لماذا جَدَلُ الحِجابِ ثمَّ العَباءة في فرنسا؟

محمّد قوّاص*

يَفضحُ الجدلُ حولَ مَنعِ العباءة من دخول مدارس فرنسا علّةً فرنسية يسهل استنتاجها في العقود الأخيرة. والمسألة لا تتعلّقُ بالنقاش التقليدي حول حضور المهاجرين داخل المجتمع على ما يمكن أن يُرصَدَ في بلدانٍ كثيرة في العالم، ولا ترتبطُ بالضرورة بمسألة الإسلام والمسلميين والإسلامويين، بل تطال قلقًا مجتمعيًا، بالغالب مُصطَنَع، لا تلمسه لدى بلدانٍ أوروبية أخرى.

في العام 2015 قرّرت المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل الموافقة على دخول حوالي مليون مهاجر من الشرق الأوسط، غالبيتهم من السوريين. دخلت مع هذه الجموع ظواهر في الثقافة والملبس بدت نافرة داخل شوارع المدن الألمانية الكبرى. أشعل الأمر صخبًا أطلقته أحزاب اليمين والتيارات الشعبوية التي تقتاتُ عادةً من تلك المسائل لتعظيم أحجامها داخل المجتمع الألماني. ومع ذلك لم يتجاوز الأمرُ حدودَ تقليديته البليدة المُملّة التي تعرفها كل المجتمعات، ولم يذهب في غلوائه إلى الحدود التي وصل إليها في فرنسا.

لفرنسا خصوصيةٌ عتيقة في مقاربة علاقتها مع الإسلام والمسلمين. والأمرُ يعود إلى سماتٍ تاريخية تتعلق بتاريخ البلاد الاستعماري في منطقة شمال أفريقيا التي يُشكّلُ المهاجرون القادمون منها الجلّ الأكبر للمهاجرين المسلمين. ولئن اتّسمت تجربة الجزائر بتجربة فرنسية-جزائرية دراماتيكية موجعة، فإنَّ الذاكرة بقيت متشنّجة متوترة في العلاقة مع شمال أفريقيا وساحلها، على ما تكشف أزمات باريس مع مالي وبوركينا فاسو وغينيا وأفريقيا الوسطى والنيجر حديثًا.

ومع ذلك، فإن تلك الذاكرة ليست سببًا كافيًا لهذه العلاقة المتوتّرة مع المهاجرين المسلمين، لا سيما الأجيال الحديثة التي لا تعرف إلّا فرنسا التي وُلِدَت فيها. ولا يمكن مقارنة إشكالية هذه العلاقة بعلاقة ألمانيا والألمان مع الجالية التركية. صحيحٌ أن توتّرًا يشوب أحيانًا تلك العلاقة في ألمانيا، غير أنَّ الأمرَ يبقى تحت خط المعقول والمقبول والسيطرة. وتبدو ثقافة العيش الفرنسي تقبل هذا النزوع إلى عدم الاعتراف بما تغيَّرَ في هذا العالم، وبما تغيّر خصوصًا داخل النسيج الاجتماعي أتنوغرافيًا وأنتروبولوجيًا، والاستمرار بالتعلّق بفرنسا الأوروبية البيضاء.

يتناسل من تاريخ الثورة الفرنسية حاضرٌ لا يزال يغرف من زادٍ عقائدي قديم. شنّت الثورة آنذاك حملة ضروس ضد الكنيسة، وسنّت على نحوٍ فريد ومثير للجدل قوانين تفصل بين الدين والحياة السياسية العامة. حصلَ أنَّ أَمرَ هذا الفصل بين الديني والسياسي قد بات ديدن الحداثة التي قامت عليها عقائد الغرب حتى لدى البلدان التي ما زالت الكنيسة تحظى بمكانة كبرى لدى المجتمع وهياكل البلاد فيها. وإذا ما يحكم ألمانيا في بعض الأحيان الحزب الديموقراطي الاجتماعي المسيحي، ويرأس ملك بريطانيا كنيسة بلاده ويفاخر رئيس أميركا بإيمانه الديني، فإن الفصلَ قائمٌ بين حيّز الكنيسة وحيّز الدولة في هذه البلدان.

بدت فرنسا في حالة صراع للحفاظ على علمنة الجمهورية وكأنها استثناءٌ ركيكٌ وجبت صيانته وترميمه وحمايته. وظل هذا الأمر مناسبة مبارزة بين الدولة، أيًا كان حاكمها من اليمين أو اليسار، والدين. وحين وصل الزعيم الاشتراكي فرانسوا ميتران إلى الحكم في البلاد على رأس حكومة ائتلافٍ اشتراكي-شيوعي، لوّح بقوانين تنال من الدعم المالي للمدارس الكاثوليكية، فكان أن سيّرت المنظمات والمؤسسات الكاثوليكية وقوى اليمين مسيرة مليونية في 24 حزيران (يونيو) 1984 أنهت قراراته.

غير أن مبارزة الدولة مع الإسلام والمسلمين اتخذت واجهات حادة حظيت بدعم اليمين وارتباك من قبل تيارات اليسار. الأمر يعبّر عن مسألةٍ فيها وجهات نظر من قبل كل الفرنسيين وتياراتهم المختلفة. وقد تطوّر هاجس الخوف من الإسلام الزاحف على فرنسا إلى درجة رواج نظرية “الاستبدال الكبير” وفق كتاب رينو كامو الذي يحمل هذا العنوان وصدر في العام 2011.

وتحذّر النظرية من مؤامرة لاستبدال المجتمع الفرنسي بسكانٍ مسلمين. صحيح أن تيارات متطرّفة عنصرية فقط تتبنّى ذلك، وبرز منها في حملة الانتخابات الرئاسية لعام 2022 التيار الذي يتزعمه الشعبوي إريك زيمور، لكن فرنسا لم تمنح الأخير إلّا أصواتًا محدودة وصلت نسبتها إلى 7 في المئة فقط. غير أن فرنسا، من خلال البرلمان، ذهبت إلى المصادقة على قانون صدر في العام 2004 منع الحجاب الإسلامي من دخول المدارس في البلاد.

على بُعدِ 40 دقيقة بالطائرة من باريس، لا تنشغل بريطانيا بجدلٍ من هذا النوع. وفيما تحارب فرنسا الحجاب والرموز الدينية، فإن الحجاب ترتديه ارتداءً عاديًا بعض شرطيات بريطانيا اللواتي إلى جانب زملائهن من أصحاب العمامة السيخية مثلًا وغير ذلك هم مَن سيتولون التحقق من جوازات سفر المسافرين، وأكثرهم من مواطني المملكة المتحدة، من دون أن يُعتَبرُ أمر ذلك غريبًا بالنسبة إلى المواطنين والأجانب.

ترتبك فرنسا حيال قرار وزير التربية بمنع العباءة من دخول المدارس. لم يخفف من هذا الارتباك مباركة الرئيس الفرنسي لقرار وزيره تحت مسوغ الدفاع عن المدرسة الفرنسية وتحصينها من آفات التفرقة الدينية. تجمع المؤسسات المسلمة أن العباءة ليست هندامًا إسلاميًا ولا علاقة لها بالدين بل هي ملبس يرتديه المسلمون وغير المسلمين، وهذا صحيح، حتى أن دور الأزياء الفرنسية الكبرى والشهيرة لطالما تُنتج العباءات من ضمن تشكيلاتها التي تتوجه بها إلى المرأة في العالم.

المدافعون عن قرار الوزير يقرّون بأن العباءة ليست إسلامية لكن الغالبية الساحقة ممن يرتدينها هنّ مسلمات، ووفق ذلك وجب منع الظواهر التي تضع حدودًا ذات طابع ديني بين تلاميذ مدارس فرنسا. بالمقابل، لا تغيب الأسئلة بشأن رفض شريحة من المتحدّرين من بلدان مسلمة، لا سيما الذين ولدوا في فرنسا، من الاندماج داخل بيئة البلد، وخصوصًا داخل مدارسه، وعما إذا كانت وراء الصدام مع قوانين الجمهورية أغراضٌ وأجنداتٌ ليست بريئة. وإذا ما كان التميّز باللباس يثير احتكاكات في تركيا المسلمة، فطبيعي أن تثير العباءة والبوركا والشادور وغيرها ردود فعل بشأن طبيعة فرنسا وأسلوب عيش الفرنسيين.

وفيما ستحتكم فرنسا إلى “مجلس الدولة” للتأكد من اتّساق قرار الوزير مع قوانين البلاد، لا سيما قانون منع الحجاب، فإن جدالًا من هذا النوع سيبقى يتكرر كلما أُريدَ إشغال العامة وشدّ انتباهها إلى مسائل أكثر خطورة، سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو المناخ أو الحرب في قلب أوروبا التي تهدد العالم بدمارٍ شامل.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى