محمّد بن زايد في روسيا: المُهِمّة غير المُستَحيلة
محمّد قوّاص*
لن يَرشَحَ الكثيرُ عن مضمونِ المحادثات التي أجراها رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد، الثلثاء، مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في سانت بطرسبيرغ. النسخات الرسمية الإعلامية، أيًّا كانت أعراضُها الأولى، لن تفصحَ عن البوصلة التي ستُعتَمَد لتوجيهِ نتائجِ هذه الزيارة التي راقبتها العواصم المَعنية، شرقًا وغربًا، بحرصٍ واهتمام.
أتت الزيارة غداةَ تصعيدٍ عسكريٍّ خطيرٍ إثر توسيع روسيا، الإثنين، هجماتها “الإنتقامية” كمًّا ونوعًا ضد كييف ومدن أخرى في كل الجهات الأوكرانية. استخدمت موسكو ذخيرةً صاروخية استراتيجية وعشرات المُسيّرات، ومنها إيراني الصنع، لاستهدافِ مواقع سياسية ومدنية وبنى تحتية ردًّا على عملية تفجيرٍ استهدفت، السبت، جسر القرم على مضيق كيرتش.
تَعِدُ موسكو بالمزيد من الضربات، وتتوعّد بخططٍ عسكرية جديدة، وتُعيِّنُ قائدًا عسكريًّا جديدًا للقوات الروسية في أوكرانيا. ويُكثّفُ رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو رسائله وتحذيراته التي تُحضِّرُ بلاده لاحتمال دخول الميدان العسكري ضد أوكرانيا بطريقةٍ ما. في المقابل، تتوعّدُ كييف بردٍّ إنتقاميٍّ آتٍ وتُكرّر كل العواصم الغربية، من واشنطن إلى باريس مرورًا ببرلين ولندن وانتهاءً بدول بعيدة أخرى داخل حلف شمال الأطلسي، استمرارها في تقديم العون والدعم العسكري لأوكرانيا، مُستَنكِرةً بأشدِّ العباراتِ الهجمات الروسية الأخيرة.
وسط هذه الظروف، تبدو مهمة بن زايد مستحيلة وعكس التيار. ومع ذلك، فإن غيابَ بدائل عن الصدام الكبير تُوفّر للزائر الإماراتي مادةَ عملٍ نادرة، في ظلِّ غيابٍ مُلتبسٍ ومُريبٍ لأيِّ وساطاتٍ ومُبادراتٍ من شأنها العمل على مدِّ سككِ حوارٍ وتفاوضٍ قد تؤتي ثمارًا ولو بعد حين. حتى الدول التي “تتفهّم” موقف موسكو، مثل الصين والهند، بقيت مُكتفية ببياناتٍ ديبلوماسية تدعو إلى التهدئة من دون أن يرقى الفعل الديبلوماسي (لا سيما بالنسبة إلى الهند مثلًا التي تتمتّع بعلاقاتٍ مُتَقدّمة مع واشنطن وحلفائها الغربيين) إلى مستوى الوساطة الجدّية.
تتمتّع الإمارات برشاقةٍ ديبلوماسية تجعلها طرفًا قابلًا لأن يلعبَ دورًا لا يستطيع أن يلعبه الآخرون في السعي إلى وساطةٍ ما. تمتلك الإمارات علاقات تحالفٍ مع الولايات المتحدة والدول الغربية. وحتى لو أن واشنطن تُعبّرُ هذه الأيام عن ضيقٍ من قرار “أوبك +” (حيث الإمارات عضوٌ حيويٌّ فاعل داخل المنظمة النفطية) خفض إنتاج النفط، إلّا أن علاقات واشنطن وأبو ظبي تبقى علاقات حليفتين تختلف رؤاهما وتتباين مواقفهما في مراحل مُعَيَّنة.
وتحظى الإمارات في المقابل بعلاقاتٍ مُتقدّمة مع روسيا ومع الرئيس بوتين بالذات. وأظهرت الديبلوماسية الإماراتية حنكةً في مقاربة الصراع الأوكراني، من خلال المحافظة على موقفٍ مُتميِّز، قام على الدعوة إلى تسوية سياسية وعلى التمسك بالعلاقة الجيدة مع موسكو وكييف على السواء. وسواء داخل مجلس الأمن، حيث امتنعت عن تصويتٍ يُدينُ روسيا، أم داخل الجمعية العامة، حيث صوّتت لوقف الحرب ضد أوكرانيا، فإن الإمارات مثّلت جيدًا موقفها وموقف المجموعة العربية لتجنّب الانخراط في ذلك الصراع.
لم تتحدّث المصادر الإماراتية عن مُبادرةٍ مُكتَمِلة للشروع في ورشةِ التسوية لإنهاء الصراع الدراماتيكي في أوكرانيا. غير أن وزارة الخارجية أقرّت بأن الزيارة تأتي في إطارِ السعي “إلى تعزيز التعاون المثمر والبنّاء مع القوى الإقليمية والدولية، والتواصل مع كل الأطراف المعنية في الأزمة بأوكرانيا، للمساعدة في التوصّل إلى حلولٍ سياسية فاعلة”.
وإذا ما كان من مُبادرةٍ إماراتية، وفق روحية البيان، فهي ليست بالضرورة مُنفَصِلة مستقلة عن جهدٍ جماعي مُتعدّد قد يشمل مبادرات أخرى. ثم إن الإمارات، غير المنخرطة في الصراع مباشرةً وغير مباشرة، تُمثّل من خلال انتمائها الخليجي والعربي منطقة سعت مُجتمعةً إلى النأي بنفسها عن هذا الصراع، رُغمَ صعوبة الحياد بالنظر إلى الضغوط التي تمارسها كل دول الصراع المباشرة والمعنية.
زيارة رئيس دولة الإمارات هي أول زيارة لزعيمٍ عربي لروسيا منذ بدء الصراع في أوكرانيا. والزيارة تأتي أيضًا لتبديد حال الغياب العربي عن جهودِ وقفِ التدهور الذي باتت تداعياته الاقتصادية والغذائية والأمنية تهدد المنطقة برمّتها. وللإمارات، والعرب عمومًا، مصلحة في لعب دور، قد يكون مُتعَذّرًا بالنسبة إلى دول ومناطق أخرى، لوقف الانزلاق الدولي نحو الفوضى، وعدم اليقين الذي يُهدّدُ كل دول العالم ويُدخِلُ اقتصادات الدول في متاهاتٍ خطيرة غير محسوبة.
والواضح من خلال ما صدر عن العواصم، من مواقف إثر الهجمات العسكرية المُتصاعدة منذ تفحير جسر القرم في 8 تشرين الأول (أكتوبر)، انتهاءً بردِّ الفعل الانتقامي الروسي الواسع في العاشر منه، أن خطابَ روسيا وخصومها مُتَجمِّدٌ يزدادُ خشبية، وعاجزٌ عن المرونة ويحتاج إلى قوى فاعلة تتمتع برشاقة الوصل مع العالم وتكون مقبولة من المُتصارعين أنفسهم.
زيارة الشيخ محمد بن زايد تكشفُ عن انتقالِ الإمارات من مرحلةٍ إلى أخرى في التعاطي مع الصراع الأوكراني. تودّ الإمارات إعادة تأكيد الحياد في هذا الصراع، رُغمَ ما صدر من واشنطن من اتهاماتٍ تَعتبرُ قرارات “أوبك+” إنحيازًا إلى روسيا. حتى بوتين نفسه أراد تأكيد هذه النقطة أمام ضيفه، من حيث إن قرارات المنظمة النفطية، وفق قوله، “ليست مُوَجَّهة ضدّ أحد”.
لم تخفِ الإمارات سعيها الاستراتيجي إلى تنويع علاقاتها الدولية وجعلها مُتعدّدة أكثر توازنًا، مُغادِرةً الاصطفافات الجامدة. وقّعت مع روسيا منذ العام 2018 اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، وانفتحت من دون تحفّظ على علاقاتٍ مُتقدّمة مع الصين والهند ودولٍ أخرى، وأنهت أخيرًا توتّرًا مع تركيا وأعادت سفيرها إلى إيران. ووفق هذه الحَرَكية تندرج زيارة بن زايد لروسيا.
يلفتُ المستشار الديبلوماسي لرئيس الإمارات، أنور قرقاش، إلى أن الزيارة “مُجَدوَلة مُسبَقًا في إطار العلاقات الثنائية”، وأنها تأتي “ضمن خياراتنا السيادية المستقلة، ورُغمَ ذلك فإن ما تشهده الحرب في أوكرانيا من تصعيدٍ يتطلّبُ حلًّا عاجلًا عبر الديبلوماسية والحوار واحترام قواعد القانون الدولي ومبادئه”.
على هذا، فإن زيارةَ الشيخ محمد بن زايد هي خطوةٌ أولى من أجلِ إنضاج هذا “الحل العاجل”. الأمرُ يتطلّبُ الحديث مع أطراف الصراع الذين توقفّوا عن التحادث في ما بينهم. وإذا ما كان الحدث يحصل في روسيا فإن مضامينه ستنصت إليها واشنطن وكل عواصم “الأطلسي” الصديقة للإمارات ورئيسها. صحيحٌ أن كييف ترفضُ التفاوض مع بوتين، وعواصم الغرب تُقاطعُ الرئيس الروسي، لكن مبادرة رئيس الإمارات تلتقي بشكلٍ أو بآخر مع فلسفة نظيره وصديقه الفرنسي إيمانويل ماكرون في الحاجة إلى التحدّث الدائم إلى بوتين.
الجميع صعد إلى أعلى الشجرة، وباتوا جميعًا يحتاجون إلى مَن يُعينهم على النزول منها. والأرجح أن بن زايد يسعى إلى رسم خريطة طريق صعبة، وقد تكون مستحيلة لسلّم سحري حتى لو كان من الصعب تخيّله هذه الأيام.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).