السني.

لم تُصبِح الهويّات الدينية أكثر أهمية من الناحية السياسية ومُتشابكة مع الدولة القومية إلّا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث سعت القوى الاستعمارية الغربية إلى تنظيمِ الأراضي العثمانية السابقة على أُسُسٍ عرقية وطائفية. في لبنان وسوريا، حَوَّلَ الفرنسيون الهوية الطائفية إلى أساسِ السياسة والقانون. (في لبنان، كانت الدولة يحكمها إلى حدٍّ كبير المسيحيون والسنّة، مع منح الشيعة القليل من السلطة). وفي ولاياتها في العراق، وفلسطين، وشرق الأردن، أنشأت الحكومة البريطانية أيضًا إدارات يقودها السنّة حيث كانت هناك أعداد كبيرة من الشيعة؛ وفي العراق، واصل البريطانيون السياسات العثمانية وقاموا بتهميش المجتمعات الشيعية ورجال الدين الشيعة إلى حدٍّ كبير، لأنهم اعتبروهم مُستَقلّين للغاية ومُستائين من الهيمنة البريطانية. إنَّ دعمَ المملكة المتحدة للهجرة اليهودية إلى فلسطين وسياستها في حكم العرب واليهود بشكلٍ مختلف أدّى إلى تعزيز الفئات العرقية الدينية في المنطقة، بما في ذلك بين الفلسطينيين أنفسهم. بعبارةٍ أخرى، إنَّ الانقسامات العرقية والطائفية قد غذّتها السياسات الاستعمارية وصعود الدول القومية الحديثة بقدر ما غذّتها المناقشات العقائدية أو الدينية الأعمق.

لكن سياسات بناء الأمة يمكن أن تدفع في اتجاهاتٍ متعددة. بعد العام 1948، أدّت عمليات التهجير والطرد المتكرّرة التي قامت بها إسرائيل للفلسطينيين إلى ظهور علاقاتٍ وتحالفات جديدة. في لبنان، تزامن تدفق اللاجئين الفلسطينيين في العامين 1948 و1967 مع الصحوة السياسية للمجتمع الشيعي المُهَمَّش في البلاد، والذي كان يسعى إلى تحرير نفسه. وعلى مدى العقود التالية، بالإضافة إلى بناء العلاقات مع الشيعة اللبنانيين، اختلط الفلسطينيون أيضًا ببعض النشطاء الإيرانيين الذين قادوا لاحقًا الثورة الإيرانية في العام 1979، التي أطاحت الشاه محمد رضا بهلوي، الحليف الوثيق لإسرائيل والولايات المتحدة. بعد عودته المُظَفّرة إلى إيران في شباط (فبراير) 1979، رَحّب الزعيم الثوري آية الله روح الله الخميني على الفور تقريبًا بمنظمة التحرير الفلسطينية في مدينة قُمّ، حيث أشاد زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بالثورة باعتبارها “نصرًا كبيرًا للمسلمين ويومَ نصرٍ عظيم لفلسطين”. وبعد يومين، تم تسليم السفارة الإسرائيلية في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية. كما زار إيران وفدٌ من جماعة “الإخوان المسلمين”، مما سلّطَ الضوء على كيف كان يُنظر إلى الثورة في أيامها الأولى من منظورٍ إسلامي أكثر من شيعي من قبل الجماهير السنّية والحركات السياسية.

مع ذلك، فإنَّ مُعظَمَ قادة الدول في الشرق الأوسط العربي يَعتَبِرُ جمهورية إيران الإسلامية ودعمها للحركات الثورية في جميع أنحاء المنطقة تهديدًا كبيرًا. وكانت هذه الدول التي يقودها السنّة تخشى أن تؤدي الثورة الإيرانية إلى تمكين المجتمعات الشيعية والحركات الإسلامية فيها، وتَحَدّي موقعها المركزي في العالم العربي والإسلامي، وتعقيد علاقاتها مع الولايات المتحدة. وعندما غزا النظام البعثي العراقي إيران في العام 1980، وقفت منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من الجماعات الفلسطينية إلى جانب بغداد، وخلصت إلى أن العلاقات مع العراق ودول الخليج لها الأسبقية على طهران.

تقسيمٌ، وليس غزوًا

بعد هجماتِ 11 أيلول (سبتمبر)، أدّت التدخّلات الأميركية المُضَلّلة إلى تفاقم الصراع الطائفي في جميع أنحاء الشرق الأوسط بشكلٍ كبير، ما ساعد على تشجيع وتمكين العديد من الجماعات المسلحة التي تتعامل معها إدارة جو بايدن اليوم. أدّى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق إلى وصول الأحزاب الإسلامية الشيعية إلى السلطة، والتي كان معظمها في المنفى في إيران وسوريا منذ الثورة الإيرانية. كما إنه أعطى وقودًا جديدًا للمتطرّفين السنّة، مثل تنظيم “القاعدة”، في العراق، ما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية العراقية الدموية التي أدت في النهاية إلى ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية”، المعروف أيضًا ب”داعش”، والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران والتي تستهدف اليوم القوات الأميركية في العراق والأردن وسوريا.

بعد عقدَين من العنف بين السُنّة والشيعة والجهود الوحشية التي بذلها تنظيم “داعش” لإقامة الخلافة، توقع كثيرون في الغرب أن لا تحظى حركة إسلامية سنية مثل “حماس” بدعمٍ شعبي في الشرق الأوسط الكبير. وفي دول مثل مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، هكذا كان التفكير، تمَّ اتهميش جماعة “الإخوان المسلمين” كمسألةٍ سياسية، وبدا أنَّ جيلًا جديدًا من قادة دول الخليج العربية لا يهتم بالقضية الفلسطينية بقدر اهتمامه بتكنولوجيا المراقبة المُتقدّمة والعلاقات التجارية التي كان على إسرائيل أن تُقدّمهما. وفي دول مثل إيران والعراق، كان السكان في غالبيتهم من الشيعة ومن غير المرجح أن يتم تعبئتهم بسبب الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ساعدت هذه الافتراضات المُضَلّلة على بذلِ جهودٍ أميركية لدفع دول الخليج ودول عربية أخرى إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، حتى في غياب أي خطة قابلة للتطبيق لمعالجة مظالم ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت السيطرة والاحتلال الإسرائيليين إلى أجل غير مسمى، وكلاجئين حول المنطقة.

في الواقع، منذ ما يقرب من قرن من الزمان، كان دعمُ الفلسطينيين أمرًا مُتَّفَقًا عليه إلى حدٍّ كبير بين المسلمين السنّة والشيعة في جميع أنحاء العالم. في العام 1931، في مؤتمرٍ في القدس لتسليط الضوء على التضامن الإسلامي ضد الصهيونية، اقترحَ المشاركون السنّة أن يؤم رجل دين شيعي عراقي مشهور صلاة الجمعة في المسجد الأقصى في القدس. وبعد خمسة وسبعين عامًا، عندما تمكّنَ “حزب الله” من النجاة من حربه مع إسرائيل في العام 2006 (وفي العام 2000، عندما لعب دورًا فعالًا في دفع الجيش الإسرائيلي إلى الخروج من جنوب لبنان)، حظيت الجماعة بالإشادة من قِبَل السُنّة والشيعة على حدٍّ سواء. ومنذ بدء الحرب في غزة، اجتذبت “حماس” مستويات مُماثلة من الدعم عبر الطوائف.

وقد جلبت هذه الديناميكية الشعبية ضغوطًا متزايدة على الحكام العرب المُستَبدّين ومنحت نفوذًا جديدًا في العالم السنّي للجماعات الشيعية التي دعمت “حماس” بنشاط. وبسبب نفورهم من أنظمتهم الداعمة للغرب وعلاقاتها بإسرائيل، فقد راقب العديد من العرب السُنّة في رهبة التحرّكات المسلحة المتحالفة مع إيران من بيروت وبغداد إلى البحر الأحمر وهي القنوات الأكثر وضوحًا لمقاومة الحرب الإسرائيلية في غزة. هذه هي المجموعات التي تشكل “محور المقاومة”، والذي أصبح الآن تحت قيادة إيران قوّةً مُنسّقة في جميع أنحاء المنطقة الكبرى.

المحور والحلفاء

لا ينبغي لنا أن نفهم القوة المتنامية لقوى المقاومة على أنها مجرد، أو حتى في المقام الأول، تعبير عن الأصولية الدينية أو الهوية الطائفية. ويرجع ذلك إلى عوامل عدة تشمل: مستويات التمويل المستدامة، والهيكل التنظيمي الملتزم والمنضبط، والإيديولوجية المتماسكة، والدعم الاجتماعي الكبير للمجموعات في مجتمعاتها. ولكنها تمتد جذورها أيضًا إلى العواقب غير المقصودة الناجمة عن التدخّلات العسكرية الغربية والإسرائيلية وسياسات الأنظمة العربية الموالية للغرب. والأهم من ذلك، إنَّ الأمرَ يتعلّقُ بالتقارب التدريجي بين “حماس”، باعتبارها أقوى حركة إسلامية فلسطينية، مع حلفاء إيران الشيعة.

تبلور “محور المقاومة” في السنوات التي تلت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وقد صاغت وسائل الإعلام الإقليمية هذا الاسم باعتباره تورية وبديل من “محور الشر” الذي أطلقه الرئيس الأميركي جورج بوش (الإبن)، والذي استشهد به في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه في العام 2002 للربط بين الثلاثي: إيران والعراق وكوريا الشمالية. وبعد بضعة أشهر، أضاف نائب وزير الخارجية في عهد بوش، جون بولتون، كوبا وليبيا وسوريا إلى القائمة. إنَّ قيام الولايات المتحدة بوضعِ عدوَّيها الإقليميين إيران والعراق في سلّةٍ واحدة كان أمرًا مُربِكًا للإيرانيين، الذين كانوا بدأوا للتو إعادة ضبط العلاقات مع واشنطن، بل وقدّموا بعض المساعدة للحملة الأميركية ضد طالبان في أفغانستان. إن إضافة سوريا، أحد الخصوم الرئيسيين الآخرين للعراق، إلى هذا المزيج وتهديد الجميع بالعقاب على أحداث 11 أيلول (سبتمبر) -وهو هجوم إرهابي ارتكبه أعضاء سعوديون وإماراتيون ولبنانيون ومصريون من تنظيم “القاعدة”، الجماعة السنّية المُتطرّفة- كان أمرًا أكثر من إهانة. وخوفًا من أن تُصبحا الهدف التالي لتغيير النظام بقيادة الولايات المتحدة، عزّزت إيران وسوريا تحالفاتهما وعلاقاتهما مع الجماعات المسلحة في لبنان والعراق والأراضي الفلسطينية لردع الهيمنة الأميركية والإسرائيلية. ومع انزلاق المنطقة إلى العنف الطائفي، سمح الدعم الإيراني المتزايد للحركات الإسلامية الفلسطينية لطهران بالاحتفاظ ببعض الشرعية الإسلامية.

مع ذلك، استغرق بناء تحالف إيران مع “حماس” سنوات ولم يكن سَلِسًا دائمًا. خلال الحرب الأهلية السورية، التي وضعت إلى حدٍّ كبير المتمرّدين الإسلاميين السنّة ضد النظام السوري، كانت القيادة السياسية ل”حماس”، المُتَمركزة في دمشق في ذلك الوقت، على خلافٍ كبير مع سوريا وإيران. وبعد أن حُوصِرَت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا في خضمِّ القتال ومقتل العديد من الفلسطينيين، هاجر قادة “حماس” إلى قطر وتركيا، وهما الدولتان اللتان كانتا الداعمتين الرئيسيتين للجماعات المتمرّدة السنّية التي كانت تسعى إلى الإطاحة بنظام بشار الأسد. ونتيجةً لذلك، قَلَّصَت إيران دعمها ل”حماس” بشكلٍ كبير، على الرُغم من أنَّ ذلك خلق مشكلةَ علاقاتٍ عامة منذ أن أصبحت “حماس” أفضلَ ردٍّ لطهران على الإدعاءات القائلة بأنها كانت تبني جبهةً طائفية وأنها كانت تدعم الحركات الشيعية حصريًا.

لم تَعُد “حماس” بشكلٍ كامل إلى الحظيرة الإيرانية إلّا في أواخر العقد الفائت. وبحلول تلك المرحلة، كانت إيران هي القوة الوحيدة في المنطقة الراغبة والقادرة على إمداد “حماس” بالأسلحة بطريقة مستدامة ودعم المواجهات المسلحة مع إسرائيل بشكلٍ كامل. (استمرت قطر في توفير الغطاء السياسي ل”حماس” والتمويل لغزة، على الرغم من أنَّ قسمًا كبيرًا منه كان عبر القنوات الإسرائيلية وبمعرفة إسرائيلية). وقد أثبت الدعم الإيراني أهمية خاصة بالنسبة إلى القيادة السياسية ل”حماس” داخل غزة وجناحها العسكري، “كتائب القسّام”. حاول يحيى السنوار، الذي أصبح زعيم “حماس” في غزة في العام 2017، الابتعاد عن مخاطر الخصومات بين القوى الإقليمية وسرعان ما بنى علاقات مباشرة مع إيران. وفي العام 2022، تصالحت “حماس” أخيرًا مع نظام الأسد، ما عزّزَ موقف الجماعة داخل “محور المقاومة” وسلّطَ الضوء على دور إيران –وسوريا– الحاسم في الكفاح الفلسطيني المسلح.

على الرُغمِ من هذا التحالف، ظلت “حماس” هامشية إلى حدٍّ ما بالنسبة إلى الأعضاء الشيعة الأساسيين في المحور، الذين تعتمد إيديولوجيتهم المشتركة بشكل كبير على عقيدة التحرير الشيعية المرتبطة بجمهورية إيران الإسلامية ومفهوم الاستشهاد الذي يحمل أيضًا دلالات شيعية قوية. وبالتالي، فإنَّ علاقات “حزب الله” بإيران أبعد مدى بكثير من علاقات “حماس”: على الرُغم من أنَّ السيد حسن نصر الله هو الأمين العام ل”حزب الله” منذ فترة طويلة وأنَّ الجماعة لديها هيئة محلّية لصنع القرار تتكوَّن إلى حدٍّ كبير من رجال دين شيعة لبنانيين، إلّا أنَّ المرشد الأعلى الإيراني آية الله خامنئي يظل المرجع الديني النهائي ل”حزب الله”. ويبرز ذلك بشكل كبير في دعاية الحركة. وهذا ليس هو الحال مع “حماس”.

وهذا يثيرُ التساؤل حول المدى الذي يصل إليه التنسيق الإيراني مع المحور. لسببٍ واحد، على الرُغم من الوحدة المُكتَشَفة حديثًا بين هذه الجماعات المختلفة، لا يبدو أن نصر الله ولا خامنئي ــولا حتى القادة السياسيين الخارجيين ل”حماس”ــ كانت لديهم معرفة مسبقة بتفاصيل هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) الذي شنّته “حماس”، على الرُغم من أنهم أشادوا به. ولكن هناك أيضًا مسألة مدى استعداد أعضاء المحور الآخرين للذهاب إلى الانضمام إلى صراع “حماس” مع إسرائيل. في السنوات الأخيرة، بدأ قادة المحور في التأكيد على عقيدةٍ عسكرية أشاروا إليها باسم “وحدة الساحات”، وهذا يعني أنه إذا تعرّضَ أحدُ الأعضاء للهجوم، فإنَّ جميع “الساحات” الأخرى -بما في ذلك إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن والأراضي الفلسطينية– ستنضم إلى الدفاع عنه. وعلى الرُغم من وجود بعض النشاط العسكري في كلٍّ من هذه الساحات منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، إلّا أنه تجدر الإشارة إلى أنَّ إيران لم تتدخّل بشكلٍ مباشر وأنَّ “حزب الله” اقتصر رده على إطلاق الصواريخ بشكل منتظم باتجاه إسرائيل من الحدود اللبنانية بدلًا من الغزو البري أو إطلاق هجوم صاروخي أكثر ضخامة.

نتيجةً لذلك، لا يزال المراقبون عن كثب للمحور مُنقَسِمين حول ما إذا كانت عقيدة “وحدة الساحات” يتم تنفيذها كما هو مُتَصَوَّر وأنَّ الحربَ لا تزال في مرحلةٍ مُبكرة في تصعيدٍ مُحتَمَلٍ أوسع نطاقًا، أو ما إذا كان الأعضاء الشيعة الأساسيون في المحور، وخصوصًا إيران و”حزب الله”، يحاولون إظهار الدعم ل”حماس” من دون الانجرار إلى حربٍ شاملة. يشيرُ العديد من خطابات نصر الله إلى الاتجاه الأخير، كما هو الحال مع الإشارات الصادرة عن إيران -بما في ذلك منذ الضربات التي شنتها واشنطن في أوائل شباط (فبراير) على الميليشيات المدعومة من إيران في العراق- بأنها لا تسعى إلى مزيد من التصعيد. وهناك أيضًا دلائل تشير إلى أنَّ قادة “حماس” في غزة كانوا يتوقّعون ردًّا أقوى من المحور، وخصوصًا من “حزب الله”، نظرًا لخط اتصالاته الطويل مع إسرائيل وترسانته الهائلة من الصواريخ.

كان الإجماعُ الأكاديمي عمومًا هو أنه على الرُغم من أنَّ المحورَ يضمُّ نواةً إيرانية وتنسيقًا إيرانيًا، فإنَّ أعضاءه لا يتلقّون بالضرورة أوامر مباشرة من إيران. تتمتع تلك الجماعات التي تبعد مسافة أكبر من إيران جغرافيًا وإيديولوجيًا ومذهبيًا، مثل “حماس” و”جماعة الحوثي”، بقدرٍ أكبر من الاستقلال. وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ بعض الميليشيات الشيعية الاثني عشرية، بما في ذلك “حزب الله” والميليشيات الشيعية في العراق، يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالدولة الإيرانية وقيادتها ليس فقط على أساسٍ سياسي وعسكري ولكن أيضًا على أساس عقائدي. لكن هذه الجماعات أيضًا لها مصالحها المحلّية ومصادر تمويلها الخاصة، وقد أعلنت “المقاومة الإسلامية” الجديدة نسبيًا في العراق مسؤوليتها عن العديد من الهجمات على القواعد الأميركية، وهي على الأرجح مجموعة شاملة تضم ميليشيات شيعية أقدم، مما يُضفي المزيد من الغموض حول مستوى التنسيق مع طهران.

لعبة يمكن لإيران أن تفوز بها

على الرُغم من أنَّ البعضَ في الشرق الأوسط انتقدَ ميليشيات المحور الإيراني بسبب توسيع نطاق الحرب، إلّا أنَّ استطلاعات الرأي ووسائل التواصل الاجتماعي العربية تُظهرُ دعمًا عربيًا كبيرًا ل”حماس” وعقيدتها في المقاومة المسلحة. وتُظهِرُ الاستطلاعات نفسها أيضًا انخفاضًا كبيرًا في دعم الولايات المتحدة والأنظمة المُرتَبطة بها ارتباطًا وثيقًا، بما فيها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، التي قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل في العام 2020. وفي المملكة العربية السعودية، تُظهِرُ استطلاعات الرأي الآن أنَّ جُزءًا كبيرًا من الشعب، أكثر من 90% من السكان، يعارض إقامة علاقات مع إسرائيل. وفي مؤشر الرأي العربي لشهر كانون الثاني (يناير)، وهو استطلاع أجري في الدوحة وشمل 16 دولة عربية، اتفق أكثر من ثلاثة أرباع المشاركين على أن وجهات نظرهم تجاه الولايات المتحدة أصبحت أكثر سلبية منذ بدء الحرب.

وليس من الصعب الفهم كيف تشكّلت هذه التصوّرات. في حين أنَّ الحكومات العربية الموالية للغرب ليس لديها الكثير لتُظهِره في ما يتعلق بجهودها لوقف الحرب، فقد تمكّنت إيران وقواتها المحورية من تصوير أنفسها كقادة إقليميين وداعمين أساسيين للفلسطينيين. الحوثيون مثلًا. كانت الجماعة في السابق ميليشيا متمردة غير معروفة في شمال اليمن، حيث تمكنت من إغلاق الشحن التجاري عبر مضيق باب المندب، حتى في مواجهة القصف الأميركي والبريطاني المستمر. وقد اكتسبت الحرب المضطربة التي يشنها الحوثيون سمعة جيدة بين السكان العرب الذين لم يدعموهم من قبل أو يدعموا السياسات الأوسع للمحور. وبهذا المعنى فإن الحرب في غزة جلبت قدرًا أعظم من الوحدة في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي ربما أكثر من أي صراع آخر في العقود الأخيرة.

من عجيب المفارقات هنا أن أكبر المعارضين للمحور في هذه المرحلة هم على ما يبدو الجماعات السنّية المتطرّفة مثل “داعش”، وهي الجماعة التي شبّه بعض المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين “حماس” بها. (وقد أثارت وحشية هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) مثل هذه المقارنات، على الرُغم من إدانة تنظيم “الدولة الإسلامية” ل”حماس” مرارًا وتكرارًا لكونها قومية أكثر مما ينبغي وليست عالمية بما فيه الكفاية). والجدير بالذكر، في أوائل كانون الثاني (يناير)، أعلن تنظيم “داعش” مسؤوليته عن تفجيرٍ إرهابي واسع النطاق استهدف نصبًا تذكاريًا في إيران تكريمًا لقاسم سليماني، الجنرال الإيراني والمهندس الرئيس ل”محور المقاومة”، الذي قُتل فيه 94 شخصًا وجُرح 284. وجادل “داعش” بأنَّ زوار قبر سليماني يستحقّون الموت لأنهم شيعة وأنَّ التفجير كان هجومًا رمزيًا على سليماني وما يمثله. ومن خلال القيام بذلك، بدا أن الجماعة السلفية الجهادية تبذل محاولة يائسة لاستعادة أهميتها الإقليمية وإشعال العنف الطائفي بين الشيعة والسُنّة في وقت يبدو أنَّ السنة والشيعة متّحدون إلى حدٍّ كبير.

اغتالت إدارة دونالد ترامب سليماني في العام 2020 بتهمة تنظيم هجمات على المصالح الأميركية في المنطقة. ومع ذلك، فإن الحقيقة غير المريحة هي أنه بين العامين 2015 و2017، ساعد سليماني على تنسيق الميليشيات العراقية الشيعية إلى حدٍّ كبير في القتال ضد “داعش” إلى جانب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. وبعد اغتيال سليماني، قرّرت إيران أنها ستردّ من خلال تكثيف جهودها لطرد القوات الأميركية من المنطقة. ومن المفارقة أنّ التصرّفات الأميركية الحالية في الحرب في غزة، بما في ذلك الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل والإجراءات العسكرية والديبلوماسية التي تهدف إلى كسب المزيد من الوقت لإسرائيل، قد تُسرّعُ من تحقيق هذا الهدف، حيث أن هناكَ الآن دعمًا متزايدًا على مستوى المنطقة لمقاومة الغرب وإسرائيل. وفي الوقت نفسه، لن يكونَ لدى العديد من المنتقدين المحليين لقوى المحور أي فرصة لتحقيق مكاسب على الأرض طالما أنَّ هذه الشبكة -سواء النظامين الإيراني والسوري، أو الحوثيين، أو حزب الله، أو الميليشيات الشيعية المختلفة في العراق- يمكنها تصوير نفسها على أنها الداعم الحقيقي للفلسطينيين في لحظةٍ صعبة للغاية.

من خلال دعمهم ل”حماس” واستعدادهم لتصعيد المقاومة المسلحة حيث ظلّت الحكومات العربية مُتَفَرِّجة إلى حدٍّ كبير، اكتسب أعضاء المحور قدرًا كبيرًا من النفوذ في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. وأيًا كان ما سيحدث بعد ذلك، فمن المرجح أن تتمتع إيران وحلفاؤها بقدرٍ أعظم من الهيمنة والنفوذ، وخصوصًا نتيجةً لأخطاء الماضي والحاضر التي ارتكبها خصومهم في إسرائيل والغرب. أما بالنسبة إلى الدول العربية المؤيّدة للغرب، فسوف يكون لزامًا عليها أن تسعى إلى سدِّ الفجوة المتزايدة الاتساع بين سياساتها وتعاطف مواطنيها. بعد سنواتٍ من الإهمال، يتعيَّن عليها أن تضغطَ بشكلٍ عاجلٍ من أجل التوصّلِ إلى حلٍّ عادل للقضية الفلسطينية، خشية أن تجد أنفسها في مواجهة موجة جديدة من الانتفاضات العربية.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، قد يكون تأكيد قوتها العسكرية من خلال شن ضربات دقيقة على أهداف الميليشيات خيارًا مُرضِيًا. ولكن بات من الواضح على نحوٍ متزايد أنه سيكون من المستحيل بالنسبة إلى واشنطن أن توقف التصعيد الإقليمي ما لم تتمكّن من تأمين وقفٍ لإطلاق النار في غزة، وإنهاء الاحتلال، وأخيرًا إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة. وفي غياب مثل هذه الخطوات الملموسة وذات المصداقية، فإن القوى الإقليمية سوف تستمر في استخدام القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسبها الخاصة. ومع ذلك، فمن الصعب أن نتصوّرَ قيام دولة فلسطينية، ناهيك عن النجاح في ذلك، إذا لم تكن مدعومة بدعم من جميع الفصائل الفلسطينية وجميع القوى الإقليمية الكبرى، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى، ولكن أيضًا تركيا وإيران وقوى المحور. وإلّا فإنَّ قائمة المُفسدين قد تكون لا نهاية لها. إنَّ العقبات التي تعترض مثل هذا النهج هائلة، خصوصًا في ضوء الموقف المُعلَن للحكومة الإسرائيلية الحالية بشأن هذه المسألة. ولكن في غياب مثل هذا الحلّ العادل وعريض القاعدة للقضية الفلسطينية، فإنَّ الشرق الأوسط لن يتمكّنَ أبدًا من تحقيق السلام الدائم أو ذلك النوع من التعاون السياسي والاقتصادي الذي طالما حلم به كثيرون. والبديل هو دورة لا تنتهي من العنف، وتراجع النفوذ والشرعية الغربيين، وخطرُ ليس فقط نشوب حرب أوسع نطاقًا، بل أيضًا خطر منطقة تتكامل بطريقة مختلفة تماما – منطقة مُعادية بشكلٍ أساسي للغرب نفسه.

  • توبي ماتيسن هو محاضر أول في الإسلام العالمي في جامعة بريستول ومؤلف كتاب “الخليفة والإمام: صناعة السنّة والشيعة”.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع نشره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى