مُذَكّراتُ محمّد فايق مُهندس الإعلام الناصري (2): حقوقُ الإنسان… رسالةُ حياة

صدرَ عن “مركز الدراسات العربية” في بيروت في تموز (يوليو) 2023 كتاب مذكرات محمد فايق وزير الإرشاد القومي (الإعلام) في مصر في عهد جمال عبد الناصر بعنوان “مسيرة تحرر”.

غلاف الكتاب: مسيرة تحرّر”

سليمان الفرزلي*

كان بإمكان محمد فايق أن يَجِدَ لنفسِهِ مَوقِعًا في نظام أنور السادات، لكنه آثَرَ أن يَستقيلَ من الوزارة، كما جاء في مذكراته، لأنه أيقنَ أنَّ السادات عازمٌ على انتهاجِ سياسةٍ مخالفة، بل مُناقضة، لسياسة عبد الناصر التي تفانى فايق في سبيلها، وأعطاها زهرة شبابه. فالمحكمة التي اختار أنور السادات قضاتها ومحقّقيها بنفسه، بغية إصدارِ أحكامٍ مُسبَقة، ومُشدَّدة، بحقِّ الرموز الناصريَّة الأساسية، أُقيمَت خصّيصًا لإبعاد الناصريين، وإزالة آثار الناصرية، أو اجتثاثها إذا أمكن.
وحتى عندما قضى محمد فايق سنته الخامسة في السجن، فتح له السادات بابًا للخروج والتعاون معه، شَرطَ أن يُقَدِّمَ له اعتذارًا علنيًا. لكن فايق رفض هذا العرض مؤثرًا قضاء سنوات خمس أخرى في السجن بعيدًا من أهله وعياله، وحتى من أصدقائه وزملائه القدامى الذين كان معظمهم في السجون.
والسجون المصرية، سواء في المرحلة الناصرية، أو في المرحلة الساداتية، وربما إلى اليوم، ليست نزهة. ذلك أنَّ جميع نزلاء تلك السجون، والكتّاب العرب والأجانب الذين كتبوا عن معاملة السجناء فيها، يُجمِعونَ على قساوة القائمين عليها، وفي حالاتٍ كثيرة أدّى تعذيب السجناء الى إصابتهم بتشوّهات نفسية وجسدية عميقة، وأحيانًا إلى وفاة بعضهم.
وربما بسبب تجربته الطويلة في السجن، كتب محمد فايق في مذكراته، أنه بعد انتخابه مُفَوَّضًا لحقوق الإنسان في الاتحاد الإفريقيفي العام 2009: “كان وجودي مفوضًا في لجنة حقوق الإنسان، شيئًا مُستَحَبًّا عندي، حيثُ كُنتُ أجمع بين العمل الإفريقي الذي أحببته، وحقوق الإنسان التي أصبحت رسالة حياتي بعد خروجي من السجن”. وفي مكانٍ آخر يقول “إنَّ الديموقراطية حقُّ من حقوق الإنسان، وإن الديموقراطية كانت هدفًا من أهداف ثورة 23 يوليو (تموز)، لكنها لم تكتمل”. قال ذلك ولم يشرح أو يُفسِّر كيف كانت الديموقراطية من أهداف الثورة المصرية، وما هي المعوّقات التي جعلتها لا تكتمل.
ولسنا ندري ما إذا كان محمد فايق، خلال مهمّاته العسكرية أو خلال مهماته السياسية بعد ذلك، على علم بما كان يجري في سجن أبو زعبل، وفي سجن الليمان، أو على علم بفنون “التشريفات” التي كان حرّاس السجن يمارسونها على السجناء كلَّ صباح. ربما كان انشغاله بالشؤون الإفريقية قبل تسلمه وزارة الإرشاد القومي، حائلًا دون الاهتمام بالشؤون المصرية الداخلية، أو ربما لم يخطر بباله أنَّ أجهزة عبد الناصر الأمنية يمكن أن تقوم بمثل هذه الأعمال. أو ربما لم تكن قد تبلورت لديه قضية حقوق الإنسان التي جعلها رسالة حياته بعد خروجه من السجن.
أليسَ غريبًا أو مُستَغرَبًا أن يكون الزعيم اليوغوسلافي المارشال جوزيف تيتو، والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، هما اللذان طرحا على عبد الناصر شطط أجهزته الأمنية في تعذيب السجناء الشيوعيين واليساريين في دولة اعتبراها صديقة أو حليفة؟
تيتو فاتحه بمقتل المفكر الاشتراكي الأستاذ شهدي عطية تحت التعذيب القاسي في إحدى “التشريفات”، وخروتشوف فاتحه بمقتل القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو في أحد أقبية التعذيب التي كان يُشرف عليها في دمشق عبد الحميد السراج، الحاكم بأمر عبد الناصر في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة. واحد في مصر مات بتشريفة التعذيب، والآخر في سوريا بمغطس التذويب.
لم يقل عبد الناصر لتيتو وخروتشوف بأنه لا عِلمَ له بالأمر، بل وعدهما بالتحقيق في الأمر، ومنذ ذلك اليوم توقفت جميع آلات التعذيب في الإقليمين الجنوبي والشمالي.
هناكَ احتمالٌ شبه مؤكد أن الوزراء في حكومة عبد الناصر، لا يعرفون شيئًا عمّا تفعله الأجهزة الأمنية، خصوصًا الأجهزة السرّية منها، المُتعلّقة بأمن الدولة، أو النظام الحاكم فيها. وفي تقديري أنَّ محمد فايق بالذات لم يكن يعلم شيئًا عن وقوع تلك الحالات، إلّاَ ربما بعد انكشافها.
بعد شهرين من وفاة عبد الناصر كتب رئيس تحرير “الأهرام” محمد حسنين هيكل مسلسلًا من أربع حلقات بعنوان “قصَّة المعركة الأخيرة” تناول فيها بالهجوم حزب البعث العراقي، فاتّهمه بأنه يسعى الى “سرقة دور مصر في النضال العربي”، جازمًا بأنَّ العراق لن يكون في مقدوره قيادة النضال العربي “لا في الطبيعة، ولا في الطبع”، على حدِّ قوله. في ذلك الوقت خلال الأيام الأخيرة من العام 1970، كنتُ رئيسًا لتحرير جريدة “الكفاح” البيروتية لصاحبها آنذاك رياض طه، نقيب الصحافة اللبنانية، فكتبتُ تعليقًا مسلسلًا من أربع عشرة افتتاحية متواصلة، غايتها الرد العقلاني على هيكل، بالمُحادثة وليس بالمُهاترة، في إطارٍ سليمٍ للبحث يتعلَّق بالقضايا القومية، وليس في الإطار الدعائي لأغراضٍ سياسية.
وعندما وضعتُ كتاب سيرتي الذاتية بعنوان “علامات الدرب” قبل أكثر من عشر سنوات، كان هذا الموضوع من جُملةِ القضايا التي أعدتُ النظر إليها في ضوء التجربة ومستجدّاتها، فأشرتُ إلى أنَّ ما كتبه الأستاذ هيكل في ذلك الوقت، قبل نحو نصف قرن، ربما كان من أهدافه تقديم أوراق اعتماد للنظام المصري الجديد بقيادة أنور السادات. ويُستَدَلُّ من كتاب مذكرات محمد فايق الذي نحن بصدده، أنَّ محمد حسنين هيكل كان على علم ودراية، قبلَ أيِّ شخصٍ آخر، بأنَّ أنور السادات ينوي التخلّص من الناصريين في الحكم وفي الدولة، وأنَّ أنور السادات أبلغ هيكل بذلك على طريقته مع تعليلٍ منطقي للأسباب المُوجِبة.
وفي ذلك يقول محمد فايق: “بدأتُ أتأمّلُ الموقف، وهنا تذكرتُ ما قاله السادات لهيكل من قبل، إنه إذا حارب بأعوان عبد الناصر وانتصر، فسيذهب الفضل كله إليهم، وإذا هُزِم، فستكون الهزيمة مسؤوليته وحده” (الصفحة 223).
وفي خلاصة شاملة عن أهمية مذكرات محمد فايق، على الرغم من اجتنابه الخوض في المسائل الإيديولوجية كما ورد في المقال السابق، يتبيَّن أنَّ السيد فايق كان مُنسَجِمًا في عمله وأدائه مع قناعاته التي أودت به إلى السجن، فهو واحدٌ على المسرح الإفريقي، وعلى المسرح الإعلامي، وعلى مسرح حقوق الإنسان.
وبالنسبة إلى المُعلّقين والباحثين الراغبين في “استنباش” تاريخ مصر خلال القرن الماضي، فإنَّ كتاب مذكرات محمد فايق يصلح ليكون خارطة طريق للتعمّق في البحث، ومن هنا يكتسب أهميته الاستدلالية، لأنه ليس سيرة ذاتية تضع كاتبها في مواجهة العالم، ولا هو كتاب تاريخ يُغني عن البحث التاريخي.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلِّل سياسي مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى