اللَّعِبُ وَحيدًا

تعرّض جبران باسيل للإذلال على يد “حزب الله”، لكن ذلك لن يؤدّي على الأرجح إلى انقطاع علاقاته مع الحزب.

حسن نصرالله: يدعم الآن سليمان فرنجية للرئاسة.

مايكل يونغ*

في مطلع الأسبوع الفائت، حدث أمرٌ في المشهد السياسي اللبناني حَمَلَ دلالةً بالغة، وإن لم يكن حدثًا مُزلزِلًا. فقد دعا رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى عقد جلسةٍ لمجلس الوزراء يوم الإثنين الماضي، قاطعها الوزراء في فريق جبران باسيل و”التيار الوطني الحر” وحلفاؤهما. وحين بدا أن النصاب لن يتأمّن لعقد الجلسة، حضر وزيران تابعان شكليًّا لباسيل فاكتمل النصاب، ما قوّض استراتيجية المقاطعة التي توخّاها باسيل.

ماذا جرى؟ يسعى باسيل، منذ مغادرة حميّه ميشال عون سدة الرئاسة، إلى خلافته في المنصب. لكن مجلس النواب اللبناني المُنقَسم أخفق مرارًا في الاتفاق على مرشّحٍ. وبموجب الدستور، في حال خلوِّ سدة الرئاسة، تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء. ولكن حكومة ميقاتي هي حكومة تصريف أعمال، لأنها استقالت عقب الانتخابات النيابية في أواخر أيار/مايو الماضي. لقد أصرّ باسيل وعون على أن حكومة كهذه لا تستطيع أن تحلّ مكان الرئيس، والجهود التي بذلها باسيل لمنع مجلس الوزراء من الانعقاد كانت وسيلةً لزيادة نفوذه السياسي.

يشعر باسيل بأنه إذا تمكّن من فرض فراغٍ مؤسّسي مُدمِّر في لبنان من خلال منع انعقاد جلسات مجلس الوزراء، فمن شأن ذلك أن يُعزّز قدرته على المساومة بحيث يصبح السبيل الوحيد للخروج من المأزق أن تقوم القوى السياسية اللبنانية، وعلى رأسها “حزب الله”، بانتخابه رئيسًا للجمهورية. لكن المشكلة هي أن “حزب الله” لا يدعم ترشيحه، على الرغم من تحالف الحزب مع “التيار الوطني الحر”، بل يفضّل على الأرجح إيصال سليمان فرنجية المقرّب أيضًا من الحزب إلى سدة الرئاسة.

الوزيران اللذان تحدّيا باسيل هما جورج بوشيكيان من حزب الطاشناق المتحالف مع “التيار الوطني الحر”، وهكتور حجار الذي عُيِّن من حصّة عون في الحقائب الوزارية في العام الماضي. وقد افترض مراقبون كثر أن تدخّلَ “حزب الله” هو الذي دفعهما إلى الإقدام على هذه الخطوة. لقد أوضح الحزب في الأشهر الأخيرة أنه لا يريد أن يتركَ فراغًا في الدولة. ولكن الذي أغضب باسيل ليس أنه كان يُفترَض بالوزيرَين أن يكونا تحت سلطته، بل أيضًا أن حزب الطاشناق لديه ربما أجندة مختلفة عن أجندته.

افتعل حزب الطاشناق قضية كبرى بالإعلان عن أن بوشيكيان تصرّف من تلقاء نفسه، وعمد إلى طرده من كتلته النيابية. لكن البعض رأى في ذلك مجرّد تمثيلية لتجنّب حدوث صدام مع “التيار الوطني الحر”. ولكن حتى لو خالف بوشيكيان إرادة حزبه، فإنّ ما حدث وجّه رسالةً مفادها أن باسيل لا يسيطر على حلفائه السياسيين، ما جعله يبدو مُغَفّلًا.

ما أهمّية ذلك في المشهد الأكبر؟ في أعقاب جلسة مجلس الوزراء، هاجم بعض العونيين “حزب الله” قائلين: “نحن اليوم أقرب إلى “القوات اللبنانية” منه إلى “حزب الله””، في إشارة إلى الخصم المسيحي الأساسي ل”التيار الوطني الحر”، والذي هو أيضًا مُعادٍ ل”حزب الله”. يُعارض حزب “القوات اللبنانية” كذلك انعقاد جلسات مجلس الوزراء، لأن رئاسة الجمهورية يتولّاها عُرفًا مسيحي ماروني، في حين أن رئاسة الحكومة يشغلها مسلمٌ سنّي، ولا يريد أيّ حزبٍ من الأحزاب المسيحية أن تخضع المؤسسة التي ترأسها طائفته إلى سيطرة شخصية غير مسيحية.

رئاسة الجمهورية هي حقًا صلب الموضوع. فباسيل لم يكترث كثيرًا للتفاصيل الدستورية في العام 2014، حين فرض مع عون، بدعمٍ من “حزب الله”، فراغًا لمدة عامَين في موقع الرئاسة كي يُنتخَب عون رئيسًا للجمهورية. وينطبق الأمر نفسه اليوم إلى حدٍّ كبير، فباسيل يحاول أن يتقبّل أن السنوات التي أمضاها في التخطيط لتسلّم الرئاسة من عون لم تأتِ بأي نتيجة على الإطلاق. يجد نفسه معزولًا سياسيًا وأكثر اعتمادًا على “حزب الله” من أي وقت مضى، وسيدفع ثمن ذلك حتمًا شعبية أقل لدى الطوائف المسيحية.

ولكن على “حزب الله” أن يحسم خياره. من المُستبعَد جدًّا أن تصوّت الأحزاب المسيحية الكبرى – “التيار الوطني الحر”، و”القوات اللبنانية” وحزب “الكتائب” – لفرنجية رئيسًا للجمهورية، لذا في حال انتخابه، فإن غالبية الأصوات التي سينالها سيكون مصدرها كتلًا نيابية تقودها جهات غير مسيحية. من شأن ذلك أن يُلحِقَ الضرر بفرنجية داخل طائفته. لقد سعى فرنجية في البداية إلى تقديم نفسه في صورة الشخصية التوافقية، بين مرشحٍ مدعوم من العونيين وآخر مدعوم من “القوات اللبنانية”، لكن هذا التكتيك بات مُنهارًا اليوم.

هل سيُبدي “حزب الله” استعدادًا لتجاهل ذلك وانتخاب فرنجية بالأصوات التي يمكنه جمعها؟ هذا الأمر مشكوكٌ فيه لسببَين. أوّلًا، يعني ذلك تجاهل الأكثرية الواضحة من المسيحيين الذين يعارضون وصول فرنجية إلى سدّة الرئاسة، ما يُولّد الانطباع بأن القوى السياسية المسلمة تفرض رئيسًا مسيحيًا مارونيًا يتعارض مع إرادة الطوائف المسيحية. ثانيًا، حتى على المستوى التقني، من المستبعد أن تنجح هذه الخطوة. ففي جلسة انتخاب الرئيس، يجب أن يتأمّن نصاب الثلثَين من أصل 128 مقعدًا في مجلس النواب. وإذا أرادت الكتل المسيحية الكبرى قطع الطريق على انتخاب فرنجية، فسوف تجد بسهولة عددًا كافيًا من النوّاب، المسيحيين والمسلمين على حدٍّ سواء، الذين سيرفضون التوجّه إلى البرلمان، ما يؤدّي إلى فقدان النصاب.

بدلًا عن ذلك، يمكن أن يسعى “حزب الله” إلى اختيار مرشّح أكثر توافقية قادر على تجاوز الانقسامات داخل مجلس النواب. لكن المشكلة في ذلك هي أن غالبية هذه الشخصيات التي تُقدَّم كمرشحين توافقيين، ستكون ضعيفة، ما يقتضي حصولها على الدعم من إحدى الكتل المسيحية الكبرى كي تحظى بالشرعية. ولكن “حزب الله” لا يريد أن يكون حزب “القوات اللبنانية” الحزب الذي يمنح البركة المسيحية للمُرَشَّح، بل يريد أن يكون باسيل مَن يفعل ذلك. لكن المشكلة هي أن باسيل لا يرغب في دعم أيِّ مُرَشَّحٍ سواه، إلّا إذا تمكّن من أن يشترط على الرئيس العتيد أن يكون بمثابة رديفٍ عنه. إذا حدث ذلك، سيرفض حلفاء “حزب الله” أو شركاؤه الذين يمقتون باسيل انتخاب ذلك المرشح. إذًا، يتسبب باسيل بمفاقمة معضلة “حزب الله”.

ماذا يعني ذلك حيال روابط باسيل مع الحزب؟ سرت تكهّنات بأن العلاقة بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” انتهت، ولكن هذا الاحتمال مُستَبعَد إلى حدٍّ كبير. فبالنسبة إلى عون وباسيل، لطالما كانت شراكة التيار مع الحزب متعلقة بالرئاسة، ولا شيء سوى الرئاسة. نجح الأمر مع عون، إلّا أنَّ باسيل لم يُحقّق مبتغاه بعد. ولكنه يدرك أنه حتى لو لم يُنتخَب هذه المرّة، فسوف تكون هناك مرةٌ مقبلة، وكل مَن يريد أن يصبح رئيسًا للجمهورية عليه حكمًا أن ينال موافقة “حزب الله”.

في غضون ذلك، سيتعيّن على باسيل أن يمرّ في ما يسمّيه الفرنسيون “عبور الصحراء”. فسوف يكون عليه الانخراط في مناورات الحياة السياسية اللبنانية، من خلال حماية موقعه، وتسجيل نقاط صغيرة من هنا وهناك، وانتزاع موقع متقدّم لنفسه في المستقبل. وسوف يتعيّن عليه أيضًا دوزنة علاقته مع “حزب الله” كي لا يُنظَر إليه بأنه دمية في يد الحزب، فيما يحافظ على علاقة جيّدة معه.

ولكن من المفترض أن باسيل التقط رسالة واضحة، مفادها أن سلوكه السياسي في العقد الأخير بلغ مرحلة تقلّص المردود. فمن خلال وقوفه ضد الطبقة السياسية القائمة لتقديم نفسه في صورة الإصلاحي، أثار عداء الجميع تقريبًا، ولم يقنع أحدًا ما عدا العونيين المُصابين بأقصى درجات العمى السياسي، بأنه أقل شبهةً من السياسيين الآخرين. وقد دفع، من خلال العقوبات التي فرضها عليه الأميركيون، ثمنًا باهظًا لروابطه مع حزبٍ لم يتردّد في تحجيمه. وأظهر باسيل، حين اعتقد أنه بأهمية ميشال عون ل”حزب الله”، أنه يعاني من الغطرسة المُفرِطة.

السبيل الوحيد أمام باسيل للخروج من هذا الوضع هو التحرر من سياسة المشاكسة عند حافة الهاوية التي انتهجها لوقت طويل. فهو لم يعد بإمكانه أن يتلطّى خلف حميّه و”حزب الله” للحصول على مبتغاه. وإذا فشل في إقامة تحالفاتٍ سعيًا لتحقيق أهدافه، وفي التوصّل إلى تسويات، والتصالح مع أعدائه السياسيين الكثر، فلن يحرز أي تقدّم. وكي يكون باسيل ذا قيمة سياسية، عليه أن يبرهن أنه صاحب قيمة. لكنه في الوقت الراهن يخسر تلك المعركة.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى