هل يَتَخَلّى الغَرب عن أوكرانيا؟

محمّد قوّاص*

تكشفُ مداولات اللحظة الأخيرة في صفقة التمويل الحكومي في واشنطن عن جانبٍ يتعلّق بالحرب في أوكرانيا. اضطرّت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى حذف بند الدعم المالي لأوكرانيا لتمرير اتفاقٍ مؤقت في مجلس الشيوخ ينتهي في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل يمنع كأس الإغلاق الحكومي المرّ عن الولايات المتحدة.

بدا أن الإدارة الديموقراطية باتت مستعدة للمناورة بورقة أوكرانيا وسحبها من التداول عند الضرورة إذا ما اقتضت مصالح الحكم ذلك. صحيح أن سحب الورقة هو إجراء براغماتي مؤقت طالما أنَّ بايدن يدعو إلى تشريعٍ آخر يضمن استمرار هذا الدعم. وقد قدمت الولايات المتحدة حتى الآن أكثر من 75 مليار دولار من المساعدات العسكرية والإنسانية والمالية، وكان تعهّدٌ قبل أسبوعين بتقديم 24 مليار دولار إضافية. لكن المسألة لم تعد من المحرّمات وباتت جُزءًا من الحملة الانتخابية الرئاسية المقبلة في البلاد.

يضيف معسكر اليمين المتطرّف الموالي للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب داخل الحزب الجمهوري قضية أوكرانيا إلى المسائل السجالية التي ستدور حول حملة ترامب الانتخابية. وسيضطر بايدن، مرشح الحزب الديموقراطي، أن يبذلَ جهودًا جديدة مستجدّة للدفاع عن خياراته الأوكرانية في وقتٍ تقودُ فيه الولايات المتحدة التحالف الغربي الداعم لأوكرانيا ضد روسيا.

وإذا ما سقطت ورقة أوكرانيا أو تراجعت “قداستها” السياسية في المداولات السياسية في واشنطن، فإنَّ الأمرَ سيشجّع المنابر والتيارات الداعية إلى مراجعة سياسات الدعم لأوكرانيا داخل الاتحاد الأوروبي. وفيما تتقاطع في أوروبا رؤى التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرّف من جهة وتيارات اليسار الراديكالي من جهة أخرى وتطالب جميعها بسياسةٍ أكثر اعتدالًا وأقل انحيازًا في مقاربة حرب أوكرانيا، فإن تطوّرَ السجال الأميركي سيمنح هذه التيارات شرعية الجهر والاستمرار برفض الدعم السخيّ الذي يقدّمه الأوروبيون لكييف.

باتت هذه القضية أساسية في خطاب قوى تخوض الانتخابات في عدد من الدول الأوروبية. كشفت سلوفاكيا عن جانبٍ من تقدُّمِ هذه الظاهرة وقبل ذلك صربيا وشيء من ذلك في هنغاريا وأخيرًا في بولندا، ناهيك من رواج الحجّة داخل الدول الأساسية من ألمانيا إلى فرنسا مرورًا بإسبانيا وإيطاليا من قبل أحزابٍ سياسية تنهل من “القضية” لإدانة سياسات الإنفاق فيما البلاد تعاني من تقلّص الميزانيات الداخلية وتفاقم الأزمة الاقتصادية.

ومع ذلك فإنَّ القرارَ الأوروبي ما زال مُجمِعًا على ضرورة استمرار الدعم لأوكرانيا وتطويره. حتى أن بريطانيا، وهي خارج الاتحاد الأوروبي، تناقش مسألة نقل قوات بريطانية إلى داخل الأراضي الأوكرانية للقيام بمهامٍ تدريبية بدل تدريب القوات الأوكرانية داخل الأراضي البريطانية. يلتقي التوجه الأوروبي الداعم لأوكرانيا مع موقف بايدن والذي تقصّد تكراره بعد صفقة التمويل الحكومي والتعبير عنه، والذي رأى أن “دعم أوكرانيا ضرورة لإلحاق الهزيمة بروسيا”.

ويزدهر الجدل المُضاد للدعم المفتوح لأوكرانيا مع تقارير مُتخصّصة نُشِرَت في الولايات المتحدة تسلّط الضوء على ظواهر الفساد داخل الإدارة الأوكرانية وتطالب سلطات الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي بالكشف عن مصير المليارات التي ضختها خزائن واشنطن والعواصم الحليفة إلى الخزينة في كييف. وتأتي هذه التقارير لتصبّ الزيت على النار وتحمل الماء إلى طاحونة ترامب وجناحه داخل الحزب الجمهوري والقوى المناهضة لسياسة الدعم لأوكرانيا في أوروبا.

ويوحي الأمرُ لروسيا بتصدّعٍ ما لجدران الوحدة داخل المنظومة الغربية. والواضح أن موسكو تُعوِّلُ على الوقت وضرورات الحملات الانتخابية لدى دول هذه المنظومة لنمو التيارات والحملات المنتقدة لأوكرانيا ولتورط الغرب الطويل الأمد، ولو بشكلٍ غير مباشر، في حربٍ “ليست حربنا”، وفق ما صار يتردّد داخل العواصم المعنية. وقد يُفهَم من تصويت مجلس الشيوخ لميزانية انفاق لا تتضمن الدعم لأوكرانيا ردًّا من هذا المجلس على الزيارة التي قام بها زيلنسكي لهم في 21 أيلول (سبتمبر) الماضي مُطالبًا بالمزيد من المساعدات العسكرية لردّ حرب الروس على بلاده.

وإذا كان منطقيا ورغائبيًا أن تعوّل روسيا على انشقاقات داخل الصفّ الغربي، غير أن ذلك لم يحصل (على الرغم من وجود حساسيات ثنائية لا سيما بين باريس وواشنطن) ولا أعراض بأنه سيتحقق في موضوع أوكرانيا على الأقل. وعلى الرغم من كلفة الموقف الغربي خصوصًا لجهة الاستغناء النهائي عن مصادر الطاقة الواردة من روسيا، غير أن هذا الغرب فضّلَ دفع ثمن باهظ في اقتصاده على القبول بالأمر الواقع الروسي في حال تحقّقَ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما كان يخطط له لأوكرانيا. ويتذكّر المراقبون أن تصدّعًا كان أصاب المنظومة الغربية وحلف شمال الأطلسي ظهر جليًّا في عهد ترامب. غير أن بوتين قدّم حين غزا أوكرانيا خدمةً لبايدن لتسهيل مهمته في رأب صدع العلاقة بين واشنطن وحلفائها وإعادة ترتيب صفوف “الناتو” الذي كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد وصفه في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 بأنه في “حالة موت سريري”.

فتحت صفقة منع الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة وما شابها من لبس بشأن العلاقة مع أوكرانيا ورشة جديدة أمام بايدن لسوق السلطة التشريعية في الولايات المتحدة لعدم الخروج عن تفاهمات الحزبين، الجمهوري والديموقراطي السابقة الداعمة من دون تحفّظ لأوكرانيا ضد روسيا. صحيح أنه من المستبعد أن يتأثّر القرار الغربي عامة بهذه الجلبة داخل البيت الأميركي، غير أنه بات على كييف وزيلنسكي تحمّل مزيدًا من الضغوط لتحقيق إنجازات عسكرية واستكمال إجراءات مكافحة الفساد داخل الإدارة الأوكرانية والتي أطاحت أخيرًا بوزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف.

يعطي موقف الجناح اليميني المتطرّف داخل الحزب الجمهوري بشأن هذه القضية ملامح استباقية للسياسة الخارجية الأميركية المقبلة، وخصوصًا في مسألة أوكرانيا في حال فوز ترامب بانتخابات العام 2024 الرئاسية. ويمثّل هذا الاستحقاق وهذا الاحتمال ضغوطًا إضافية على كلِّ المشهد الغربي الذي سيكون أسير ما ستفرج عنه صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة من أجل إعادة تأكيد أو رسم الموقف الغربي حيال الحرب في أوكرانيا ومستقبل العلاقة مع روسيا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى