“احكيلي احكيلي عن بَلَدي احكيلي”
هنري زغيب*
في مقالي الخميس الماضي (“أَسواق العرب” – 29 أَيلول/سبتمبر 2002) شدَّدْتُ على دور الكتاب المدرسي في نقْل التراث وتقديمِه نقيًّا بهيًّا إِلى الجيل الجديد من تلامذة المدارس في لبنان، فيكبَرون على وعْيِهم أَهميةَ وطنِهم في التاريخ: ماضيًا بعلاماته، وحاليًا بأَعلامه المبدعين.
اليوم أَتناول لقراء “أَسواق العرب” رافدًا آخَرَ من وسائط تقديم التراث إِلى جيلنا اللبناني الجديد: هو الإِعلامُ، مقروؤُه ومسموعُه والمرئي. أَقولها وأَعرف أَنَّ بعض الإِعلام لا يقصِّر في هذا الشأْن. لكنَّ المعروض والمسموع والمكتوب لا يفي غالبًا بتقديم ثروتنا التراثية لأَنه يُقَطِّرُها اتفاقًا، أَو يقتِّرها اجتزاءً، فلا يكاد يمرُّ مَعْلَمٌ منها حتى تمحوه برامجُ دوريةٌ ومسلسلاتٌ يوميةٌ ومواضيعُ سياسيةٌ تُلهي المتلقِّي عن ترسيخ ما اطَّلع عليه كي يبقى ماثلًا في ذهنه وذاكرته.
أَذكر أَنني قبل ثلاثين سنة (تحديدًا 1992)، وكنتُ يومها رئيسَ تحرير جريدة “الهُدى” النيويوركية الْكانت تصدر أُسبوعيًا صباح الجمعة، أَنشأْتُ في كلِّ عددٍ صفحةً كاملةً سَمَّيتُها “احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي”، مستعيرًا عنوانَها من قصيدة الأَخوين رحباني التي طار بها إِلى العالم صوتُ الخالدة فيروز. وكانت تصلُني أُسبوعيًّا من الجالية اللبنانية في بعض الولايات الأَميركية رسائلُ تُثْني على هذه الصفحة وتنتظر العدد التالي صباح الجمعة اللاحق. ذلك أَنَّ اللبنانيين في الـمَهاجر توَّاقون إِلى ارتشاف معالِمَ عن وطنهم بَعد بُعادهم عنه وعنها. ولا أَقول هذا عن الـمُهاجرين فقط، ففي لبنان اليوم جيلٌ كاملٌ لا يعرف عن لبنان معالِـمَ وأَعلامًا وعلامات تغذّي قناعته وضميره وذاكرته كي يعرفَ لبنان ويحبَّ لبنان. فمَن لا يعرف حقيقة وطنه التاريخيةَ والحضاريةَ والإِبداعيةَ لا يمكن تَسْآلُه أَن يحبَّ وطنه.
أَعود إِلى الإِعلام، وأُركِّز على ضرورة النشْر الدوري فيه، بتخصيص صفحةٍ أُسبوعية في الجريدة، وبرنامجٍ أُسبوعي في الإِذاعة، وحلقةٍ أُسبوعية في التلفزيون، عن علَمٍ مبدع أَو مَعْلمٍ لبناني تاريخي أَو أَثري أَو سياحي، حتى يكون المتلقي، قارئًا أَو مستمعًا أَو مُشاهدًا، على موعدٍ مع تراث وطنه في يومٍ محدَّدٍ أُسبوعيًّا ليتابع الاطِّلاعَ على ثرواتِ لبنانَ الحضارية وما أَكثرَها، وكنوزِهِ التاريخية وما أَوفرها، وأَعلامِه المبدعين وما أَغلاهم.
أَقول هذا الكلام، وفي بالي برنامج Secrets d’Histoire (“أَسرار التاريخ”) تَبُثُّه قناة فرنسا الثالثة، ويقدِّمه ستيفان بِرْن كاشفًا، في كل حلقة أُسبوعية مساءَ الثلثاء، صفحةً مجيدةً من تاريخ فرنسا وعراقة معالِمها وأَعلامها الأُدباءِ والفنانين ورجالِ الدولة التاركين في سجلِّ فرنسا بصمةً خالدة.
أَعرف أَنَّ هذا النوع من البرامج مُكْلفٌ تتجنَّبه إِدارة المحطات التلفزيونية اللبنانية لأَنه لا يستقطب المعلنين. لكنَّ المنتجين الذين يَرصدون مئاتِ الآلاف من الدولارات على إِنتاج مسلسل درامي يذهب مع الريح والأَثير والنسيان بعد نهاية عرضه هنا أَو حيثما تشتريه محطات عربية أُخرى، يمكنهم أَن يخصِّصوا بعض تلك المبالغ لإِنتاج حلقاتٍ عن تراث لبنان تُبَثُّ وتعادُ كلَّ فترةٍ غذاءً للجيل الجديد كي يتعرَّف إِلى تراث بلاده عبر رسالة نبيلة يكون قدَّمها له مُنتج أَو مدير محطة تلفزيونية.
وما أَقوله عن الشاشة أَقوله عن الإِذاعة والجريدة. فالإِعلام رسالةٌ قبل أَن يكون تجارة، وبعضُ تلك الرسالة أَن يكونَ الإِعلامُ في خدمة لبنان فيكونَ بانيًا شريفًا في الصرح الذي يَهدي الجيل الجديد ويُهْديه باقاتٍ مضيئةً من تراث لبنان.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib