أوكرانيا… الحربُ التي باتت ضرورة!

محمد قواص*

قد لا يكون من المبالغة القول إنَّ تصدّعًا يُعطّلُ سيرورة النظام الدولي بسبب الحرب في أوكرانيا. تقف المعارك التي تجري داخل بلد واحد في هذا العالم وراء التضخّم العالمي وأزمة الطاقة وتعثّر سلاسل التوريد ورواج الاحتجاجات الشعبية وتنامي النقص في توزيع الحبوب…إلخ، لكنها أيضًا تَحُولُ دون حلِّ كثيرٍ من ملفات التوتّر في العالم.

والحربُ التي تجري في أوكرانيا هي حربٌ عالمية حقيقية تُشارك بها بالوكالة عشراتٌ من دول العالم. تحظى روسيا بحلفٍ مع دولٍ مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية وبيلاروسيا وغيرها، ناهيك من تنامي عدد الدول التي تتّخذ موقفًا محايدًا (وهذا مكسب لروسيا) وتلك التي تلتزمُ مواقفَ متفهّمة متعاونة اقتصاديًا وترفضُ المشاركة في نظام العقوبات الذي تفرضه المنظومة الغربية ضد موسكو.

بالمقابل فإن التحالفَ الغربي برمّته، بأجنحته الأطلسية والآسيوية، مُنخَرِطٌ بشكلٍ أو بآخرٍ في دعمِ أوكرانيا بالموقف والسلاح والمال. وعلى عكس “معسكر روسيا” الذي يتّسم بالتوسّع والانسجام، فإن “معسكر أوكرانيا” مُتعدّد الطبائع، مُتباين الأجندات، خاضعٌ للرأي العام في كل دولة، متوتّرٌ في حساباته ومتناقضٌ في مصالحه.

ولئن أظهر المعسكر الغربي منذ بداية الحرب في أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022 وحدةً مُتدَرِّجة لم تكن مُتَوَقّعة، واستعاد الحلف الأطلسي روحًا كان خُيّل أنه فقدها لدرجة أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان أعلن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 أنه في “موت سريري”، غير أن دول المنظومة الغربية دائمة التساؤل بشأن نجاعة ديمومة الحرب والمنفعة من استمرار الدعم العسكري غير المشروط والمتصاعد لأوكرانيا.

غير أن “الجدل” هو جُزءٌ من تركيبةِ الأنظمة الديموقراطية، ومن طبيعة عملية اتخاذ القرار داخلها خصوصًا حين تجتمع داخل تجمّعٍ كالاتحاد الأوروبي (27 دولة). ولأن أجنداتٍ انتخابية تتدخّل في التأثير في طبيعة الخيارات، ولأنَّ الهواجسَ الأمنية تتفاوتُ بين دولةٍ وأخرى (دول شرق أوروبا مقاربة بدول غربها وجنوبها مثلًا)، ولأن المستويات الاقتصادية تختلف بين الولايات المتحدة وإيطاليا وألمانيا والبرتغال… إلخ، فإن مصالح المكوّنات الغربية مختلفة ومتنافسة أحيانًا، وتنظر إلى الحرب في أوكرانيا من زوايا متباعدة.

واللافتُ أنَّ كلَّ العالم ينظرُ إلى حربٍ تجري في بلد واحد من بين أكثر من 190 بلدًا في العالم بأنها مفصليّة في تحديد هوية وتحوّلات النظام الدولي. ينسحبُ الأمرُ نفسه على طموح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لا يَخفي التوقَ إلى قيام نظامٍ دولي جديد، وليس بعيدًا من خطط الزعيم الصيني شي جين بينغ الذي يَعِدُ بأن تعمل بلاده مع روسيا على تشكيل “عالمٍ مُتعدّد الأقطاب”. ووفق هذا الاستشراف وذلك الطموح تصبحُ حربُ أوكرانيا مادةً للدفاع عن نظامٍ دوليٍّ راهن من جهة وتفعيلَ سياقٍ لخلق بدائله من جهة أخرى.

على هذا يبدو العالم في مأزق. تقتضي المصالح العاقلة العمل على تعبيد المخارج لإنهاء حربٍ طالت وباتت ثقيلة على كل العالم بجهاته الأربع. لكن تلك المصالح، لا سيما في بُعدِها الاستراتيجي الطويل الأمد، عالقة في متاهةِ المقاربة المثلى لتعظيم المكاسب من هذه الحرب قبل الخروج منها وإخراج مآلاتها.

باتت المنظومة الغربية برمتها، وليس فقط الولايات المتحدة، ترى أن منعَ هزيمة أوكرانيا هو معركتها للحفاظ على “الغرب” فكرًا وقِيَمًا ومصالح. وعلى عكس ما يُسوَّق عن تضادٍ في نظرَتَي أوروبا والولايات المتحدة، فإن أوروبا تتخوّف من “خطرٍ استراتيجي أمني حضاري” يأتي من روسيا البوتينية يستدعي تدعيم التحالف مع واشنطن ورفع مستويات الدعم العسكري لأوكرانيا. ويظهر هذا الهاجس الأمني في أقصى توتّره لدى الدول الأكثر قُربًا من ذلك الخطر مثل بولندا وتشيكيا وفنلندا ودول البلطيق.

بالمقابل فإن الولايات المتحدة، إضافةً إلى الأجندة المُعادية لروسيا والمُدافِعة عن دولة تتطلّع إلى فضاء غربي ديموقراطي مثل أوكرانيا، تخوضُ في هذا البلد ومن خلاله حربًا استباقية ضد الصين. فاستراتيجيو واشنطن يرون في الموقف من أوكرانيا نموذجًا لتشجيع طموحات الصين، لا سيما في تايوان، أو ردعها، وأن القرارات المتعلّقة بالحرب هناك تُحدّدُ أيضًا موقع واشنطن وحلفائها من الصراع في المُحيطَين الهندي والهادئ.

ولأنَّ لحربِ أوكرانيا حساباتٍ صينية، فإن هندسةَ إنهائها تصبح أكثر صعوبة وتعقيدًا. وعلى هذا فإن الغرب يدفع بدبابات ليوبارد وأبرامز ومقاتلات أف-16 وصواريخ تكتيكية… إلخ، لكن بجرعاتٍ ما زالت محسوبة. ولا عجب أن وثائق البنتاغون تتحدّث عن خططٍ لحربٍ طويلة الأمد في هذا البلد.

تنظرُ الصين بدورها إلى الحرب في أوكرانيا من الزاوية نفسها. لن تسمحَ بكين بهزيمةٍ تتكبّدها روسيا في وحول ذلك البلد. صحيحٌ أنَّ الموقفَ الرسمي للصين لم يؤّيّد الحربَ التي أعلنها الحليف الروسي، لكن خطابَ بكين الذي لم يَدِن تلك الحرب دأبَ على اتّهامِ الغرب بالتسبّب بها. وصحيحٌ أنَّ الصين لم تُرسِل رسميًّا أسلحة فتّاكة إلى روسيا واكتفت بفتح مجالها الاقتصادي لإنعاش الاقتصاد الروسي ووقايته من حمم العقوبات، غير أن موقفَ الصين قد يتبدّل، وهذا ما يُحذّرُ الغربُ منه، باتجاهِ تقديمِ الدعم ِالعسكري المُباشَر إذا ما استدعى توازن الميادين ذلك. ولا غرابة هنا من رواجِ حججٍ صينية تستغربُ استهجان الغرب لدعمٍ عسكريٍّ صيني مُحتَمَلٍ لروسيا، فيما هذا الغرب يُغدِقُ السلاح على تايوان.

والأرجحُ أنَّ حسابات إنهاء الحرب في أوكرانيا ما زالت تحتاجُ إلى معارك كبرى جديدة تستعدُّ لها موسكو وكييف. يُعوّلُ طرفَي الحرب، روسيا وأوكرانيا، على فرضِ أمرٍ واقعٍ ميداني يُشجّعهما على الذهاب إلى التفاوض وفق أفضل الشروط. بالمقابل فإن أطرافَ الصراع الكبار في العالم يتطلّعون بصعوبة إلى ما ستنتجه معارك الربيع والصيف من خطوط تماسّ داخل أوكرانيا قد تفرض خطوطًا جديدة داخل المشهد الدولي الكبير. والمأزق ألّا تُحدث المعارك المأمولة أَيَّ انقلابٍ في موازين القوى بحيث تصبح الحرب استنزافًا لا أفق لنهايته.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى