كَيفَ تَهَرَّبَت روسيا من سَقفِ أسعارِ النفط
نجحت فكرة تحديد سقف أسعار النفط الروسي الذي فرضته أميركا والإتحاد الأوروبي وحلفاؤهما بشكلٍ جيد إلى أن استطاع الكرملين التكيّف مع الأمر، وهو المصير المعتاد للعقوبات.
أغات ديماريه*
كانت المناقشات حول مستقبل الحدِّ الأقصى لسعر صادرات النفط الروسية من قبل مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي على رأس جدول أعمال القمة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في واشنطن في الأسبوع الفائت. ويحتدم الجدل حول ما يجب فعله بهذه السياسة، التي تفرض سعرًا أقصى قدره 60 دولارًا لبرميل النفط الروسي المُصَدَّر بمساعدة شركات الشحن أو التأمين الغربية.
يزعم أنصار هذا السقف للأسعار أنه يمثل أداةً بالغة الأهمية للحدِّ من قدرة الكرملين على تمويل الحرب في أوكرانيا. ويعتقد المنتقدون لهذا الإجراء أنَّ روسيا تتهرّب بسهولة من هذا الحد، مما يجعله غير فعّال.
والحقيقة هي أكثر دقة: كلا الجانبين على حق. خلال العام الماضي، نجح تحديدُ سقفٍ لأسعارِ النفط إلى حدٍّ كبير في خفض عائدات روسيا من النفط والغاز. ومع ذلك، بالنظر إلى السابقة التي شكّلتها أنظمة عقوبات أُخرى، كان من الواضح دائمًا أن موسكو ستنجح تدريجًا في التهرّب من الإجراء وجعله غير فعّال في المدى الطويل.
تَميلُ المناقشات حول مدى فعالية العقوبات عادةً إلى طمسِ سؤالٍ بالغ الأهمية: ما هي الأهداف الأصلية؟ كانت لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفائهما ثلاثة أهداف في الأذهان عندما فرضوا جميعًا سقفًا لأسعار النفط الروسي.
أوَّلًا، أرادت البلدان ذات التوجّهات المماثلة إرسال إشارة ديبلوماسية إلى الكرملين تشير إلى الوحدة. ثانيًا، أرادت الدول الغربية الحد من عائدات النفط الروسية في محاولة لإضعاف قدرة موسكو المالية على شن حرب ضد أوكرانيا. ثالثًا، أرادت مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي تجنب تخفيضات العرض التي من شأنها أن تدفع أسعار النفط إلى الارتفاع ويكون لها تأثيرٌ ضارٌ على الاقتصاد العالمي. وبينما كان يجري التفاوض على سقف الأسعار، كان بعض المحللين يُحذِّرون من أنَّ إخراجَ النفط الروسي من السوق قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط الخام إلى 200 دولار للبرميل.
وبالنظر إلى هذه الأهداف الثلاثة، فإنَّ تحديدَ سقفٍ لأسعار النفط كان ناجحًا. على الجبهة الديبلوماسية، كانت الوحدة الغربية حول هذا الإجراء مثالية، الأمر الذي بعث برسالةٍ عالية من التصميم إلى الكرملين. على الصعيد الاقتصادي، تتحدث البيانات عن نفسها: وفقًا لكلية كييف للاقتصاد، في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2023، كانت أرباح روسيا من صادرات النفط أقل بنسبة 30% عمّا كانت عليه خلال الفترة عينها من العام 2022.
بطبيعة الحال، يرجعُ جُزءٌ من هذا إلى انخفاض أسعار النفط العالمية والحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على النفط الروسي، مما عنى أن روسيا اضطرّت إلى تحويل تلك الإمدادات إلى العملاء الذين يدفعون أقل مما كان سيدفعه الأوروبيون. ومع ذلك، حتى منتقدو الحد الأقصى للأسعار يعترفون بأنَّ هذا الإجراء لعب دورًا كبيرًا. وفي ما يتعلق بالهدف الثالث، يمكن للحلفاء ذوي التفكير المماثل أن يزعموا أن المهمة قد أُنجِزَت: في المتوسط، وعلى الرغم من تخفيضات الإنتاج من قبل منظمة “أوبك”، ظلت أسعار النفط أقل من مستويات 2022 طوال معظم العام 2023.
في العموم، أدّى تحديد سقف الأسعار إلى تحقيق ما كان صنّاعُ السياسات الغربيون يعتزمون تحقيقه على وجه التحديد. لقد أدّى هذا الإجراء إلى فصل سوق النفط الروسي عن السوق العالمية، ما أدّى إلى خلق فجوةٍ بين الأسعار العالمية وما يمكن أن تحصل عليه روسيا مقابل خامها. فبدلًا من بيع نفطها بالسعر الفوري، يتعيّن على روسيا التفاوض على قيمةِ كل شحنة مع المشترين المُحتَمَلين، وهذا يمنح مستهلكي النفط الروسي القدرة على المساومة لخفض الأسعار.
وتواجه موسكو أيضًا تكاليف متضخّمة لشحن نفطها، الأمر الذي يؤثر بشكلٍ أكبر في إيراداتها. الآن تتقاضى شركات التأمين علاوةً لضمان وتأمين شحنات النفط الروسية، ويتعيّن على ناقلات النفط الروسية حاليًا أن تقطع في المتوسط أكثر من ثلاثة أضعاف المسافة التي اعتادت أن تقطعها من أجل الوصول إلى عملائها.
الواقع أنَّ الحد الأقصى للأسعار أثبتَ فعاليته على مدى العام الفائت أو نحو ذلك، ولكن نظرة على أنظمة العقوبات الأخرى تُوضحُ أنَّ هذا الإجراء لن ينجحَ في المدى الطويل. تتعلق الحكاية التحذيرية الأولى بالعقوبات الأميركية على “نورد ستريم 2″، وهو خطُّ أنابيب بحر البلطيق الذي كان من المفترض أن ينقل الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا. في العام 2019، فرضت واشنطن عقوبات صارمة على المشروع، ما أجبر الشركات الغربية على الخروج من الصفقة. وكان لدى موسكو حلٌّ جاهز: فقد قامت بتجميع أسطولٍ من السفن الروسية التي أكملت بناء خط الأنابيب بدون أي تدخّلٍ غربي.
واستخدمت موسكو هذه الاستراتيجية بشكلٍ جيد لتفادي تحديد سقفٍ لأسعار النفط. وخلال العام الماضي، اشترت ما يعادل أكثر من 110 ناقلات نفط “أفراماكس” لبناء أسطول نفط مقاوم للعقوبات. ونتيجة لذلك، فإن شركات مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي تشحن الآن أقل من 30% من النفط الروسي، ما يجعل غالبية النفط الخام الروسي خارج نطاق الحد الأقصى للسعر.
أما الفكرة الثانية المتعلقة بالعقوبات والتي استغلّتها روسيا بشكلٍ جيد، فهي تأتي من كوريا الشمالية، التي تُتقِنُ التهرّبَ من العقوبات. على الرغم من العقوبات الشاملة التي فرضتها الأمم المتحدة، لا يزال نظام كيم جونغ أون قادرًا على استيراد النفط وتصدير الفحم من خلال الاعتماد على السفن التي تقوم بما يسمى بالرحلات المُظلِمة. خلال مثل هذه الرحلات، تخفي السفن موقعها من طريق إيقاف تشغيل أجهزة الإرسال والاستقبال الخاصة بها بشكل غير قانوني وإجراء عمليات نقل سرية لبضائعها من سفينة إلى أخرى في وسط بحر الصين الجنوبي، ما يؤدي إلى إخفاء المسار بالكامل.
وللتهرّب من تحديدِ سقفٍ للأسعار، تبنّت روسيا الحِيَلَ الكورية الشمالية بحماسة: تفيد التقارير أن العديد من السفن في أسطول النفط الروسي المُجمَّع حديثًا تُرسِلُ إشاراتٍ زائفة لإخفاء موقعها، ما يجعل من الصعب على الحكومات الغربية تتبع أماكن وجودها والكشف عن التحايل على العقوبات.
الدرس الثالث يأتي من إيران. على مدى العقدين الماضيين، قامت طهران بإعادة توجيه التجارة بعيدًا من الاقتصادات الغربية ونحو الدول غير الخاضعة للعقوبات. وهذا ليس تهرّبًا من العقوبات، لأن الجمهورية الإسلامية تقوم ببساطة بأعمالٍ تجارية مع دولٍ لم توقّع قط على العقوبات. وكانت روسيا تفعل الشيء نفسه تمامًا في ما يتعلق بنفطها: الآن، تستوعب الصين والهند وتركيا -التي لم يدعم أيٌّ منها سقف الأسعار- 80 في المئة من صادرات النفط الخام الروسية.
إذا نظرنا خطوةً إلى الوراء ونجمع الدروس المستفادة من إيران وكوريا الشمالية و”نورد ستريم 2″ معًا، فمن الواضح أن أهداف العقوبات تتكيّف دائمًا. ومن هذا المنظور، فإنَّ تَحديدَ سقفٍ لأسعار النفط لا يمكن أن يكون إلّا أداة متوّسطة الأجل؛ لا يوجد شيء اسمه عقوبة تعمل إلى الأبد.
ما هي الخطوة التالية بالنسبة إلى الحد الأقصى للسعر؟ إلى جانب خفض مستواه إلى أقل من 60 دولارًا، فإن أنصار هذا الإجراء لديهم ثلاثة اقتراحات لإحيائه.
الأوّل يدورُ حول تعزيز إنفاذ العقوبات، وهي كلمة طنانة شائعة، كما لو أن المسؤولين الغربيين الذين يتعاملون مع العقوبات يقفون مكتوفي الأيدي. وقد يبدو هذا عظيمًا من الناحية النظرية، ولكن من الصعب أن نفهم ما قد يترتب عليه من الناحية العملية. ويتلخص أحد الخيارات في زيادة التدقيق في الوثائق التي تقدمها شركات مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي للتأكيد ذاتيًا على أنها لا تتعامل مع النفط الروسي المباع بأعلى من الحد الأقصى للسعر. وهناك اقتراحٌ آخر يتمثل في وضع قائمة بيضاء لمجموعات تجارة السلع التابعة لمجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي والتي سيُطلب من شركات الشحن استخدامها لنقل النفط الروسي. (في الوقت الحالي، يتعين على أصحاب السفن التحقق بأنفسهم من أنهم لا ينقلون النفط للتجار الذين يتهربون من تحديد سقف الأسعار!).
مع ذلك، فإن هذه التدابير سوف تفشل في معالجة قضيتين هيكليتين. يتطلب تكثيف عملية التنفيذ الوقت والمال ومسؤولين حكوميين مُدَرَّبين، وكلها أمور غير متوفرة. والأهم من ذلك، أنَّ هذه الإجراءات لن تفعل شيئًا للحدِّ من تطوير أسطول الناقلات الروسي.
وبالتالي فإنَّ الاقتراحَ الثاني هو معالجة تعاملات ناقلات النفط في موسكو. ومن شأن هذه الخطة أن تُجبِرَ السفن التي تمرّ عبر نقاط التفتيش البحرية الغربية، مثل المضائق الدَنماركية أو خليج فنلندا، على الحصول على تأمين مناسب لمسؤولية التسرّب والانسكاب. هناك سوابق: تطلب تركيا من الناقلات التي تمر عبر مضيق البوسفور إثبات حصولها على هذا التأمين من شركة ذات رأس مال جيد. إمتثالٌ من السهل التحقق منه – يمكن التحقق من شهادات التأمين عبر الإنترنت في بضع ثوانٍ لغالبية الأسطول العالمي من ناقلات النفط.
وعلى افتراض أنه لن تقبل أي شركة حسنة السمعة بتأمين السفن الروسية، فإن هذا الخيار من شأنه أن يوجّه ضربة قصيرة المدى لموسكو – وهذا أفضل من لا شيء. ومع ذلك، فإن هذه الخطة أيضًا ليست حلًّا سحريًا. ولن تنفذ نقاط التفتيش البحرية غير الغربية، مثل قناة السويس أو قناة بنما، مثل هذا الإجراء أبدًا. ونتيجة لهذا فإن روسيا سوف تتكيّف تدريجًا وتشحن المزيد من النفط من موانئها في المحيط الهادئ والقطب الشمالي، وبالتالي تتجنب المياه التي تسيطر عليها مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي.
أما الاقتراح الثالث فهو الأقوى: فهو يستلزم فرض عقوبات على شركات النفط الروسية والشركات الدولية التي تساعد روسيا على التهرّب من سقف الأسعار، مثل تجار السلع ذوي النوايا السيئة أو الشركات التي تبيع ناقلات النفط القديمة لعملاء روس غامضين.
على الورق، يبدو هذا بمثابة طريقة مباشرة لإضفاء مزيد من التأثير على الحد الأقصى للسعر. ومع ذلك، فإنه ليس من السهل تنفيذه. على سبيل المثال، عندما فرضت واشنطن عقوبات على شركة روسال الروسية لإنتاج الألومنيوم في العام 2018، تضمّن الإجراء العقوبات الثانوية المعتادة، بحيث واجهت جميع الشركات التي تتعامل مع روسال أيضًا خطر الوقوع تحت العقوبات الأميركية. ولتجنّب هذا الخطر، رفضت الغالبية العظمى من تجار السلع الأساسية المساس بإمدادات روسال، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الألومنيوم بنسبة 30%. كانت التأثيرات المتتابعة لعقوبات روسال على سلاسل توريد التصنيع العالمية خطيرة للغاية لدرجة أنه لم يكن أمام واشنطن خيار سوى التراجع عن الإجراءات ورفعها.
من شأنِ فَرضِ عقوباتٍ على شركات النفط الروسية أن تكون له آثارٌ مماثلة. وتمثل روسيا نحو 12% من إمدادات النفط العالمية، أي ما يقرب من ضعف حصة روسال من إنتاج الألومنيوم العالمي. وإلى جانب الأضرار التي تُلحق بالاقتصاد العالمي، فإن ارتفاع أسعار النفط من شأنه أن يمنح آلة الدعاية في موسكو الذخيرة للادّعاء بأنَّ الغرب يُغذّي الفقر العالمي. ومن شأنه أيضًا أن يُحيي التوترات عبر الأطلسي. كانت الوحدة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن العقوبات على روسيا متماسكة منذ بداية الحرب على وجه التحديد لأن الولايات المتحدة لم تلجأ إلى العقوبات الثانوية، وهو أمرٌ كان لا يُعجِب الاتحاد الأوروبي لفترة طويلة.
إن العقوبات على الشركات التي تساعد روسيا على التهرب من هذا الحد للإسعار لن تؤدي إلى مثل هذه العواقب الوخيمة، وبالتالي فهي أكثر جاذبية. لكن فعاليتها ستكون محدودة. وبمجرد أن تقع إحدى هذه الشركات تحت العقوبات، فإن شركة أخرى ستأخذ مكانها في لعبة لا نهاية لها من العقوبات التي تلهي الحكومات الغربية.
لا يحب صناع السياسات الاعتراف بذلك على الإطلاق، ولكن لا يوجد شيء اسمه عقوبة مثالية. لقد أدى تحديد سقف لأسعار النفط مهمته على مدى العام الماضي، ولكن لم يكن المقصود منه على الإطلاق أن يكون حلًا طويل الأجل. إن أهداف العقوبات تتكيف دائمًا، ولن تكون روسيا استثناءً لهذه القاعدة.
إذن، ما هو الخيار الأفضل في المدى الطويل لفرض عقوبات على موسكو؟ إن التدابير البطيئة التي تحرم شركات النفط والغاز الروسية من التكنولوجيا الغربية هي الوسيلة الأضمن لإثارة اختناق بطيء لقطاع الطاقة الروسي. إن حقول النفط والغاز الروسية تستنزف، وسوف يتطلب تطوير حقول جديدة خبرة غربية لن تكون متاحة.
لقد تم فرض مثل هذه العقوبات منذ العام 2014، ولا تزال تمثل الإجراء الأكثر فعالية في المدى الطويل ضد الكرملين. ومع ذلك، فإنها سوف تستغرق وقتًا طويلًا للعمل. العقوبات هي ماراثون وليست سباقًا سريعًا.
- أغات ديماريه هي كاتبة في مجلة فورين بوليسي الأميركية، وزميلة بارزة في مجال الاقتصاد الجغرافي في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ومؤلفة كتاب “نتائج عكسية: كيف تعيد العقوبات تشكيل العالم ضد المصالح الأميركية”. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @AgatheDemarais
- يُنشَرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع نشره بالانكليزية في “فورين بوايسي” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.