قِمَمُ الرياض: الصين في الشَرقِ الأوسط

محمّد قوّاص*

وعدَ الرئيس الأميركي جو بايدن، خلال زيارته للسعودية في تموز/ يوليو الفائت، بأن بلاده لن تغادر الشرق الأوسط ولن تسمح بفراغٍ في المنطقة تملأه الصين أو أي دولة أخرى. لم تُغادر واشنطن، لكن المنطقة برمّتها تأخذ علمًا بالتحوّلات في العالم وتتموضَع منذ سنوات وفق خريطة مصالح مختلفة.

لا تسمح السعودية ودول الخليج كما دول عربية عديدة بأن تتحوّلَ منطقتهم إلى ميدان كرٍّ وفرٍّ بين الولايات المتحدة وخصومها لا سيما الصين. ولا يبدو أنها ستسمح بمنطق الفراغ الذي تزعمه الولايات المتحدة كلّما قرّرَ استراتيجيوها تعديل أولويات واشنطن. ولئن حسمت بعض دول المنطقة بسرعة وحزم قدر “الربيع” المدعوم من عواصم بعيدة، فإن الرياض وحلفاءها في الخليج والمنطقة ساهرون على قراءة الخرائط الدولية والتناغم مع حركيّتها.

لا تزعمُ الصين التي زار زعيمها شي جين بينغ السعودية لثلاثة أيام استبدال نفوذها بذلك الأميركي الذي ران الشرق الأوسط تاريخيًا.

ولا تتحرّى الرياض والمجموعتان الخليجية والعربية استيراد نفوذٍ أجنبي يكون بديلًا أو منافسًا لنفوذٍ أجنبي آخر.

لكن للحدث عبقًا خاصًا يتحدّر من فتورٍ حقيقي قد يُصبِحُ بنيويًّا في علاقات دولٍ عربية لا سيما الخليجية منها مع الولايات المتحدة، ولا يمكن قراءة هذا الحدث إلّا بناءً على التوتر بين واشنطن والرياض والذي، وإن زعم بايدن التخفيف منه في زيارة الصيف إلى جدة، فاقمه “الردح” بشأن الـ “أوبك+” ففضح دواخل لا تخفيها المظاهر.

العالم تغيّر وهو يتوسّل قيامَ نظامٍ دوليٍّ جديد لا تكون فيه الولايات المتحدة الزعيمة الوحيدة للعالم. ولئن نشهد مخاض ولادة قد تكون عسيرة وطويلة الأمد قبل أن تتضح معالم المولود العالمي العتيد، فإن وتيرة ذلك التحوّل بهذا الاتجاه تكثّفت منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.

على هذا فإن الحراك الصيني باتجاه السعودية في الأيام الأخيرة، وعلى الرغم من كونه استكمالًا لتراكمٍ نوعي في السنوات الأخيرة مُستندًا على مسارٍ آخر عائدٍ لعقودٍ سابقة، فإنه يندرج ضمن إطار تلك التحوّلات التي تشي بأن مستقبلها لم يعد بعيدًا.

لا تستبدل السعودية وحلفاؤها حلفًا استراتيجيًّا عتيقًا مع الولايات المتحدة. لا بل إن منابر الرياض وأبوظبي الرسمية شدّدت عشية زيارة الزعيم الصيني على تأكيد تاريخية العلاقة مع واشنطن والحرص على التمسّك بها وتطويرها.

والأرجح أن الإدارة الأميركية لم تعد تملك العبث بمسارٍ استراتيجي اعتمدته كل دول الخليج لتنويع علاقاتها الدولية والدفع بتعدّد تبادلاتها التجارية والاقتصادية وصولًا إلى تعاونٍ في مجالاتٍ استراتيجية مثل التكنولوجيا والطاقة النووية لأغراضٍ سلمية.

وقد لا يكون مُستَغرَبًا بحث المنطقة عن خياراتٍ أمنية دفاعية استراتيجية، خصوصًا وأنَّ واشنطن لم تُظهِر في السنوات الأخيرة غِيرةً على أمن الحلفاء في المنطقة وتصرّفت، لا سيما في عهدَي الإدارة الديموقراطية بقيادة بايدن هذه الأيام وباراك أوباما قبل سنوات، بما لا يتّسق مع منطق الأحلاف لا سيما تلك التي تزعم واشنطن أنها استراتيجية وتاريخية.

باتت السعودية، التي أرادها بايدن يومًا دولةً منبوذة في العالم، عنوانًا أساسيًا في المنطقة وبوصلةً لتوجّهاتها. والواجهة السعودية تُعبّرُ أيضًا عن حقبة تاريخية باتت فيها ودول الخليج واجهةً للمنطقة العربية برمّتها. أدرك بايدن ذلك مُتأخِّرًا. حاول وأد روايته بزيارة الصيف وحضوره قمم جدة. لكنه أعاد اكتشاف الرياض عنوانًا دوليًّا أساسيًا حين افتعل صدامًا يُحمّلها وحدها قرار دول منظمة “اوبك+” الـ 23 مُجتمعين بخفضِ إنتاجِ النفط.

ووفق معطى السعودية الجديد وما تُمثّله مع حلفائها تحت سقف مجلس التعاون الخليجي من قوّةٍ اقتصادية ومصدرٍ للطاقة في العالم، لا سيما الأحفورية التي باتت مُحرّكًا أساسيًا لاقتصاد العالم، يطرقُ الزعيم الصيني أبوابَ الرياض ويستنتجُ ما يمكن أن تُقدّمه السعودية وحلفاؤها وكل دول المنطقة للصين في الشرق الأوسط، وما يُمكنُ أن تُساهِمَ به لتعظيم خيارات الصين الدولية وتوجّهات زعيمها.

تُكابِرُ واشنطن في قراءة الحدث في التأكيد أنها لا تَفرُضُ على حلفائها أن يختاروا بينها وبين الآخرين. بات واضحًا أنها لا تملك أصلًا إملاء فرضية من هذا النوع وأن عليها أن تقرأ العالم بنسخاتٍ مُحدثة. يكفي تأمّل موقف دول المنطقة من مسألة الحرب في أوكرانيا لاستنتاج أن المواقف ليست مُتناغِمة مع سياسة الولايات المتحدة وأن أحد أبعاد “الحياد” في تلك الحرب هو مغادرة رؤى واشنطن وخططها في العالم.

تَطَوُّرُ العلاقات مع الصين إلى مستوى استراتيجي هو خيارٌ نهائي لما فيه مصالح أهل المنطقة. وخيارُ التمسّك بالتحالف الاستراتيجي العريق مع الولايات المتحدة هو أيضًا خيارٌ حقيقي بات شرطُه أن يصبّ في مصالح تلك المنطقة في الأمن والسياسة والازدهار. في واشنطن مَن استفاقَ وباتَ يُدرِكُ ذلك.

يعود الزعيم الصيني إلى بلاده بعد أن سمع كثيرًا في الرياض عمّا تريده كل المنطقة. وبات على بكين أن تتحضّرَ لتموضعٍ آخر في الشرق الأوسط يتسرّب من سطور البيانات المشتركة. هنا فقط قد تظهر أشكال المنافسة المُحتَمَلة مع واشنطن في الشرق الأوسط.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى