مئوية مرسيل بروست (1 من 2)
هنري زغيب*
في مطلع هذه السنة، احتفلت فرنسا بالمئوية الرابعة لولادة عبقريّها موليير (1622-2022)، ومع ختامها تحتفل بالمئوية الأُولى لوفاة عبقريِّها الآخر مرسيل بروست (1922-2022). ولا أَعرف وطنًا كفرنسا في تكريم عباقرتها المبدعين: شوارع باسمهم وساحات وباحات وجوائز وإِعادة طبع وتنفيذ أَعمال.
أَتوقف اليوم عند الكاتب مرسيل بروست (10 تموز/يوليو 1871 – 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1922) صاحب أَطول رواية في التاريخ: “بحثًا عن الزمن الضائع”.
أَطول رواية في التاريخ
رواية بروست بلغَت مليونًا و267,069 كلمة (أَي ضعف كلمات الرواية الطويلة الأُخرى “الحرب والسلْم” – 1869) للكاتب الروسي ليو تولستوي (1828-1910) وهي بلغت 587,287 كلمة وصدرت في 1440 صفحة، بينما رواية بروست صدرت في 3031 صفحة امتدت على 7 أَجزاء أَخذَت تصدر تباعًا طيلة 14 سنة بين 1913 و1927 أي حتى 5 سنوات بعد وفاة كاتبها.
هذه الأَجزاء السبعة هي: “من جهة سوانّ” (1913)، “في ظل الصبايا ذوات الزهر” (1919)، “ناحية غيرمانت” (1920)، “سَدوم وعمورة” (1922)، “السجينة” (1923)، “اختفاء أَلبرتين” (1925)، “الزمن ااـمُعاد” (1927). وبهذا الطُول في الكتابة وعدد الصفحات والكلمات وسنوات الصدور، يَعتبر نقَّادٌ أَنها أَطول رواية في التاريخ، لا لأَنها مجرد رواية كسواها، ولو طويلة، بل لأَنها لوحة ضخمة لوصف أَشخاص وأَماكن في سياق فلسفي نادر، عن رجلٍ (الأَرجح أَنه بروست ذاته) في مراحل نموِّه ونضجه وتطوُّره وبحثه عن معنى الحياة وهدَفها، وعزْمه على عدم إِهدار الوقت والاهتمام الإِرادي الواعي بتذوُّق الحياة.
آلاف الصفحات صدرَت عن بروست منذ أَول هذه السنة المئوية، بين كتب (كليًّا أَو جزئيًّا)، ودراسات أَدبية وجامعية، ومقالات في الصحف والمجلات، وأَعداد خاصة من مجلات كبرى أَدبية وعامة، أَقف منها جميعًا هنا عند كتابٍ لعلَّه أَفضل مرآة لهذا العبقري الذي انطفأَ في ربيعه الحادي والخمسين صريع وهْن في جسمه.
70 ساعة تسجيل
أَهمية هذا الكتاب، وعنوانه “مسْيو بروست”، أَنه بقلم المرأَة التي كانت معاونته ومدبرة منزله، أَمضت معه السنوات الثماني الأَخيرة من حياته (وهي الأَكثر إِنتاجًا)، ووصفَت أَدق التفاصيل اليومية من سيرته ومسيرته، حتى انطفائه على سريره في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1922. وكان زوجها سائق بروست الخاص.
هذه المرأَة هي “سِلِسْتين أَلباريه” ( Célestine Albaret) (1891-1984). دخلَت في خدمة بروست في تموز/يوليو 1914 وبقيت 8 سنوات متتالية يوميًّا تسهر على خدمته وشؤُونه الأَدبية، وكان بروست أَفضل زبون لزوجها صاحب التاكسي أُوديلون أَلباريه.
بعد نصف قرن على وفاة بروست، كانت خلالها تتابع ما يصدر من كُتب ذات وقائع عنه مزيفة أَو مزوَّرة أَو غير صحيحة، نجح الصناعي الثريّ هاوي جمع الكتب والمخطوطات النادرة جاك غيرين Guérin (1902-2000) بإِقناعها أَنْ تنشر مذكراتها عن سنواتها مع بروست، فوافقت أَن تكسر صمتها كرمى لذكرى الذي كان يناديها “يا سِلِسْت الغالية”، والذي قال لها يومًا: “حين أَموت ستكونين أَنتِ مَن تُطبقين عينيَّ إِلى الأَبد”. وأَرسل إِليها غيرين سنة 1972 صديقه الكاتب والصحافي جورج بِلْمون Belmont(1909-2008) فسجَّلتْ له بصوتها 70 ساعة من الأَشرطة عن ذكرياتها مع بروست، صدرَت كتابًا سنة 1973 بعنوان: “مسْيو بروست – ذكريات سِلِسْتين أَلباريه كما جمعَها جورج بِلْمُون”. وعند صدور الكتاب وافقَت على بيع غيرين بعضَ مقْتنياتٍ كان أَعطاها إِياها بروست خلال سنوات خدمتها لديه.
بحثًا عن هذه الــ”سِلِسْتْ”
كتاب بلْمون لدى صدوره لاقى صدى كبيرًا جدًّا حتى أَوسع من حلقات النخَب الأدبية، وتمت ترجمته فورًا إِلى الإِنكليزية ومنها إِلى لغات أُخرى. وقبل أَشهر من وفاة سِلِسْتين منحَتْها الدولة الفرنسية “وسام الفنون والآداب من رتبة كومندور”، تكريمًا “إِسهامَها في الإِضاءة على علَم ساطع من تاريخ فرنسا الأَدبي ساعدَت شخصيًّا وعمليًّا في الحفاظ على نصوص ورسائل من كنوز الإرث الإِبداعي”.
قبل أَيام (أَيلول/سبتمبر الماضي 2022)، وفي سياق الأَنشطة الكثيرة في مئوية بروست، صدرَت لدى منشورات فلاماريون في باريس طبعة جديدة معدّلة ومزيدة )496 صفحة حجمًا كبيرًا) من كتاب “بحثًا عن سِلِسْتْ أَلباريه (تذكيرًا بعنوان رواية بروست “بحثًا عن الزمن الضائع”) للاختصاصية في كتابة السيَر الكاتبة لور هيلُّرين Hillerin (م. 1947) وهي عضو في “جمعية الكتَّاب الفرنسيين” و”جمعية أَصدقاء مرسيل بروست”، ولجنة “جائزة سِلِسْتْ أَلباريه” (أَنشأَها سنة 2015 الفندق الأَدبي “لو سوانّ” ومكتبة فونتين هوسمان، في الدائرة الثامنة – باريس، تكرِّم سنويًا أَفضلَ كتاب أَو دراسة عن مرسيل بروست).
في الكتاب، وسْط ما فيه عن سِلْسْتْ ومذكراتها وذكرياتها، إِضاءة واسعة على مرسيل بروست في لحظاته الحميمة الخاصة التي ما كان يمكن أَن تظهر إِلى النور لولا هذه الإِضاءات سجَّلتْها الكاتبة عن تلك المرأَة وما كشفتْه من معلومات باتت اليوم ذخرًا كبيرًا وثمينًا لتاريخ الأَدب الفرنسي عن أَحد أَهم كتَّاب فرنسا في القرن العشرين.
ماذا في الكتاب؟ وماذا عن سِلِسْتْ وبروست؟
هذا ما أَكشفه في الجزء المقبل من المقال.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.