مُعَوِّقاتٌ هَيكَلِيّة للمُصالحة الخليجية العربية – الإيرانية
هناك معضلة أمنية متأصّلة بين دول الخليج العربي وإيران تقف في وجه المصالحة بينهما، ولا يمكن حلّها إلّا بالتواصل والمبادرات الديبلوماسية المباشرة.
ف. غريغوري غوز الثالث*
كلُّ ما يُبعِدُ إيران وجيرانها الخليجيين، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، من المواجهة هو شيءٌ جيد. إنَّ خَفضَ درجة حرارة هذه العلاقات الثنائية المشحونة يُقلّلُ من فُرَص سوء التقدير والتصعيد. وبالتالي، بعد أن شهد المراقبون الإقليميون الهجوم الإيراني الدراماتيكي على منشآت النفط السعودية في أيلول (سبتمبر) 2019، رحّبوا بالتحرّكات الأخيرة تجاه الانفراج الإيراني-الخليجي. في آب (أغسطس) الماضي، أعادت دولة الإمارات العربية المتحدة سفيرها إلى طهران، وسط محادثات رفيعة المستوى بين الجانبين. ويتحدث السعوديون والإيرانيون في بغداد، من خلال المساعي الحميدة العراقية، منذ نيسان (إبريل) 2021.
على الرغم من الترحيب بهذه البراعم الخضراء للتواصل الإقليمي، لا ينبغي أن يعمينا ذلك عن العقبات الكبيرة التي تَحُولُ دون تخفيف التوتّرات بشكلٍ حقيقي ومُستدام. في حين أن البعض قد يعزو هذه العقبات إلى العداء الطائفي/المذهبي، فإن جوهر المشكلة لا يتعلق بالسنّة والشيعة بقدر ما يتعلّق بما يسميه علماء العلاقات الدولية “المعضلة الأمنية”. لقد تمّ استخدامُ المُصطَلَح بشكلٍ فضفاض كمُرادِفٍ لأيِّ مشكلةٍ جيوسياسية، ولكن في الواقع له تعريفٌ أكثر صرامة يمكن أن يساعدنا على فهم سبب صعوبة تحقيق تفاهمٍ إقليمي خليجي.
صاغ أستاذ العلوم السياسية “جون هيرز” مصطلح “المعضلة الأمنية” في كتابه الصادر في العام 1950 بعنوان ” المثالية الدولية ومعضلة الأمن” (Idealist Internationalism and the Security Dilemma). ومنذ ذلك الحين، كان المفهومُ مفتاحًا للأعمال التأسيسية في نظرية العلاقات الدولية للخبراء روبرت جيرفيس، وغلين سنايدر، وتشارلز غلايسر، وآخرين. إن نظرتها ومعانيها الأساسية سهلة الفهم ولكن يصعب التغلب عليها بشكلٍ شيطاني. تُريدُ الدول حماية نفسها، لذا فهي تبني قوتها -العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والإيديولوجية- لدرء الخصوم المُحتَمَلين. قد يكون هذا التراكم دفاعيًا بحتًا من وجهة نظر الدولة. ومع ذلك، لا يُمكن لجيرانها التأكّد من تلك النوايا الدفاعية. ثم يتعيّن على الجيران زيادة قوّتهم للاحتراس من النوايا العدوانية المُحتَمَلة للدولة الأولى، التي ترى جيرانها يتّخذون مثل هذه الخطوات، الأمر الذي يدعوها إلى مضاعفة جهودها. من هذه الديناميكيات، يتصاعد العداء إلى الخارج ويمكن أن تنجم الحروب.
إنَّ وَضعَ إيران ودول الخليج مِثالٌ مَحض على المعضلة الأمنية. تَعتَبِرُ القيادة الإيرانية الولايات المتحدة وإسرائيل تهديدَين مُميتَين يهدفان، كما تَزعَم، إلى إسقاط النظام الجمهوري الإسلامي. لذا فهي تُبرّرُ مُغازلة السلاح النووي كخطوةٍ دفاعية بحتة لردع العدوان الأميركي-الإسرائيلي. وهي تَصِفُ دعمها للجهات الفاعلة غير الحكومية في جميع أنحاء العالم العربي، مثل “حزب الله” في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن ومختلف الميليشيات الشيعية العراقية، بأنه “دفاعٌ أمامي” ضد المكائد الأميركية والإسرائيلية المُحتَملة. وهي تُصوِّرُ العلاقات الأمنية الأميركية مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى على أنها تُشكّلُ تهديدًا متأصّلًا لإيران. إنَّ مدى صدق هذه الحجج على النوايا الدفاعية ليس ذا صلة هنا بشكل خاص. تعمل جميع الدول إنطلاقًا من مزيجٍ من الدوافع الهجومية والدفاعية في سياساتها الخارجية. إن إيمان القادة الإيرانيين بالتهديد الذي تشكله الولايات المتحدة وإسرائيل على النظام في طهران حقيقي بلا شك، مع وجود الكثير من الأدلة لدعمه.
القادة في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، الذين يقومون بمسح ودراسة توسّع نفوذ إيران في جميع أنحاء الشرق العربي وتطور البرنامج النووي الإيراني الواسع، يرون أنفسهم مُهَدَّدين. وأكد هجوم إيران على منشآت النفط السعودية في أيلول (سبتمبر) 2019 هذا التهديد. وبقدر ما يساورهم من قلق بشأن بقاء القوات الأميركية في المنطقة، فإن نمو القوة الإيرانية واستعداد طهران لاستخدامها ضدهم دفع بالرياض وحلفائها الخليجيين إلى تعميق علاقاتهم الأمنية مع الولايات المتحدة، وفي بعض الحالات، مع إسرائيل من خلال اتفاقات أبراهام. هذه الخطوات تؤكد ببساطة للقيادة الإيرانية التهديدات التي تواجهها. وهكذا تصاعدت دوامة العداء إلى نموذج كتابي للمعضلة الأمنية.
الواقع أن المعضلة الأمنية لا يُمكن “حلّها”. إنها هيكلية، مُدمَجة في طبيعةِ نظامِ توازنِ القوى الذي يقود معظم مواقف الأمن الدولي. ومع ذلك، يمكن التخفيف من آثارها. يُمكِنُ للتواصل أن يُقلّلَ (ولكن لا يُلغي) المخاوف من النوايا العدائية. والمواقف الدفاعية القوية يُمكن أن تُشيرَ إلى تكاليف الصراع بالنسبة للمعتدين والأهداف المحدودة لمن يبنون دفاعاتهم. يُمكن للمصالح المشتركة أن تجمع الدول معًا في أُطُرٍ تعاونية تُقلّلُ إلى حدٍّ كبير من فُرَصِ الصراعِ المُسلّح.
لسوء الحظ، القليل من تلك الظروف المخففة يمكن العثور عليه في الخليج هذه الأيام. لقد فتح الانسحاب الأميركي من “خطة العمل الشاملة المشتركة” (الإتفاق النووي مع إيران) في العام 2018 البابَ لمزيدٍ من التطوير النووي الإيراني. وفشل مفاوضات فيينا الأخير لإدارة جو بايدن وإيران بشأن العودة إلى “خطة العمل الشاملة المشتركة” يزيد من احتمالية المواجهة بشكلٍ كبير، وسيؤدي بالتالي إلى تفاقم التوترات الإقليمية. كما إن الأزمة السياسية المستمرة في العراق تُضيفُ إلى حالة عدم اليقين الإقليمية. وبدوره يستمر الصراع في اليمن، بعدما أنتهت أخيرًا فترة وقف إطلاق النار. إنه لأمرٌ جيد أن يتحدّث السعوديون والإيرانيون، لكن هذا الحديث حتى الآن لم يؤدِّ إلى أيِّ اتفاقات ملموسة حول القضايا الإقليمية.
الأمثلة التاريخية ذات الصلة في الشرق الأوسط الحديث للتغلّب على عقبات تحسين العلاقات التي تطرحها المعضلة الأمنية قليلة ومتباعدة. وأهم حالة في هذا الصدد هي معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية لعام 1979. وقد تطلّب ذلك تحوّلًا جوهريًا في أهداف السياسة الخارجية المصرية وإمكانية حدوث تغيير في القيادة المصرية. من غير المُرَجَّح أن تمرَّ إيران بهذا النوع من التحوّل في أيِّ وقتٍ قريب.
قد يكون المثال الأكثر صلة بالموضوع هو الانفراج الذي حققته إيران (في حقبة الشاه) والعراق البعثي في العام 1975، مع التوقيع على اتفاق الجزائر. في هذه الحالة، تم تصعيد العلاقة العدائية العلنية لنظام البعث ضد الإنفصاليين الأكراد في العراق مع انتهاء دعم طهران لهم مقابل تعديلات حدودية كانت إيران تسعى إليها في شط العرب. ومع ذلك، لم يدم تراجع التوترات طويلًا، حيث أطاحت الثورة الإيرانية الشاه من السلطة، وقام صدام حسين حرفيًا بتمزيق اتفاق الجزائر أمام البرلمان العراقي عندما غزا إيران في العام 1980.
من الممكن أن تُعطي الحكومة الإيرانية إشارات ملموسة لدول الخليج العربية بأنها لا تنوي تهديدَ أمنها الداخلي أو الخارجي. يُمكن أن يكون التحرّك الإيجابي بشأن الصراع في اليمن يعطي مثل هذه الإشارة، إذا كانت إيران مهتمة جدّيًا بالمصالحة مع جيرانها، من طريق الضغط على حلفائها الحوثيين للتوصّل إلى تسوية. كما إنَّ التعاون الإيراني مع الأطراف الإقليمية والمحلية المهتمة في العراق للتغلب على أزمة الحكم الحالية سيكون إشارة أخرى من هذا القبيل.
حتى الآن، يبدو أن هناك احتمالًا ضئيلًا لتحرّكاتٍ إيرانية لطمأنة دول الخليج أو تحركات أميركية-إسرائيلية لطمأنة طهران. المعضلة الأمنية ما زالت حية وبصحّة جيدة في منطقة الخليج. وهذا يعني أن احتمال تصعيد التوترات وربما الصراع المباشر بين اللاعبين في المنطقة، بما في ذلك الولايات المتحدة، موجودٌ دائمًا.
- ف. غريغوري غوز الثالث هو أستاذ للشؤون الدولية ورئيس “جون إتش ليندسي 44” في كلية بوش للإدارة الحكومية والخدمة العامة، وأستاذ في جامعة تكساس إيه آند أم، وباحث في معهد ألبريتون للإستراتيجية الكبرى.
- كُتِبَ المقال بالانكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.