تجاربُ الأردن تُسلّطُ الضَوء على حدود العلاقات المتجدّدة مع سوريا

تولّى الأردن أخيرًا دفّةَ القيادة في التقارب بين الدول العربية وسوريا. لكن تجربة المملكة الهاشمية تُظهر أن تطبيع العلاقات الثنائية، من دون تعاون إقليمي، لا يُمكن أن يحصد سوى إنجازات محدودة.

الوجود الإيراني في جنوب سوريا يهدد العلاقات السورية-الأردنية بشكل دائم

أرميناك توكماجيان*

صحيحٌ أن سوريا والأردن شهدا علاقات طبيعية لفترات متقطّعة، إلّا أنهما غالبًا ما كانا على خلافٍ خلال نصف القرن الفائت. وفي صيف العام 2021، حين صرّح العاهل الأردني عبدالله الثاني في مقابلةٍ مع شبكة “سي أن أن”، بأن “حكم [الرئيس السوري] بشار [الأسد] يتمتّع بالاستمرارية”، وأن ثمة حاجة إلى “التواصل مع النظام”، كان يستعّد للانفتاح مُجَدَّدًا على سوريا بعد فترة من العداوة. الجدير بالذكر أن العاهل الأردني كان أول زعيمٍ عربي يدعو الأسد إلى التنحي بعد اندلاع الانتفاضة السورية في العام 2011، وكان من بين أول الساعين إلى إعادة الانخراط مع النظام السوري. لكن بعد مرور عام تقريبًا، لا تزال العلاقات السورية-الأردنية باردة والإنجازات المُحَقَّقة محدودة.

هناك تحدٍّ أساسي لإعادة الانخراط هذه المرة يتمثّل في أن سوريا والأردن على السواء مُقَيَّدان بقرارات حلفائهما الأكثر قوّة. فدمشق تمتلك مجالًا أصغر لاتّخاذ القرارات منفردةً في ما يتعلق بالقضايا السياسية الداخلية والخارجية. وينطبق هذا بشكلٍ خاص على خلفية علاقتها مع إيران. وعلى الرغم من أن الأردن لم يعش الحرب كجارته الشمالية ولم يَلحَق به دمارٌ كالذي لحق بها، فقد اضطر إلى أخذ آراء حلفائه، ولا سيما الولايات المتحدة، في الاعتبار. وفي الوقت نفسه، لا يزال الصراع السوري من دون حلّ، ما يُبقي النظام في حالة خلاف مع عدد كبير من الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الرئيسة، ويُخلّف آثارًا جانبية قد تُلحق الضرر بالأردن.

تتجلّى هذه التحديات بصورةٍ أكثر وضوحًا على طول الحدود السورية-الأردنية. فمنذ العام 2011، شهدت الحدود السورية كلّها تحوّلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية جذرية. ولا تختلف الحدود الأردنية عنها في ذلك، إذ باتت المنطقة الحدودية الأوسع نقطة مواجهة إقليمية بين نظام الأسد وحلفائه من جهة، ولا سيما إيران و”حزب الله”، اللذَين عززا وجودهما ونفوذهما في جنوب سوريا، والأردن وإسرائيل ودول الخليج العربي من جهة أخرى. وفي هذا السياق، باتت القضايا الحيوية المُرتَبطة بالحدود السورية- الأردنية، بما فيها القضايا الأمنية وعسكرة إيران للمناطق الحدودية الجنوبية السورية، تشكّل مخاوف إقليمية وتتطلّبُ حلولًا إقليمية.

تجدرُ الإشارة إلى أن المجالات التي استطاعت دمشق وعمّان إحراز تقدّم فيها هي تلك التي كانت فيها قادرةً على العمل بصورة مستقلة أو عند وجود اتفاق إقليمي أو في الحالتَين معًا. وتُشكّل العلاقات الاقتصادية عبر الحدود المثال الوحيد على التقدّم الملموس المُحرَز، إذ تكشف تجربة الأردن أن قيام دولة صغيرة بإعادة الانخراط مع سوريا في إطار العلاقات الثنائية لن يكون له سوى تأثير محدود في تحسين العلاقات، ولن يُشكّلَ حافزًا كبيرًا يدفع دمشق إلى تغيير سلوكها في القضايا الإقليمية الخلافية. من المرجّح إلى حدّ كبير أن يحدثَ التغيير بعد التقارب بين دمشق والجهات الفاعلة الإقليمية الأكثر قوة، على غرار المملكة العربية السعودية. مع ذلك، مثل هذه النتيجة اليوم لن تلغيَ حقائق ما بعد الحرب في سوريا، وخصوصًا تداعيات الوجود الإيراني.

تقارب بإنجازات محدودة

قبل قيام الأردن وسوريا بإعادة إحياء علاقاتهما في صيف العام 2021، كانت لدى الأردن مجموعة من المخاوف المُتعلّقة بحدوده الشمالية. فقد عبر مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الحدود إلى الأردن، مستبعدين احتمال عودة فورية إلى بلادهم. الواقع أن إرساء الاستقرار في جنوب سوريا بعيد المنال، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى توسّع وجود إيران و”حزب الله” هناك، إضافةً إلى عمليات تهريب المخدرات والأسلحة إلى الأردن. وقد كانت علاقات الأردن الاقتصادية مع جارته محدودةً بسبب إغلاق الحدود، ما أثّر سلبًا في اقتصاده. ولم يكن الإبقاء على العزلة السورية يصبّ في مصلحته، إذ فشل في إيجاد حلول لمشاكله العالقة. وقد سعت سوريا بدورها إلى الاندماج من جديد في الاقتصاد الإقليمي، وأرادت أن ينأى الأردن بنفسه عن مجموعات المعارضة السورية.

لكن، منذ ذلك الحين وحدها التبادلات التجارية الثنائية شهدت تحسُّنًا فعليًا. فبعد إقفال الحدود في نيسان/أبريل 2015، شهدت الحركة التجارية تراجعًا ملحوظًا، باستثناء الفترة التي أُعيدَ فيها فتح الحدود بصورةٍ جُزئية بين تشرين الأول/أكتوبر 2018 وآذار/مارس 2020. وبعدها بفترة قصيرة، أدّى تفشّي جائحة كوفيد-19 إلى الحدِّ من جميع التبادلات من جديد. وفي أعقاب التقارب الأردني-السوري، أُعيدَ فتحُ معبر جابر-نصيب الحدودي بشكل كامل أمام التبادلات التجارية والمسافرين. ووفقًا لدائرة الإحصاءات العامة الأردنية، لدى مقارنة الفترة بين تموز/يوليو 2020 وحزيران/يونيو 2021 (خلال فرض القيود المتعلقة بجائحة كوفيد-19) بالفترة بين تموز/يوليو 2021 وحزيران/يونيو 2022 (عند إعادة فتح الحدود بعد استئناف العلاقات الثنائية)، نجد أن الواردات الأردنية ارتفعت من 51 مليون دولار إلى 75 مليونًا، والصادرات من 62 مليون دولار إلى 87 مليونًا، والسلع المُعاد تصديرها بأكثر من الضعف من 22.5 مليون دولار إلى 46.5 مليونًا.

ومنذ العام 2019، أخذ الميزان التجاري يميل لصالح عمّان، إذ يمكن أن يكون الأردن استفادَ من إقبال سوريا على شراء السلع وعزلها عن الاقتصاد العالمي. وفي حين تشابهت قيمة الصادرات الأردنية إلى سوريا ووارداتها منها في العاميَن 2017 و2018، تغيّر هذا الواقع خلال السنوات الثلاث الماضية. ففي العام 2019، بلغت قيمة واردات الأردن حوالى 43 مليون دولار، فيما بلغت قيمة الصادرات 95 مليونًا. وفي العام 2020، تراجعت التبادلات التجارية الإجمالية على خلفية القيود المفروضة بسبب جائحة كوفيد-19، لكن قيمة الصادرات الأردنية بلغت 63.8 مليون دولار، بينما بلغت قيمة الواردات 44.7 مليونًا. وفي العام 2021، بلغت قيمة الصادرات 118 مليون دولار تقريبًا، في حين ناهزت قيمة الواردات 71 مليونًا. وتكشف أحدث البيانات الصادرة عن الفترة بين كانون الثاني/يناير وتموز/يوليو من العام 2022 أن هذا الاتجاه مستمرّ، إذ يصدّر الأردن أكثر مما يستورد بنحو 40 في المئة. وبحسب قاعدة بيانات الأمم المتحدة لإحصاءات تجارة السلع الأساسية، بلغ حجم التبادلات التجارية الإجمالية (باستثناء السلع المُعاد تصديرها) 190 مليون دولار في العام 2021، مع الإشارة إلى أن هذا الرقم بقي صغيرًا، إذ إنه لا يمثّل سوى 30 في المئة من أعلى رقم سجّلته هذه التبادلات على الإطلاق والبالغ 670 مليون دولار في العام 2007. بيد أنه سجّل زيادةً بنسبة 76 في المئة تقريبًا بالمقارنة مع تسجيله 108,000 دولار في العام 2020.

نَجَمَ الارتفاعُ في حجم التبادلات التجارية عن القرارات التي اتّخذتها سوريا والمملكة الأردنية الهاشمية بتعديل السياسات الحدودية وبعض الأنظمة والقوانين الجمركية لتسهيل الحركة التجارية. ولم يكن هذا ليحدث لو لم يحصل الملك عبدالله الثاني على الضوء الأخضر من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في تموز/يوليو 2021. فقبل ذلك، عمدت إدارة دونالد ترامب إلى عرقلة جهود الأردن لإعادة تفعيل التجارة، إذ إنها توقعت أن يلتزم الأردن باستراتيجيتها لعزل سوريا.

يستطيع الأردن وسوريا المضي قدمًا بخطواتهما إذا ما حَظيت بدعم القوى الخارجية النافذة. ويتمثّل أحد الأمثلة على ذلك في موافقة الولايات المتحدة في العام 2021 على مشروعٍ لتزويد لبنان بالغاز والكهرباء. فقد حاولت إدارة بايدن جُزئيًا التصدّي ل”حزب الله”، الذي أراد استيراد النفط الإيراني الخاضع للعقوبات لتخفيف نقص هذه الموارد في بلد يواجه أزمة مالية عميقة. وفي آب/أغسطس 2021، صادقت واشنطن رسميًا على اتفاق مُمَوَّل من البنك الدولي لاستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن إلى لبنان عبر سوريا. ووقّع وزراءٌ من هذه الدول الإتفاق في أيلول/سبتمبر 2021.

كانت لجميع الجهات الفاعلة المَعنية مصلحة في إبرام الاتفاق. فلبنان سيحصل بموجبه على موارد الطاقة التي هو بأمسّ الحاجة إليها، وسوريا ستتقدّم خطوة على طريق إعادة الاندماج في الاقتصاد الإقليمي، إضافةً إلى حصولها على مدفوعات عينية لقاء السماح بمرور الغاز والكهرباء عبر أراضيها، ومصر ستُصدّر غازها والأردن كهرباءه. وفي حين لم تكن إسرائيل جُزءًا من الاتفاق رسميًا، فقد وافقت عليه بهدف الحدّ من نفوذ إيران وتصدير غازها عبر مصر. وعلى الرُغمِ من هذه التحضيرات كافة، لم يدخل هذا الاتفاق حيز التنفيذ بعد، لأن البنك الدولي يُطالب لبنان بإجراء إصلاحات قبل تمويل المشروع. ويُظهر كلّ ذلك أن وجود اتفاق إقليمي وغياب أي عقبات من الجهات الفاعلة الخارجية الرئيسة قد ينعكسان إيجابًا على العلاقات السورية-الأردنية، في حين أن العكس صحيح أيضًا.

مع ذلك، لم تتحسّن بعض أبعاد العلاقات السورية الأردنية الثنائية، حتى حين كانت الدولتان تمتلكان حرية التصرّف. فمنذ خمسينيات القرن الماضي، يُجري الأردن وسوريا محادثات لتقاسم مياه نهر اليرموك، واستؤنفت هذه المناقشات بعد إعادة إحياء العلاقات، لكن من دون إحراز أي تقدّم يُذكر. فدمشق تتهم عمّان بدعم المجموعات المسلحة في جنوب سوريا، ما يُعيقُ جهود النظام الرامية إلى السيطرة على المنطقة بشكل كامل، ولأن المجال متاحٌ أمام الطرَفين لاتخاذ القرارات بصورة مستقلة، لا يزال بإمكانهما تحقيق الإنجازات على هذا الصعيد. لكن الوضع ليس كذلك حين يتعلق الأمر بقضايا أكثر حساسية على غرار أمن الحدود.

من حدودٍ ثُنائية إلى حدودٍ إقليمية في جنوب سوريا

تسببت التغييرات في منطقة الحدود السورية-الأردنية بمشاكل لعمّان، مع تبعاتٍ خطيرة على أمن المملكة. وتتمثّل المسائل الأكثر إلحاحًا التي تترتب عليها تداعيات إقليمية في تهريب المخدرات والوجود الإيراني في جنوب سوريا. ربما يمارس الأسد بعض السيطرة على تهريب المخدرات انطلاقًا من الأراضي السورية، ولكن رأب العلاقات مع الأردن ليس حافزًا له كي يكبح هذه التجارة المربحة. أما في ما يتعلق بمعالجة مسألة انتشار القوات الإيرانية وأذرعتها، فليس لدى الأسد حافز للإقدام على ذلك، فضلًا عن أنه غير قادر على التحرك ضد مصالح طهران. وهاتان المسألتان مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا بالديناميكيات عند الحدود السورية-الأردنية إنما لا يمكن معالجتهما من خلال صيغة ثنائية.

اتّخذ الاقتصاد غير النظامي عبر الحدود أشكالًا عدّة منذ ظهور الحدود السورية-الأردنية في عشرينيات القرن العشرين. طوال سنوات، لم يكن صغار التجّار يدفعون رسومًا جمركية على السجائر التي كانوا يجلبونها إلى الأردن من طريق المعابر الحدودية مع سوريا. بالمثل، كانت شبكاتٌ مُتجذِّرة تقوم بتهريب الأغنام السورية إلى الأردن أو عبره. لكن توسّع التجارة غير الشرعية لتشمل الأسلحة والمخدرات المصنّعة في سوريا تحوّل إلى مشكلة أمن قومي أردني، ولا سيما في الأعوام الثلاثة الماضية التي شهدت توسّعًا كبيرًا في نطاق تجارة المخدرات، وتسييسًا سوريًا لهذه التجارة، وزيادة استهلاك المخدرات في الأردن.

لقد تحوّل الأردن إلى بلد عبور تمرّ فيه المخدرات المتّجهة إلى الخليج. تشير الإحصاءات الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، استنادًا إلى الأرقام الأردنية الرسمية، إلى أن عدد الحالات المرتبطة بحيازة المواطنين والأجانب للمخدرات والمتاجرة بها في الأردن ارتفع من نحو 6,000 سنويًا في الفترة الممتدة بين 2005 و2012 إلى 119,000 في العام 2020، أي بزيادة نحو 1,900 في المئة. وفي مدينتَي إربد والرمثا الأردنيتَين، بات شائعًا اليوم سماع روايات عن استخدام المخدرات، بخلاف ما كان الحال عليه في الفترة 2018-2020. لقد أصبح السكّان المحليون مطّلعين على أنواع المخدرات المتوافرة، في مؤشّر واضح إلى أن استهلاك المخدرات يتحوّل إلى مشكلة واسعة النطاق.

يصعب تقييم حجم اقتصاد الظل هذا. ولكن كمّية المخدرات المصادَرة تكشف عن زيادة مطّردة. على سبيل المثال، أشارت السعودية التي تُعتبَر السوق الرئيسة في الخليج لمادة الكبتاغون، وهو الاسم التجاري لمادة مخدّرة مصنوعة من الأمفيتامين والثيوفيلين، إلى مصادرة نحو 12 إلى 14 مليون حبة كبتاغون في الأعوام 2007 و2008 و2009. وفي السنوات القليلة الماضية، تضاعفت هذه الأرقام. فقد أوردت تقاريرٌ صادرة عن المملكة أنه تمت مصادرة 48.6 مليون حبة كبتاغون في العام 2012. وفي العام 2020، صادرت السعودية نحو 140 مليون حبة، فيما وصل الرقم إلى نحو 200 مليون حبّة في العام 2021، والعدد الأكبر من الحبوب المصادرة كان مصدره سوريا أو لبنان. وفي خارج المنطقة، صادرت بلدان أخرى أيضًا مخدرات مصدرها سوريا. في صيف 2020 مثلًا، صادرت الشرطة الإيطالية نحو 14 طنًّا من حبوب الأمفيتامين، تساوي قيمتها مليار يورو (ما يعادل نحو 1.18 مليار دولار أميركي في ذلك الوقت).

الأكثر إثارة للقلق هو أن تجارة المخدرات بدأت تستحوذ على جُزء كبير من الاقتصاد غير الشرعي في المنطقة. لقد دفعت الحرب في سوريا، والأزمة المالية في لبنان، والعقوبات الأميركية بالنظام السوري و”حزب الله” إلى البحث عن مصادر بديلة للعملة الصعبة. مع مرور الوقت، يمكن أن تصبح تجارة المخدرات متجذّرة في الاقتصادات المحلية السورية. في هذا الصدد، يشير بعض التقديرات إلى أن القيمة السوقية لصادرات الكبتاغون من سوريا بلغت في العام 2020 ما لا يقل عن 3.46 مليارات دولار، متخطيةً بمقدار مليار دولار موازنة الدولة في ذلك العام.

الأردن بلدٌ صغير، ولن تُحدث قراراته، بما في ذلك المصالحة مع سوريا، تغييرًا في مسار تجارة المخدرات. لكن، هل يمكن لبشّار الأسد وقف تجارة المخدرات في سوريا، وفي هذه الحالة، لماذا سيُقدم على ذلك؟ نفى المسؤولون السوريون مرارًا أيَّ تورّط للدولة، على الرغم من أن تصديق فكرة أن الرئيس غير مدرك لضلوع رجال النظام الأقوياء في مثل هذه التجارة المربحة شبه مستحيل. وفي ذلك مؤشر إلى أن بإمكان النظام، إذا أراد، خفض حجم تجارة المخدرات. ولكنه لم يُظهر حتى الآن رغبة حقيقية في القيام بذلك، لأسبابٍ مالية بصورة أساسية، وأيضًا لأن هذه التجارة تؤمّن للأسد نفوذًا سياسيًا واسعًا. يجب على كل مَن يريد وقف تدفّق المخدرات أن يقدّم في المقابل شيئًا ما لسوريا.

يواجه الأردن وضعًا مماثلًا في ما يتعلق بالخصومة الإسرائيلية-الإيرانية في سوريا، التي تؤثّر مباشرةً في الأردن ولكنه لا يملك سيطرة عليها. في الاتفاق الذي أُبرِم برعايةٍ روسية ونتجت عنه عودة القوات التابعة للنظام السوري إلى الجنوب في العام 2018، أخذت موسكو المصالح الإسرائيلية في الاعتبار، وهي قريبة من المصالح الأميركية والأردنية. منذ ذلك الوقت، وعلى الرغم من صعوبة الحصول على المعلومات، يبدو أن إيران امتنعت عن بناء قدرات هجومية في الجنوب، وهو ما تعتبره إسرائيل خطًا أحمر. والدليل غير المباشر على ذلك أن الهجمات الجوية الإسرائيلية في الجنوب محدودة، في حين أنها تتكثّف أكثر حول دمشق ومناطق أخرى في الداخل السوري.

لكن تقارير كثيرة تشير إلى أن الدور الإيراني في سوريا سيستمر في المدى الطويل. يعمد المسؤولون الإيرانيون وحلفاؤهم المحليون إلى توسيع سلطتهم من خلال التخلّص من الخصوم، وتعيين مسؤولين موالين في الأجهزة الأمنية والعسكرية المحلية، وتجنيد أشخاص في تجارة المخدرات، وإنفاق موارد من خلال المنظمات الخيرية، وشراء عقارات. على سبيل المثال، تنشط منظمة الزهراء الخيرية الإيرانية منذ العام 2018، وتتوسّع في درعا. وتبني إيران أيضًا تحالفات محلية. في هذا الإطار، يقيم المسؤولون الإيرانيون علاقات مفتوحة مع نائب ورجل أعمال مستقل في درعا، هو عبد العزيز الرفاعي الذي استقبلوه ويواصلون دعمه.

لا يمكن الجزم بشأن ما إذا كانت إيران تعتبر الأردن هدفًا للهجمات. لكن الأكيد أن الأردن سيتحمّل تبعات وخيمة نتيجةً لعدم الاستقرار في جنوب سوريا. إذا كانت إيران تُحضّر على نار هادئة لفتح جبهة أمامية جديدة ضد إسرائيل في جنوب سوريا، فقد يشهد الأردن تجدّد التقلبات في الأوضاع عند حدوده الشمالية. في أفضل الأحوال، تستمر الاضطرابات في جنوب سوريا، التي أصبحت الوضع الطبيعي الجديد. وفي أسوَإِ الأحوال، تقع مواجهة عدوانية بين إسرائيل وإيران. ومثلما هو الحال في تجارة المخدرات، هذا الوضع أكبر من الأردن، وأيضًا أكبر من النظام السوري بحد ذاته، ويرتبط الآن بالموجبات التي تفرضها الأولويات الإقليمية لطهران.

واقع الحال هو أن العلاقات الأردنية مع دمشق باتت منقسمة إلى أجزاء عدّة. يمكن للمراقبين أن يتوقّعوا إحراز تقدّم على الجبهة الاقتصادية، وفي التعاون ما دون الإقليمي، وحتى في مجال المياه. على النقيض، من المرجّح أن يبقى الأمن في المنطقة الحدودية متزعزعًا، ما يتسبب بحالة مستمرة من انعدام الاستقرار. لم يتبقَّ للأردن سوى خيارات محدودة، تتمثل بصورة أساسية بتعبئة حلفائه وشركائه لمساعدة المملكة في رفع التحديات التي تُطلّ من الطرف الآخر لحدودها الشمالية.

ربما أدرك الأردن أن رأب العلاقات الثنائية مع سوريا لن يؤدّي إلى استيفاء احتياجاته الأساسية، ولذلك دافع بشدّة، في بداية تقاربه مع سوريا، عن وجوب أداء دور عربي أكبر في تسوية النزاع السوري. لقد دعم الأردن، مع الإمارات العربية المتحدة والجزائر، وكذلك روسيا، إلغاء تجميد عضوية سوريا في جامعة الدول العربية. ولكن منذ العام 2021، شكّل الرفض السعودي لعودة سوريا إلى الجامعة العربية انتكاسة للأردن. تعويضًا عن ذلك، عمدت عمّان إلى تحسين تعاونها الأمني مع الولايات المتحدة عند حدودها الشمالية، واعتمدت على القوات الأميركية وأذرعها المحلية المتمركزة في التنف لتكون بمثابة خطٍ دفاعي ضد أنشطة التهريب من سوريا. فضلًا عن ذلك، لا تزال المملكة تسعى إلى تعزيز التنسيق الأمني مع روسيا الموجودة في جنوب سوريا. في أفضل الأحوال، عززت هذه الجهود مراقبة الأردن لحدوده إنما من دون توفير حلول مستدامة لمشكلاته.

الدروسُ المُستقاة من عودة العلاقات الأردنية مع سوريا

يمكن استخلاص درسَين أساسيَّين من القرار الذي اتخذه الأردن بتحسين علاقاته مع سوريا منذ العام 2021. أوّلًا، يُظهر هذا القرار أن التقارب، ولا سيما حين يكون بين بلدانٍ إقليمية صغيرة أو متوسّطة الحجم، يولّد نتائج محدودة. وقد تشمل هذه النتائج تحسّن العلاقات الاقتصادية، وإقامة علاقات ديبلوماسية وأمنية، وتقديم دعم لفظي، إنما ليس أكثر من ذلك. هذا أمرٌ طبيعي، نظرًا إلى أن ليس لدى الحكومة السورية التي تحكم بلدًا متداعيًا، الكثير لتقدّمه في سياق العلاقات الثنائية. لكن في الوقت نفسه، ليست لدى دمشق مصلحة في التخلّي عمّا تمتلكه من أوراق قيّمة لأنها تسعى إلى التشجيع على حدوث تحوّل في نُهج البلدان الأخرى، ولا سيما البلدان ذات النفوذ الإقليمي، في التعامل مع الشأن السوري.

الدرسُ الثاني أكثر وضوحًا. حتى لو كان نظام الأسد يسيطر على بعض أبعاد سياسته الخارجية ويحتفظ بأوراق قيّمة للتلويح بها في وجه الأفرقاء الإقليميين الأكثر نفوذًا بهدف انتزاع تنازلات سياسية منهم، تبقى بعض المسائل خارج نطاق سلطته. والنفوذ الإيراني في جنوب سوريا، لا بل في سوريا بأكملها، هو البرهان الأساسي على ذلك. يصعب أن نتخيّل أن القيادة السورية، حتى لو كانت تمتلك الإرادة اللازمة، قادرة على إنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة الحدودية. لقد أصبحت سوريا قناةً أساسية تستطيع إيران من خلالها مواجهة أعدائها الإقليميين، فضلًا عن أنها تشكّل حلقة وصل برّية تربط طهران بحليفها الأساسي “حزب الله”. ومن غير المرجّح أن يؤدّي انفتاح ثنائي محدود يُظهره بلدٌ ما تجاه سوريا إلى حدوث تغييرات على تلك الجبهة.

يمكن أن يتطوّر الوجود الإيراني بطرقٍ مختلفة. ربما لا يزال نظام الأسد يمتلك هامش مناورة معيّنًا في ما يتعلق بإيران، ويمكنه حتى معارضتها في سياقات محددة. لكن لا يمكن لنظام الأسد مقايضة الوجود الإيراني باتصالات ثنائية أو حتى بانفتاح إقليمي حيال دمشق. فيداه مكبّلتان وستبقيان كذلك لبعض الوقت.

  • أرميناك توكماجيان هو باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث تتركّز أبحاثه على قضايا الحدود والصراع، واللاجئين السوريين، والوسطاء المحليين في سوريا. يمكن متابعته عبر تويتر على: @TOKMAJYANA
  • تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج “X-Border Local Research Network(شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع “UK Aid التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى