كميليا كلوديل: ضحيةُ رودان؟ أَم مُلهمَتُه؟ (2)

“الرجل الذي يستيقظ” باكورة شُهرة رودان

هنري زغيب*

مرَّ في الجزء الأَول من هذا المقال، تمهيدٌ عام تعريفي بكميليا كلوديل النحاتة المبدعة التي ارتبطت بعلاقة حب جارف مع النحات الشهير أُوغست رودان، أَودت بها إِلى سلسلة انكسارات سبَّبَت دخولها مصحًّا عقليًّا أَنهت فيه حياتها.

في هذا الجزء الثاني إِطلالة على مسيرة كميليا الفنية قبل لقائها رودان، وهي مسيرة واثقة شكَّلَتْها موهبة كميليا وإِصرارها على شخصية لها مستقلة بدأَت لافتة منذ مطالعها.

فماذا في هذا الجزء؟

أَحد الكتب الكثيرة الصادرة عن كميليا

أَخيرًا… باريس

سنة 1881 تم نقل لويس كلوديل إِلى بلدة واسّي سور بليز (شمال شرقي فرنسا). لكنه، لحرصه على توفير أَفضل فُرَص التعليم لأَبنائه، عمل على تأْمين شقة سكَن في باريس. وبعد سنواتٍ، شرح بول كلوديل قصة ذلك بالتفصيل، وفيها أَن شقيقته كميليا كانت حريصة على تلقِّي دروسها الفنية، ورجَت والديها أَن تعيش في باريس لأَن فيها إِمكان أَن تَدرس الفتيات في محترفات تتيح دراسة الجسم البشري على موديلات عارية.

ففي القرن التاسع عشر، معيارُ البراعة في رسم الجسد العاري أَو نحته، كان الأَساس للحكْم على موهبة الطلاب والطالبات في المحترف. لكن الوالدة لويز اعترضَت على هذا الاقتراح (الانتقال إِلى باريس)، وكانت تفضِّل البقاء في الريف والحياة الهادئة المركّزة على تنشئة الأَولاد وتربية الفتيات وتهيئتهنَّ للأَعمال المنزلية فالزواج فبناء أُسْرة جديدة. لذا كان مستحيلًا القبولُ بذهاب كميليا وحدها للعيش في باريس والدراسة فيها. لكنها عاندت ونجحت، وانتقلت عامئذٍ (1881) وهي في السابعة عشرة، لتعيش أُولى تجاربها في الحياة الباريسية.

كانت باريس فترتئذ تستعيد الحياة الطبيعية، بعد الحرب المأْساوية سنة 1870 بين فرنسا وبروسيا وخسارة فرنسا ثم نهوضها، وخصوصًا نهوض باريس إِلى الجمهورية الفرنسية تحت راية العلم المثلَّث الأَلوان واعتماد “المارسياز” نشيدًا ووطنيًا للبلاد.

المحترف الخاص في مونبارناس

تلك كانت الحالة العامة من الجو الوطني النابض، انتشرت خلالها في كل البلاد تماثيل “جاندارك” رمز الجمهورية. وأَقام الفنانون محترفاتهم طوال شوارع ضفة السين اليمنى، حتى كان الرسامون، صباحًا باكرًا أَو ليلاً متأَخرًا، يَعبرون تلك الشوارع حاملين عُلَب أَلوانهم وملفَّات رسومهم ومخطَّطاتهم لرسوم جديدة.

مع استقرار الأُسرة سنة 1881 في شقة باريسية هادئة من بولفار مونبارناس، تسجَّلت كميليا في أَكاديميا كولاروسّي (مختصة بفن النحت)، وفيها يتجانب الشبان والصبايا خلال الدروس، وبأَقساط موحدة للجنسين، عكس المؤَسسات الفنية الأُخرى التي كانت تُضاعف الأَقساط للنساء.

في تلك الحقبة، كان كبار الفنانين يترددون على المحترفات ويُسْدون النصح للطلاب والطالبات تصويبًا عملَهم نحو الإِتقان.

“غالاتيا” من أَجمل أَعمال كميليا

بوشيه صديق رودان

في البداية كانت كميليا اجتزأَت قسمًا من الشقة العائلية محترفًا لها، إِلى أَن وجدَت محترفًا صغيرًا في شارع نوتردام، فانتقلت الأُسرة إِلى شقة في الشارع ذاته غير بعيدة عن المحترف الصغير وعن أَكاديميا كولاروسي.

عملت كميليا في ذاك المحترف الصغير مشاركِةً إِياه مع صبيَّتين إِنكليزيتين. والنحات أَلفرد بوشيه (صديق رودان وهو كان سابقًا يتردد على منزل كميليا يساعدها في بعض دروس النحت، كما ورد في الجزء الأول من هذا المقال) كان يزور ذاك المحترف الصغير يرافقه بول دوبْوَى مدير معهد الفنون الجميلة في باريس.

رسالة حب من رودان إِلى كميليا

لم تسمع بــ”رودان”

بعد بضع زيارات إِلى ذاك المحترف الصغير لاحظ دوبْوَى موهبةً نحتية لافتة لدى كميليا، في أُسلوب نحتها وفي جرأَة مواضيع منحوتاتها، فسأَلها عفويًّا إِن كانت أَخذت دروسًا لدى رودان في محترفه.

الجواب كان بسيطًا أَكثر: لا أَنها لم تأْخذ دروسًا لدى رودان في محترفه، بل حتى هي لم تسمع بهذا الاسم من قبل.

سنة 1882 سافر بوشيه إِلى فلورنسا لاستلام جائزة معرض فلورنسا الكبرى التي كان نالها سنة 1881. قبل سفَره طلب من صديقه رودان أَن يهتم موقتًّا ببعض طلابه وطالباته، وبينهم كميليا التي قال له عنها إِنها “صبية جميلةٌ جدًّا وموهوبة جدًّا”.

يومها كان رودان في الثانية والأَربعين ويعيش مع عشيقته روز بوريه Beuret، وله منها ولد اسمه أوغست أُوجين ويصغر كميليا بسنتين. فرودان عرف روز موديلًا له ثم عشيقة منذ 1864 أَي بالضبط سنة ولادة كميليا.

انطلاقة رودان الشخصية

فترتئذٍ كانت أَعمال رودان مقتصرة على توصيات محدَّدة لتماثيل وأَنصاب تزيينية للمباني الكبرى ومداخلها. لكنه منذ نهاية 1870 انصرف إِلى أَعماله الخاصة الإِبداعية، وبعد سنواتٍ نحَت تمثاله الشهير “الرجل الذي يستيقظ”، وهو شاب عارٍ رافعُ الذراعين. نال التمثال انتقادات صارمة عند عرضه سنة 1877 في معرض باريس، متَّهمَة رودان بأَنه جبَله مباشرةً بالطين وأَمامه شاب عارٍ نقَل عنه التفاصيل، والأَمر لم يكن كذلك لأَنه من مخيلة رودان كليًّا. وحين تأَكد ذلك، بدأَت شهرة رودان تتَّسع حتى بات كبار الفنانين يقصدون محترفه للاطِّلاع على أَعماله.

تلك كانت الخطوات السابقةَ اللقاء بين كميليا ورودان، وتكوُّن قصة الحب بينهما.           

كيف تم ذلك؟

هذا ما أَكشفه في الجزء الثالث من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى