قمّة “بريكس”: رسائلُ “الجنوب العالمي”

الدكتور ناصيف حتّي*

تُشَكِّلُ قمّةُ مجموعة “بريكس”، التي انعقدت في جنوب أفريقيا بين 22 و24 آب (أغسطس) الجاري، محطّةً أساسية في انطلاقِ مَسارِ ما يُعرَفُ بالجنوب العالمي الذي صارَ عنوانًا ومُحفِّزًا للتعاون بين قوى مختلفة بعد سقوطِ ثُنائية شرق وغرب التي طبعت نظام الحرب الباردة. ثُنائيةٌ قامت على مواجهةٍ بأشكالٍ مُختلفة بين نموذَجَين مُتناقِضَين في السياسة والاقتصاد نشأت إلى جانبها حركة عدم الانحياز التي أيضًا اضمَحَلَّ دَورُها مُقارنةً بالماضي. نظامُ ما بعد الحرب الباردة، الذي لم تستقر قواعده بعد، شهد تغيّرًا لا بل تحوّلًا في العديد من الأولويّات والسلوكيّات وأنماطِ العلاقات الدولية التي قامَ على أساسها النظام الدولي السابق. نستطيعُ أن نتحدّثَ اليوم عن ثُنائيةٍ جديدة حيث حلَّ مفهوم الشمال مكان الغرب، والجنوب مكان الشرق. لا نستطيع القولَ أنَّ أطرافَ الجنوب لها المصالح والأولوِيّات ذاتها، ولكنها  تشترك في الرؤية بمفهومها الشامل والواسع، ولو بقيت هناك بعض الاختلافات التي تبقى ثانوية تجاه المُشترَك، حول ضرورة بناءِ نظامٍ عالمي جديد أكثر توازنًا، وبالتالي أكثر تمثيلًا وتعبيرًا عن مصالح الجميع. نظامُ يُعزّزُ مفهومَ “التعدّدية الشاملة” في التعاون الدولي، وبالأخصّ في إطارِ الأُممِ المتّحدة ووكالاتها وأجهزتها المختلفة، وليس التعدّدية المحدودة أو الانتقائية والتي لا تعكس بُنيَةَ القوّة في النظام العالمي الجديد والصاعد.

مجموعة “بريكس”، التي أُنشِئت في العام 2009 وضمّت أربعَ دول: روسيا الاتحادية، الصين الشعبية ،الهند والبرازيل، وانضمّت إليها جنوب أفريقيا في كانون الأول (ديسمبر) 2010، تُمثّلُ حوالي 43 في المئة من سكان العالم وكذلك ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وقد وصل التبادل التجاري بين اعضائها إلى حوالي 162 مليار دولار في العام الفائت. ومن أكثر ما يدلُّ على الاستقطاب الذي تحظى به ال”بريكس” في عالمِ الجنوبِ الناشئ (من حيث الوعي بالانتماء المَصلَحي العام إلى هذا المفهوم كشرطٍ للتعاون الفعّال والمُنتِج والذي هو لمصلحة الجميع) أنَّ 23 دولة قدمت طلبًا للانضمام الى المجموعة. أضف أنَّ حوالي أربعين دولة ابدت عن رغبتها بالانضمام لهذا التجمع الناشط والواعد. ولم يكن من السهل التوصّل إلى التوافق، الشرط الضروري لفتحِ البابِ أمامَ انضمام الدول المُرَشّحة، حول ما يُعرَفُ بالمبادىء الإرشادية والمعايير وإجراءاتِ الانضمام خصوصًا في ظلِّ الانقسام الذي لم يكن خافيًا بينَ مَن يُريدُ فتحَ البابِ بشكلٍ مَرنٍ لتوسيع التجمّع، ويمثّل هذا الاتجاه بشكلٍ خاص الموقفان الروسي والصيني، بهدف خلق تجمّعٍ مُقابلٍ للحلف الغربي الذي يبدو أنه يُجري إعادة إحياء دوره بقوة مع أزمة أوكرانيا، وبينَ مَن يُريدُ إبطاءَ عملية الانضمام والتركيز على إعطاء وضعية “الشريك لبريكس” للدول التي تستوفي شروط الانضمام حتي ياتي ذلك بشكل تدريجي ويُمكن بالتالي استيعابه .

الاتفاقُ بين الطرفين، أو تحديدًا بين وجهتَي النظر اللتين يمكن اختصارهما بأولويةِ تعميقِ التعاون أو الذهاب نحو التوسيع، قامَ على تسويةٍ مفادُها فتح باب الانضمام بشكلٍ محدودٍ نسبيًا وتدريجي. جرى الترحيب  بأعضاءٍ جُدد استوفوا شرطَين بشكلٍ كبير أو واحدًا منهما على الأقل، وهما الأهمية الجيوسياسية أو الأهمية الجيواقتصادية للدولة المُرشَّحة ودورها بالتالي الوازن والناشط والمؤثر على الصعيدين الإقليمي والدولي. وحصل “التوسيع الثاني” على هذا الأساس. وقد شهد دعوة كلٍّ من مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران وأثيوبيا والأرجنتين للانضمام في مطلع العام المقبل. أضِف إلى ذلك، كما أشرنا، إبقاء الباب مفتوحًا للانضمام لاحقًا لدولٍ مرشَّحة في القمّة التي ستُعقَد بعد عام، وكذلك تشجيع الانضمام، كمرحلةٍ انتقالية، وشروطها ليست سهلة أيضًا، إلى مجموعة دول الشركاء ل”بريكس”.

جدولُ أهداف وطموحات المجموعة يحملُ نظرةً شاملة في ما يتعلق بمجالاتِ التعاون المختلفة، والتي تمتدُّ  من السياسي إلى الاقتصادي والتجاري، إلى قضايا المناخ والبيئة والتعاون في مجال التكنولوجيات الحديثة، إلى جانب قضايا التنمية المُستدامة. كما تهدفُ إلى تعزيزِ وخلقِ أجهزةِ وآلياتِ تعاونٍ في طليعتها، بدون شك، مصرف التنمية الجديد منذ العام 2015 وكذلك البحث في أفضلِ السُبُلِ والوسائلِ لمزيدٍ من الاستقلالية المالية والنقدية من خلال الابتعاد التدريجي عن الدولار عبر استعمال العملة الوطنية أو نظام المقايضة في مجالاتٍ مُعَيَّنة إلى أن ياتي اليوم الذي يمكن أن يحملَ ولادة عملة جديدة ل”بريكس” يكون التداول فيها ليس أقل أهمية من التداول بالدولار بسبب حجم اقتصادات هذه الدول: أهدافٌ، من دون شك، طموحة وأمامها الكثير من العوائق.

حَظِيَ الإقليمُ الأفريقي وكذلك الشرق أوسطي مُقارنةً مع الأقاليم الأُخرى في عالمِ الجنوب بأهمّية خاصة في قمة “بريكس”. ولم يكن ذلك بالمُستَغرَب إذ أنَّ كُلًا من الإقليمَين بما يملكانه من موقعٍ استراتيجي جذاب وإمكاناتٍ اقتصادية متنوّعة وهائلة يُشكّلُ مسرحًا أساسيًا للتنافس في كافة المجالات بين القوى الكبرى في مسارٍ تحكمه لعبة التنافس والصراع والتعاون لإقامةِ نظامٍ عالميٍّ جديد. هدفٌ يحظى بأولوية كبرى عند دولِ المجموعة، ويرى أكثر من مراقب أنَّ هذا الهدف يُشكّلُ علّة وجود المجموعة أو أحد أهم حوافز التعاون بين اعضائها، رُغمَ ما أشرنا إليه سابقًا، وهذا أمرٌ طبيعي في العلاقات بين الدول، من وجودِ اختلافاتٍ أو تمايزاتٍ مَصلَحِيَّة بينها في العديد من المجالات.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى