فلسطين… خارج “أزمة” إسرائيل

محمّد قوّاص*

تَنقُلُ لنا اليوميّات الإسرائيلية واجهات انقسامٍ سياسيٍّ مُجتمَعي ثقافي داخلي لافت. بعض الآراء يُحذِّرُ من تفاقمِ الصراعِ وتطوّرِهِ باتجاه الحرب الأهلية. ويأخذُ التصدّعُ، الذي يوصف بأنه غير مسبوق منذ قيام دولة إسرائيل، أشكالًا مُعقّدة تتجاوز تقليدية الاصطفاف بين يسارٍ ويمينٍ أو بين مَدَنيٍّ وديني.

أن يَحكُمَ اليمينُ المُتطرّف الشعبوي إسرائيل بنسخاته المُتعدّدة فذلك مسارٌ منطقي لنزوعِ المجتمع الإسرائيلي المطرد باتجاه اليمين في السنوات الأخيرة. تأكّد ذلك المنحى في كل الانتخابات التشريعية التي تعاقبت فهمّشت اليسار وأبعدت الوسط ودفعت الليكود وبنيامين نتنياهو وأشباههما إلى سدّة الحكم. وأن يستفيقَ هذا المجتمع على “خطيئةٍ” مَزعومة، فذلك يتناقض مع تمارين سياسية سابقة قادت من خلال الصناديق إلى وأدِ الرأي البديل وارتضاء الشعبوية والراديكالية اليمينية منذ عقدين دروعًا وحيدة لإدارة إسرائيل وحمايتها.

واللافت أن إسرائيل التي قام بناؤها على قاعدة الصراع الوجودي مع العرب في مراحل أولى ومع الفلسطينيين وحدهم في مراحل لاحقة، لا تنهل من ذلك التناقض، المُفتَرَض أنه وجودي، أي حيثيات تُفسّر ذلك الانقسام المجتمعي غير المسبوق. فحتى خطاب بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير ضد الفلسطينيين، وإن بدا في الشكل اجتثاثيًا، يأتي مُتّسقًا مع سياساتٍ استيطانية مُوَسَّعة وأُخرى أمنية مُتَهَوِّرة قادت إلى الحروب في غزة وعملياتٍ جراحية في الضفة الغربية. ولئن قد يُعَوِّلُ الفلسطينيون على ما قد تَؤولُ إليه “أزمة الكيان الصهيوني” من ضعفٍ وتفتّت، غير أن حراكَ الدوائر السياسية والمجتمعية الناشطة في إسرائيل لا يبدو معنيًّا بالجانب الفلسطيني في مخاضِ إسرائيل الداخلي.

وجديرٌ ألّا تندفعُ أقلامنا نحو استسهال استشراف اختلال في موازين القوى بشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي قد تفرزه اختلالات النُخَبِ الحاكمة في إسرائيل. فلا يتسرّب من الخلاف في إسرائيل أي تباين أو شبهة انقلاب في الرأي من المسألة الفلسطينية، إلى درجة أن الأمرَ ليس موضوعًا على أجندة المُتخاصمين وليس شأنهم.

وحَرِيٌّ أن نُلاحظَ أن أدوات الصراع الداخلي لا تزال تنهل مما تسمح به الديموقراطية الإسرائيلية، سواء داخل الإعلام والفضاء العام الذي تُسيّر داخله التظاهرات الحاشدة، أم من خلال السلطات التشريعية وتلك القضائية التي تتصدرها المحكمة العليا. ولا يزال الصراع تحت سقف القانون لا يقلق مهام أجهزة الأمن واستراتيجيات الجيش الإسرائيلي وقيادته.

ولا يُمكن للمُراقِبِ إلّا أن يتخيّلَ مَخارجَ من داخل مؤسسات الدولة لن تتجاوز في حدودها القصوى إجراء انتخاباتٍ جديدة، بات تكرارها من تقاليد الحكم في السنوات الأخيرة.

كما إنَّ الصراعَ في أعراضه الراهنة يهوديٌّ يَجري بين تياراتِ السياسة والفكر والثقافة اليهودية، إذ لا مكان لانخراط “عرب الداخل” في فصوله الراهنة. ولا يبدو أن الجدلَ الجاري سيرتقي إلى مستوى نقاشِ وجودية الدولة وشروط بقائها من زاوية مقاربة جديدة خلّاقة مع “حالتَي” الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو أقصى ما يمكن أن يصل إليه العقل الإسرائيلي الراهن حين يُقارِبُ مسألة فلسطين.

ولئن ينشط تشاورٌ فلسطيني مصري-أردني على مستوى القادة وتُعيدُ السعودية بلسان وزير خارجيتها، الأمير فيصل بن فرحان آل سعود،  تأكيد الموقف المُطالب بحلّ القضية الفلسطينية وإقامة دولة للفلسطينيين، غير أن الأمر لا يُعبّر بالضرورة عن مستوى جديد من الانشغال مُتعلّق بطبيعة حكومة بنيامين نتنياهو وشططها اليميني المتطرّف. ذلك أن لبّ الانسداد مُتجَذّر منذ اغتيال اسحق رابين وترهّل اتفاق أوسلو وتقادمه وتخلّي حكومات إسرائيل، السابقة قبل الراهنة، عن عملية التفاوض مع السلطة الفلسطينية. وفق ذلك، وبغضّ النظر عن عنصريةٍ وَقِحة تُظهِرُها وجوه الحكومة الحالية، فإن الجديد في هذا الصدد يتناسل بفجاجة من قديمٍ بات تقليديًّا بليدًا.

والأرجح أن التحوّلات التي أنتجت حكومة إسرائيل الجديدة أنتجت قلقًا لدى العواصم الغربية أكثر مما أنتجته لدى رام الله وغزة وعواصم الشرق الأوسط. فإذا ما كانت الأسطورة التي شيّد عليها الغرب (كما روسيا والصين) دوافع دعم إسرائيل وتفهّم أسبابها تقوم على “ظلم تاريخي” أو على كونها “الديموقراطية الوحيدة” في المنطقة، فإن رواج فاشية داخل الحكومة الإسرائيلية بدا مُحرِجًا في تمارين العواصم البعيدة سواء في خطابها الداخلي أم في التسويق لسياساتها الخارجية في الشرق الأوسط، ما سيُشكِّل حتمًا عاملًا ضاغطًا مُفاقمًا لحدّة الصراع الداخلي الإسرائيلي.

وعلى الرُغم من أن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ليس على أجندة “الأزمة” في إسرائيل، إلّا أنه وجبت بعناية دراسة ما سيتوالد من استفاقة نادرة لم تُخرج الناس إلى الشوارع بهذا الحجم قبل ذلك. وإذا ما كان اليمين التقليدي ينتج يمينًا متطرّفًا مُهدِّدًا ومُشَوِّهًا لما يُراد لنموذج إسرائيل أن يكون ويستدعي هذه الضغوط الداخلية والخارجية، فإنه في حال تمكّنت تلك الضغوط من صدّ “الانحراف الفاشي” المُستَجِدّ، فذلك قد يوجه ضربة حقيقية يجب عدم الاستهانة بها لكل الموجات اليمينية التي تعاقبت فكرًا وتيارات على حكم إسرائيل ويوقف تصدّرها للمشهد السياسي. يتيح هذا الاحتمال تموضعًا جديدًا يبيح تعويم ظواهر فكرية وسياسية أخرى يُفتَرَض أن تجد لها موقعًا مطلوبًا داخل المشهد السياسي الإسرائيلي العام.

لا ينفصل الحراك في إسرائيل وما يمكن أن ينتهي إليه عن تحوّلات ما انفكّت الحرب في أوكرانيا تُفرج عنها داخل المشهد الدولي العام. ولئن تفرض الحكمة عدم التعجّل في استنتاج ما ستخرج به الأزمة في إسرائيل من مآلات، غير أن “النظام العالمي” ذاهبٌ إلى تحوّلات قد لا ترقى إلى مستوى أن يكون جديدًا بديلًا من ذلك الراهن، إلّا أنه سيفرض قواعد في خرائطه لن تكون إسرائيل وكل المنطقة بمنأى عنها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى