مُشاهَدَات في شارع الجمَّيزة

هنري زغيب*

مررتُ هذا الأُسبوع بشارع الجمَّيزة في بيروت، بعد وقتٍ طويلٍ لم أَعبُرْه، منذ زلزال 4 آب/أُغسطس.

مررتُ به متمهِّلًا، وتوقَّفْتُ غيرَ مرةٍ عند نقاطٍ منه تلفتُني. فإِذا حولي عن الجانبَين مشاهدُ بين الدمار والعمار. وإِذا للدمار وجه حزين كئيب، فللعمار وجه ما زال يصحو من هَول الكارثة.

رأَيتُ أَبنيةً تخضَع للترميم والتجميل، ورأَيتُ أَبنيةً فارغةً من ناسها، كُوًى بدون نوافذ، أَبوابًا بدون دِرَف، غُرَفًا يَعوي فيها الـخَواء، هياكلَ إِسمنتيةً كما مهجورةً بعد جَولات حرب، دكاكينَ هرمَت من توالي تجاعيد الفراغ، محطةَ وَقودٍ مُدَمَّرةً نسيَت زحمة الصفوف المتهالكة أَمامها من أَجل جُرعة بنزين لسيَّارة تاعسة، وفي بعض الأَزقة حاناتٌ تنعس في النهار وتصحو في شمس الليل.

حزينًا رأَيتُه، شارعَ الجمَّيزة، ووحيدًا رأَيتُه، ومتروكًا، حتى ناسُه لم يمسَحوا بعدُ عن وجوههم غبار انفجارٍ هزَّ الوطن ولم يُهُزَّ دولته، وصدَم العالَم ولم يَصدُم أَيًّا من سياسيي البلاد، الذين ما فَتِئُوا يتماحكون مرةً في مجلس وزراء، مرة في مجلس نواب، ومراتٍ مراتٍ في مجالسَ وديوانياتٍ وجلساتٍ وإِملاءَات والْتواءَات، منفصلين تمامًا عن شعبهم الذي، ويا لفداحة أَخطائه، أَوصلَهم إِلى ساحة النجمة.

فكَّرتُ طويلًا وأَنا أَسير متباطئًا في شارع الجمَّيزة.

فكَّرتُ بأَصحاب البيوت الفارغة في الأَبنية الفارغة، أَين صاروا وكيف يعيشون…

فكَّرتُ بأَولادهم أَين يُمضُون انتظاراتهم بعيدًا عن غُرَفِهم وأَسِرَّتهم وزواياهم وأَلعابهم وذكرياتهم في أَحضان والدَيْن وجَدٍّ وجَدَّة.

فكَّرتُ بأَهالي الجمَّيزة أُصولًا وفروعًا وطابعًا تراثيًّا في أَبنية كانت نماذجَ هندسةٍ يرقى عمْر بعضها إِلى القرن التاسع عشر.

فكَّرتُ بسفراء الدول الأَجنبية والعربية يكتُبون تقاريرهم الدورية إِلى خارجية بلدانهم، ماذا سيكتبون عن سياسيين في لبنان غيرِ مسؤُولين وغيرِ أَخلاقيين وغيرٍ جَديرين بالحُكْم ولا بِثِقة مواطنيهم، وكيف يأْخذون وقتَهم طويلًا في نكايات شخصانية من هنا، وكيديات أَنانية من هناك، وعنادٍ عاهر من هنالك، يغتصبون القوانين والأَعراف والدستور بأَعين صُقْلُوبية وأَيْدٍ شيطانية وضمائر يوضاسية، فيما شعبُهم مهجَّر في بلاده، يَنتظر الخلاص من الغَرَق على أَيدي قراصنة السفينة.

فكَّرتُ فكَّرتُ وأَنا أَسير متباطئًا في شارع الجمَّيزة، فإِذا هو صورةٌ كئيبةٌ عن القلوب الكسيرة في البلاد، والنوايا الغاضبة في البلاد، والثورات المكبوتة في البلاد، وكيف ساسةُ البلاد في وقاحة انشغالاتهم الشخصانية فيما أَهل البلاد في تَخَبُّط أَحوالهم المعيشية.

رئيس الجمهورية المقبل، يكون من خارج نادي القراصنة كي يصوِّبَ اتجاهَ السفينة، أَو يكونُ من بينهم طالعًا أَو مقرَّبًا، وعندها تنزفُ السفينة ستَّ سنوات من جديد، ولن يكونَ لقرارها قرار إِلَّا في لجة البلدان الفاشلة التي حَكَمَ عليها ساستُها الساديُّون بعُقُوبة الغرَق الأَخير.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى