في سِيرَةِ المُغادِر

راشد فايد*

أقل من ثلاثة أسابيع تفصلنا عن موعد مغادرة “حارس جهنم” “مخفره” الذي يؤدّي إليها، وهو مَن أقرَّ لنفسه هذا الدور حين “بشّرَ” اللبنانيين ببلوغها.

ربما، من باب المُصادفات، أن سباقَ العدّادات يَشتَعِلُ على وسائلِ الإعلام، بين حدثَين مُشوِّقَين: مغادرة صاحب “العهد القوي” قصر بعبدا، وانطلاق مباريات كأس العالم في كرة القدم في قطر. ما يجمع بين الحدثَين عظمة التشويق الشعبي الذي يرافقهما، وتفاؤل المتشوِّقين إلى مُتغيِّرات، تتبع موعدَيهما، على جاري العادة في مفاصل الحياة.

الوجه الايجابي، والأرجح أنه الوحيد الحقيقي، أن فخامته سيُسَجّل، أخيرًا، لنفسه، وبنفسه، إنجازًا جديًّا، سيكون الوحيد من كَمِّ إنجازاتٍ وَعَدَ اللبنانيين بها من قبل أن يعود من منفاه العطر في باريس، محمولًا على راحات ما وعد به مما سمّاه “الإصلاح والتغيير”: الإنجاز، أن يُغادِرَ قصر بعبدا في الموعد الدستوري، خاتمًا حملة تلويحٍ فاشلة بتمديد إقامته، بزعم الحؤول دون الفراغ الدستوري الذي روَّجَ له مستشاروه، كأن لا دستور ينْظِّم الحالة ويفرض إحترام نصوصه.

يترافق هذا الإنجاز، مبدئيًّا، مع آخر يُمَنّي أهل “العهد القوي” النفس بتطويبه للرئيس القوي هو توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع “العدو الصهيوني المحتل”، بالمراسلة والمواربة، على طريقة التواجه في المرآة، وهو، منذ انتُخِبَ لم يُفَوّت فرصة من دون أن يُشَنِّفَ آذان اللبنانيين بـ”يومٍ تاريخي سيفصل بين ما قبله وما بعده وسوف يذكره حاضر لبنان ومستقبله بأنه اليوم الذي دخل فيه وطننا رسميًا نادي الدول النفطية”، وشدّد على ذلك في الذكرى الثالثة لانتخابه.

الوعد بالنفط، حتى اليوم، كالوعد بتعزيز علاقات لبنان العربية التي تدهورت بفضل “مقاومات” حليفه لتحرير القدس عبر اليمن وسوريا ودول مجلس التعاون الخليجي وبيروت وجبل لبنان، و”هدايا الكبتاغون” والتهريب بكل أنواعه.

ما صدق من الوعود “القوية” إقرارُ قانونِ انتخابٍ يُعزّزُ الطائفية ويزيدها عمى عن المواطنة، وكذا إقرار رفع أجور موظفي القطاع العام، عبر إقرار سلسلة الرتب والرواتب، ما أسهم في الوصول بالبلاد إلى دركِ المآسي الإقتصادية والمالية، من دون أن تتفتّق أذهان طاقمه، وحكومات عهده، والطبقة السياسية المُهَيمِنة، عن برنامجٍ جدّي للنهوض بالبلاد بعد 3 سنوات من الإنفجار الإجتماعي سنة 2019، وسنتين على تفجير مرفإِ بيروت في 4 آب (أغسطس) 2020.

في الموازاة، تعزّزت المُحاصَصة وكانت لها مواثيق بينه وبين حلفائه، وحتى خصومه الذين أخلف مواثيقه معهم حين تمكّن، ولم يستفد من تحالفه مع الحزب المسلح لينهاه عن تورطه في الحرب السورية، بل أدّى تماهيه معه إلى دمجٍ بينهما في عيون العالم. ويُسَجَّل للرئيس المغادر أنه أول رئيسٍ للجمهورية تُرفَعُ ضده دعوى أمام المحكمة المدنية، في ايلول (سبتمبر) الماضي، يطلب فيها المُدَّعون، وهم من الرأي العام، التثبّت من أهليته لتولّي الحكم، وتعيين أطباء لمُعاينته، بعدما كثُر المستشارون، وفي الطليعة الصهر، الذي يُنسَبُ إليه التحكّم بأمور الرئاسة.

سيرة العهد أطول مما تَقَدَّم بكثير، وليس أقلها منافسة الآخرين في تسييس القضاء بدل كفّ أيدي الجميع عنه، بدءًا من مستشاري قصر بعبدا ووزرائه، وإغراق أزمة تهريب الأموال في مهاترات تفضح التمييع الممارس تجاهها، تحديدًا حين يصير التشكّي من رياض سلامة، الذي مدّد الرئيس، شخصيًا، ولايته معزوفة كل لقاء له مع وفدٍ أجنبي، وبلا كلل، على طريقة الحماة التي تَستَغيِبُ الكنّة.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى