من الرياض إلى جدة
مايكل يونغ*
السياسي اللبناني الذي سيراقب عن كَثَبٍ قمّة الجامعة العربية في مدينة جدّة يوم الجمعة هو الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. هذا لأنه بالتأكيد يجب أن يتذكر ما حدث لوالده، كمال، بعد قمّةٍ سعودية أخرى، في الرياض، في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1976.
في ذلك الوقت، كان كمال جنبلاط سافر إلى القاهرة لتأمين المساعدة المصرية ضد سوريا، التي دخل جيشها لبنان في حزيران (يونيو) 1976 لمحاربة الفلسطينيين وحلفائهم في الحركة الوطنية اللبنانية (على الرغم من أن دمشق كانت نشرت وحدات من جبش التحرير الفلسطيني الموالي لها في وقت سابق من ذلك العام). انقسمت سوريا ومصر حول جهود الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد لمواجهة وإيقاف الفصائل الفلسطينية. وجد جنبلاط، المتحالف مع الفلسطينيين، أُذُنًا مُتعاطفة في القاهرة، حيث اقترح عليه المسؤولون هناك أن يسافر أيضًا إلى ليبيا لطلب المساعدة من الزعيم الليبي معمر القذافي. بينما كان جنبلاط في طرابلس، تصالح المصريون والسوريون في قمة الرياض. عاد جنبلاط إلى القاهرة ووضعه المصريون بفظاظة على متن سفينة ليعود إلى الوطن. بعد بضعة أشهر اغتال السوريون الزعيم الدرزي المُنعَزِل.
كانت الرسالة هي أن الانتكاسات العربية البينية تقلب الحسابات السياسية على نحوٍ ثابت من جميع الجوانب، وأن الكثير من الناس يتراجعون في هذه العملية. المصالحة العربية الأخيرة مع سوريا، والتي ستكرّسها قمة جدّة هذا الأسبوع، ترتكزُ على نسيجٍ من الجُثث. والأسوأ من ذلك، أنه حتى الآن يبدو أن نظام الرئيس السوري بشار الأسد لم يُسَلّم أو يُعطي إلّا القليل لتتم دعوته مرة أخرى إلى نادي القادة العرب. دمشق مستمرة في مقاومة عودة ملايين اللاجئين الذين هجّرتهم. لا تزال تجارة الكبتاغون مزدهرة، حتى لو كان هناك احتمال أن دمشق، لأسبابٍ تتعلق بالملاءمة، ساعدت الأردن على قتل أحد كبار تجار المخدرات في الآونة الأخيرة؛ والقوات الإيرانية والميليشيات الموالية لإيران لا تزال موجودة في سوريا.
الأمرُ المُقلق بالقدر عينه هو أن دول الخليج قد تسعى للعودة إلى لبنان عبر سوريا. من المحتمل أن يكون افتراضهم أنَّ لا شيءَ سيُشجّع الأسد على التراجع عن تحالفه مع إيران وحلفائها بقدر ما يكون له دور أكبر في الشؤون اللبنانية. وسنرى ما سيحدث بعد جدة لمصير سليمان فرنجية الرئاسي. فهو يُجسّد أكثر من أيِّ شخصٍ آخر بقايا النفوذ السوري في لبنان.
من الأسئلة التي تطرحها إمكانية عودة جزئية لسوريا، هل لدى دمشق شبكات لبنانية يمكن الاعتماد عليها لإعادة تأكيد بعض قوتها؟ يمكن للأسد الاعتماد على عددٍ لا يُستهانُ به من البرلمانيين السنّة، لا سيما من طرابلس وعكار، وكذلك على بعض ما يسمى بالبرلمانيين المستقلين، ونائبي الأحباش، وثلاثة من كتلة الطاشناق، ناهيك عن أعضاء كتلة نبيه بري. حتى لو كان رئيس مجلس النواب يستطيع المناورة بين سوريا و”حزب الله”.
ويُصادِفُ أيضًا أن الأسد له نفوذٌ على عددٍ كبيرٍ من السوريين في لبنان. ليس الجميع مُعاديين لنظام الأسد، وقد يرى البعض مزايا في العمل نيابة عنه. قد لا يكون هذا كافيًا لمنح الأسد دورًا مُهيمنًا، مُنفصلًا أخيرًا عن “حزب الله”، لكنه قد يعني أن السوريين سيكون لهم من الآن فصاعدًا صوتٌ أكبر في ما يحدث في بيروت.
سيعني عدم وجود جهازٍ أمني لدعم المطالب السورية أن الأسد سيستمر في الاعتماد على “حزب الله” لفَرضِ توجّهات السياسة العامة. قد يكون لدى السوريين أيضًا مجالٌ أقل للاستفادة من شبكات الفساد في لبنان، على الرغم من أن إعادة إعمار سوريا، بمجرد أن تبدأ، ستولد إيرادات كبيرة تساعد على تعويض ذلك. لن تعود القيادة السورية قريباً إلى سنواتها الذهبية في نهب لبنان.
لنتذكر آخر مرة تعاون فيها السوريون والسعوديون حول لبنان. بدأ ذلك في كانون الثاني (يناير) 2009، عندما تصالح الملك عبد الله مع الأسد في القمة الاقتصادية العربية في الكويت، بعد أربع سنوات على اغتيال رفيق الحريري، الذي ألقى السعوديون وعائلة رئيس الوزراء السابق باللوم فيه على سوريا. لا بدَّ أنَّ وليد جنبلاط كان يوازي ذلك بما حدث لوالده. لقد أدرك أن خطوة الملك عبد الله ستُجبر سعد الحريري، نجل رفيق، على التصالح مع الأسد. الزعيم الدرزي لا يريد أن يُترَكَ وحيدًا ليجفّ كما فعل كمال جنبلاط. لذلك، في نيسان (إبريل) 2009، على ما يبدو، سَرَّبَ مقطع فيديو لنفسه، تم التقاطه في منزل شيخ درزي، حيث استخفَّ بالسنّة وبدا أنه يصف الموارنة بـ “النوع السيئ” أو “البذرة السيئة”. كانت هذه إشارته الى السوريين بانه مستعدٌ لتخفيف التوتر مع الشيعة وسوريا، وإعادة النظر في علاقته مع السنّة والموارنة.
في النهاية، ثَبتَ أن جنبلاط كان على حق عندما اتبع الحريري القيادة السعودية وزار دمشق في كانون الأول (ديسمبر) 2009. واضطر جنبلاط إلى الانتظار لفترة أطول قليلًا، حيث التقى الأسد في 31 آذار (مارس) 2010 ، قبل تناول العشاء في تلك الليلة، لسخرية القدر، في مطعمٍ إيراني. لكنه على الأقل كان يناور بعيدًا من عدائه لسوريا بعد العام 2004 من دون أن يترك أي ريش، إلى أن أدت الانتفاضة السورية في العام 2011 إلى انفصال جديد. ذكّرني ذلك بشيء قاله لي جنبلاط بعد اغتيال الحريري بفترة وجيزة: “يجب أن نتوصل إلى اتفاق مع سوريا. الذين تبعوا الحريري لن يغادروا لبنان بهذه السهولة”. في الواقع انسحب السوريون بعد ذلك بوقت قصير، لكن جنبلاط لم يراجع الأساس المنطقي وراء ملاحظته.
لقد كان التفاهم السعودي-السوري دعامة أساسية لنهج المملكة العربية السعودية، وبالتالي دول الخليج، في التعامل مع لبنان. بدأت الأمور في قمة الرياض في العام 1976. وكان السعوديون ضغطوا على حافظ الأسد للمشاركة في القمة، وهو ما كان الرئيس السوري مترددًا في القيام به لأنه كان سيوقف هجومه في لبنان ويجبره على الدفاع عن نفسه ضد القادة العرب الداعمين للفلسطينيين. لكن بمجرد قبول الأسد، حصل على أكثر من تعويض بإنشاء قوة الردع العربية، التي شكلت فيها القوات السورية أكبر فريق. بعد ذلك، لم يتحدَّ السعوديون الهيمنة السورية. عندما أصبح رفيق الحريري رئيسًا للوزراء بعد الحرب، وقف عند تقاطع المصالح السعودية والسورية. في حين أن اغتياله دفع السعوديين إلى إعادة النظر في ترتيبهم، فإن الملك عبد الله قد عكس موقفه بعد أربع سنوات.
هذا لا يعني أن قمة هذا الأسبوع ستكرر بأي حال من الأحوال نتيجة العام 1976. سيطرة إيران على لبنان لا تجعل ذلك مُمكنًا. ومع ذلك، قد يكون السعوديون ودول الخليج بشكل عام على المسار الصحيح للعودة إلى التضاريس المألوفة، والتي تنطوي على استخدام سوريا إسفينًا لتوسيع الرهانات العربية في لبنان، بغض النظر عما يُفضّله اللبنانيون. في العالم العربي، إن التخلصَّ من القديم نادرًا ما يعني استبداله بالجديد.
- مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.