حِينَ لم يَسمَع الرئيسُ السؤالَ …

محمّد قوّاص*

في 21 تشرين الأول (أكتوبر) صَدَرَ عن البيتِ الأبيض بيانٌ يقول إن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يسمع جيدًا السؤال الذي طرحه عليه أحد الصحافيين عمّا إذا كان يجب على إسرائيل تأجيل غزوها البري المُحتَمل لغزة لحين الإفراج عن المزيد من الرهائن عندما أجاب بكلمة “نعم”. فلماذا صدر هذا البيان؟

أوضح المتحدّث باسم البيت الأبيض بن لابولت أن “الرئيس كان بعيدًا. لم يسمع السؤال كاملًا وأنَّ السؤالَ بدا كما لو كان ’هل تودّ الإفراج عن المزيد من الرهائن؟’ كان يُعلّق على شيءٍ آخر”. انتهى بيان البيت الأبيض. لكن الظاهر أنَّ كلمة “نعم” لبايدن لوقف الحرب البرية قد شغلت إسرائيل وقادتها وداهمت خططَ جيشها.

قد يكونُ المُبرِّرُ والعذرُ الذي قدّمه البيت الأبيض تقنيًا وتافهًا على هامش الزلزال الذي ضرب الشرق الأوسط منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، يوم شنّت “حماس” عمليتها في غلاف غزة. لكن “قلّة السمع”، على عرضيتها، فضحت حقيقةً لا ريب فيها، بأنَّ “نعم” أو “لا” المتدحرجة من واشنطن هي فيصلُ يوميات غزّة والموجِّهةُ الأولى والأخيرة لقرار الحرب والسلم في إسرائيل وخصوصًا في هذه الحرب بالذات.

لم تَخُض إسرائيل في تاريخها حروبًا من دون دعم الولايات المتحدة وتوفّر ضوء أخضر من الإدارات الحاكمة هناك. ولم تبخل واشنطن على حكومات إسرائيل بالدعم والتأييد وإن ضغطت لاحقًا لعقلنة تلك الحروب وترتيب مخارجها وتقليص مساحاتها. وفيما يتبجّح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالنت ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وبقية طاقم “مجلس الحرب” بخوض حرب اجتثاث لن تنتهي إلّا بانتهاء “حماس” في قطاع غزة، فإنهم جميعًا مستفيدون من غضِّ طرفٍ أميركي قائم حتى الآن، ومتخوّفون من / وربما يتطلعون إلى تحوّلٍ في القرار الأميركي يُنزِلُ الجميع عن شجرةٍ بالغوا في تسلّق قممها.

تلقّى قادةُ إسرائيل نموذجًا مُسبَقًا بالـ”نعم” التي صدرت عن الرئيس الأميركي الذي “لم يسمع السؤال”. باتوا يعتبرون أنَّ “أوامر” وقف إطلاق النار في غزّة الصادرة من واشنطن هي مسألة وقت، وأنَّ لإسرائيل أن تستغلّ ما تبقى لها من ذلك الوقت للسعيّ إلى تحقيق إنجازاتٍ بات الأميركيون قبل الإسرائيليين يُدركون صعوبة تحقيق القصوى منها.

ولئن قالت واشنطن إنَّ الرئيسَ “لم يسمع”، فهي سبقت أن صحّحت “زلّات لسانه” ضد روسيا وخصوصا ضد الصين. وحين كرّر بايدن تلك الزلات بالوعد بالتدخل المباشر في حال هاجمت الصين تايوان، استدرك المراقبون أنَّ في التكرار ما يشي أن ليس في الأمر زلات، بل رسائل واضحة من مؤسسات أميركا.

لم يسمع بايدن السؤال. لكنه بدأ يسمع جيدًا هديرًا، في داخل الولايات المتحدة والعالم، غاضبًا من المقتلة في غزة. سمع هتافات المتظاهرين في شوارع المدن الأميركية وتلك في شوارع مدن أوروبا. سمع أيضًا ما ينقله موفدوه إلى الشرق الأوسط لا سيما وزير الخارجية انتوني بلينكن الذي زار عواصم عدة في المنطقة ولم يجد مَن يتفهّم منطق واشنطن. سمع أيضًا أنَّ الشرق الأوسط عربًا وأتراك وإيرانيين امتدادًا إلى الشرق وشرق الشرق ينطق بلسانٍ واحد يُطالب بوقف المجزرة من خلال وقف إطلاق النار.

لبايدن، مرشح الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، حساباتُ صناديق. هذه المرة بات يستمع إلى “الجناح اليساري التقدمي” الذي يقوده بيرني سندرز في حزبه. يستطيع هذا الجناح أن يُذكّرَ الرئيس الأميركي أنه صاحب فضل في انتخابه في العام 2020 وهو صاحب فضل في إفشال المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون حين منع عنها أصواته في انتخابات العام 2016. وبناءً على هذا المعطى ارتقى السمع إلى مرحلة الإنصات لضغوط جناحٍ شبابي الوجه والطباع والفكر يتطلّع إلى مواقف إنسانية في غزّة وسياسية في مسألة فلسطين.

وبسبب حسابات الصناديق نما إلى مسامع الرئيس تململًا جدّيا لدى المجتمع الأميركي المُسلِم وما يشكله من كتلة ناخبة. أظهر استطلاعٌ للرأي أنَّ 17 في المئة من الناخبين المُسلِمين فقط سينتخبون المرشح بايدن (70 في المئة دعموا بايدن في العام 2020) وأنَّ هذه النسبة ذاهبة إلى انهيار إذا لم يصدر عن الرئيس الأميركي موقفٌ واضحٌ يوقف إطلاق النار في غزة.

وإذا ما تعتبر دراسات مركز بيو للأبحاث بأنَّ 66 في المئة من مسلمي الولايات المتحدة يعتبرون أنفسهم ديموقراطيين (مقابل 13 في المئة جمهوريين)، فإنَّ بايدن يتخوّف من نزيف للوجه المسلم في حزبه ولقاعدته الانتخابية لدى هذه الشريحة، خصوصًا أنَّ الصوتَ المسلم هو ضروري جدًا في ولايات متأرجحة مثل ميشيغان وأوهايو وبنسلفانيا.

تحوّلَ شيءٌ ما في الولايات المتحدة وفق هذه الوقائع. أرسلت واشنطن بلينكن مرة أخرى إلى المنطقة حاملًا هذه المرة ملفات تبدأ من الإنساني العاجل إلى حلّ الدولتين الآجل. بدأ بايدن والإدارة يتحدثان عن ممرات إنسانية وهُدن لإدخال المساعدات وإخلاء جرحى وإخراج مزدوجي الجنسية وصولًا إلى كلامٍ جديد عن ضرورات التسوية السياسية بعد حرب غزة. تمدد هذا التحوّل فجأة باتجاه أوروبا، التي بدا أنها كانت متخشّبة عاجزة خلال الأسابيع الماضية عن اتخاذ مواقف مستقلة عن السياق الأميركي العام.

فجأة استفاق رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. تواصلا هاتفيًا وعبّرا عن “قلقهما إزاء إدخال المساعدات إلى قطاع غزة”، ليذهبا بعد ذلك إلى اكتشاف أن “حلّ الدولتين المُعَطَّل منذ فترة طويلة هو أفضل وسيلة لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين”. كانت إسبانيا دعت قبلهما إلى عقد مؤتمر دولي للسلام خلال 6 أشهر وافق عليه قادة الاتحاد الأوروبي.

وفيما تبدو تلك التحوّلات بطيئة مُقارنةً بتسارع وتيرة الكارثة في غزة، فإن مصدرَ هذا التحوّل واشنطن وهو مرتبط فقط بما يسمعه الرئيس هناك أو يرفض سماعه.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى