وَطَنٌ بَينَ زَورَقَين

راشد فايد*

يكاد لاجِئو البحار من لبنانيي الجنسية والإقامة، من سوريين وفلسطينيين، يشهدون بأرواحهم على أن العيشَ في لبنان دعوةٌ إلى اليأس والإنتحار، وأنَّ الرهانَ على الغَيبِ والقدر هو آخر علاجٍ مُتاحٍ لمن يَعدّون الأيام عند مفترق الحياة والموت. ففي الأولى شيءٌ من الأخرى، وفي الثانية، ربما، دربٌ إلى حياةٍ جديدة، تُجمع الأديان على انتهاء المُعذّبين في الأرض إليها.

لا شيء يفسر الإصرار الأعمى على الإبحار من شمال لبنان إلى شواطئ أوروبا سوى بلوغ المجازفين بحيواتهم وحيوات عائلاتهم سقف اليأس القاتل، في بلد دخل سن اليأس الجماعي، فهم يريدون تحرير أنفسهم من هذه الحياة الظالمة. والموتُ لهم هو موت الإحتياج إلى كل ما هم محرومون منه، حلالًا كان أو حرامًا. فالغذاء كما الممنوعات، والفوضى كما السلطة، والملل كما الفرح، والتعب كما الحيوية. لذا، الهجرة القاتلة ليست يأسًا. هي موت الموت. هي الموت السريع غرقًا في البحر، بديلًا من الموت البطيء بسَمِّ اليأس والقنوط.

لكن لبنان، بكل الأبعاد، أشبه بزورقٍ يغرق أيضًا، وربابنته كُثُر، ليس في تعددهم نعمةً للبلد بل نقمة لا تُسبِّب إلّا مزيدًا من اليأس من فرص نجاته، لأن لا مُقدّسات فيه لديهم، ومنهم مَن يعمل على تفتيته، لإعادة جمعه على ما يهوى ويرتَئي، وتغيير هويته وانتمائه، خلافًا للتاريخ والجغرافيا. وكما قال مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، “فقد تكاثرت الأزمات، وتكاثرت الاستثناءات، وتكَاثرتْ حالات الغياب أو الضَعف، أو الانْسداد في سائر المؤَسَّسات والمرافق، بحيث دخلنا في وضع الدولة الفاشلة، ونحن سائرون بسرعة باتجاه اللادولة”. أليس ذلك أكثر سوادًا من عتمة البحار على المهاجرين الغرقى، رجالًا ونساءً وأطفالًا؟

ليست المُقارنة بهذه السهولة، لكن المؤكد أن لبنان بات عنوانًا لموتٍ بطيء، يسدد كلفته الوطن والمواطن، فيما يتلهّى أهلُ الحلِّ والرَبطِ بسفاسف الأمور، كأن لا أزمة ولا من يدفع الأثمان، فصار مُلحًّا أن يرسم مرجع خطوط الخروج من عنق الزجاجة، وتسمية البوابة الرئيسة إلى ذلك. وهو ما بادرت به دار الفتوى بلقاءٍ نيابي، انتهى إلى بيان ناقَضَ ما يشي به مكان الإنعقاد، من أنه فئوي وطائفي، ما حمله من معانٍ وطنية، وإرشادٍ إلى درب الحلول المطلوبة لمآسي الزمن اللبناني الرديء، بعناوين لا فئوية ولا مناطقية ولا مذهبية أو طائفية، صريحة في وطنيتها وبعيدة من الضيق الطائفي والمصلحي. فقارئ البيان يجد بين سطوره كل العناوين الوطنية الصادقة ما يُقرّبه من أن يكون ثابتًا بالشروط الوطنية العامة، ومَوضِعَ إجماعٍ على أنه يرسم خريطة طريق لإنهاء مآسي ابتزاز خيرات الدولة ومرافقها، تحت خيمة سياسية عنوان فشلها لا يحصر في تمييع التحقيق في تفجير مرفَإِ بيروت، وضياع أموال السدود والكهرباء إبنة الـ24 ساعة.

أكد البيان الكثير من مسلمات التطمين، من مسيحية رئيس الجمهورية، إلى كونه رأس المؤسسات الدستورية، وتاج إرادته الحفاظ على “ثوابت الطائف والدستور والعيش المشترك، وشرعيَّات لبنان الوطنيَّة والعربيَّة والدوليَّة” على أن يتكفّلَ بإنهاءِ “الاشتباكِ المُصَطَنَعِ وَالطَّائفِيِّ والانقِسَامِيِّ بِشَأْنِ الصَّلاحِيَّات”، مُنَبِّهًا إلى أنَّ عدم توافر المواصفات الوطنية للرئيس العتيد، أو غيابها، يؤدي إلى اختفاء النظام ثم الدولة.

ما يُبعِدُ لقاء دار الفتوى عن صورة اللقاء الطائفي، التي حاول بعضٌ إضفاءها عليه، لكون دار الفتوى الجهة الداعية، أن مفتي الجمهورية حمّل النواب المجتمعين مسؤولية إيصال رئيس جمهورية جديد مُنتَخَب إلى قصر بعبدا، ذي مواصفات لا تمارى “فهذه مسؤوليتكم في التغيير”، ورسم خطوطًا عريضة لإعادة لبنان وطنًا جامعًا، يستحق الحياة بكل أنحائه.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى