لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (16): التَسوِياتُ المُلَفَّقةُ للفَراغ

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

في مُنتَصفِ القرن التاسع عشر، اشتَعَلَ جبل لبنان، وسالت دماءٌ، بعدما أَرغَمَت الدولُ الكبرى الجيش المصري، الذي قاده إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا الكبير، على الانسحاب من سوريا. والتسوياتُ، التي أخمدت أوارَ تلك الحرب الأهلية الدامية، كانت من نسج القوى الخارجية، ومنها بوجه الخصوص بريطانيا وفرنسا.

وكانَ ذلك بسببِ قرارٍ اتخذته الحكومة البريطانية بإنشاءِ دولةٍ يهودية في فلسطين تكونُ بمثابةِ إسفينٍ فاصلٍ بين مصر وسوريا حتى لا تتكرّرُ تجربة محمد علي، فيتزعزع الوضع الإقليمي، كما حدث عندما وصلت الجيوش المصرية عبر سوريا الى الأناضول، وذلك قبل سبعين سنة من وَعدِ بلفور.

إنَّ قرارَ الحربِ والسلم في أيدي الدول الكبرى يعني جعل الحروب الأهلية مُستدامة، بطُرُقٍ وأساليب مختلفة حسب الحاجة ومتطلبات الواقع السياسي، كما يعني اعتماد تسويات مُرَقَّعة، هي بطبيعتها تأسيسية لحروبٍ أهليةٍ جديدة. إلّاَ أنَّ كثيرين من شعوبِ المنطقة، خصوصًا في المنطقة المُحيطة بفلسطين، لا يُصدّقون، الى اليوم، بأنَّ حروبهم الأهلية، والتسويات الخارجية لوقفها، لهما ارتباطٌ مُباشر بالمشروع الصهيوني من قَبلِ قيام دولة إسرائيل بعشرات السنين.

إنَّ “نظامَ القائمقاميتين” في جبل لبنان كانَ له طابعٌ تقسيمي، أو فلنقل “كونفيدرالي”، (كثيرون حتى اليوم يخلطون بين الكونفيدرالية كنظامٍ تقسيمي، وبين الفيدرالية التي هي أرفع النُظُم التوحيدية). وبالتالي حَمَلَ ذلك النظام في طيّاته بذورَ حربٍ أهلية أُخرى، اقتضت تسويةً خارجية جديدة، فكانَ “نظامُ المُتَصَرِّفية” الذي دام حتى الحرب العالمية الأولى، وتفكيك الإمبراطورية العُثمانية، ثم الاحتلال الأنكلو-فرنسي للمشرق العربي، وتقسيمه إلى دوله القائمة حاليًا، بما فيها الكيان الإسرائيلي في ما بعد (بعد الحرب العالمية الثانية خلال سنواتٍ قليلة)، فاكتملَ مشروعُ “دقّ الإسفين بين مصر وسوريا”، المُخَطَّط له منذ حملة ابراهيم باشا في برِّ الشام.

وهكذا بقيت جذوةُ الحروب الأهلية مُشتَعِلة في هذه المنطقة، التي قسّمها الاستعمارُ الغربي إلى دولٍ مُستقلّة عن بعضها البعض، لكنها مُرتَبِطة ارتباطًا وثيقًا بالدول الكبرى، صاحبة قرار الحرب والسلم.

وإذا أخذنا الحالة اللبنانية التي نحنُ بصددها، لكونها مُتَجَدِّدة بصورةٍ سريعة، نجدُ أنَّ الاضطرابَ الأهلي اللبناني المُتَكَرِّر مردّهُ إلى تلك التسويات المُتعاقِبة. من “الميثاق الوطني” بعد الاستقلال، وقد خُرِقَ من أوّلِ الطريق، إلى التسوية التي أعقبت ما أطلقوا عليه اسم “الثورة” ضد عهد الرئيس الثاني بعد الاستقلال، كميل شمعون، تحت شعار “لا غالب ولا مغلوب”، ثم بعد تفاقُمِ الوجود الفلسطيني في عموم لبنان، والتسوية التي أعقبته بعقد “اتفاق القاهرة” الذي أضفى الشرعية على السلاح الفلسطيني، مما انتَقَصَ من السيادة اللبنانية إلى درجةٍ كبيرة، فأدّى ذلك إلى أطولِ الحروبِ الأهلية في تاريخ لبنان الحديث. فأعقبتها التسوية المعروفة باسم “اتفاق الطائف”، وهو كغيره من التسويات السابقة، حربٌ أهلية مُقَنَّعة، بدليلِ التخبُّطِ المُستَمِرِّ في جوٍّ من الأزمات المُتفاقمة التي بدأت تأخذ طابعًا وجوديًا يتعلّقُ بمصير لبنان والشعب اللبناني، بفعل الانهيارات السياسية والاقتصادية والمالية والمصرفية والاجتماعية، إلى جانب ملايين اللاجئين والنازحين.

فالتسويةُ، أيُّ تسويةٍ، مثل “الميني تسوية” التي جرت في العاصمة القطرية الدوحة في العام 2008، بعد “ميني حربٍ أهلية” مُلفَّقة (حوادث 7 أيار/مايو من تلك السنة في بيروت)، وقياسًا على السوابق التاريخية المُشار إليها، من غيرِ المُمكِنِ أن تتمَّ إلّا من خلالِ قوى خارجية. وهذا ليس بحاجة إلى أيِّ برهان، بل يكفي مُتابعة المهزلة الانتخابية في المجلس النيابي للتَيَقُّنِ من استحالةِ التوافُقِ الداخلي بين اللبنانيين، لأنَّ القوى السياسية اللبنانية القائمة مُرتَبِطة بجهاتٍ وأجنداتٍ خارجية، لكن تلك المسرحية الهَزلية مُستَمرّة لتضليل الشعب اللبناني وترقيده، بتجريعهِ وَهمِ الاستقلالية.

وغنيٌّ عن القول، إنَّ كلَّ تسويةٍ مُلَفَّقة تخلقُ بعدها وضعًا أسوأ من الوضع السابق، بحيث بات الرجوع إلى الماضي حُلمًا غير قابلٍ للتحقيق. إذ إنَّ التسوية، في هذا الإطارِ المُوَلِّدِ للأزمات بصورةٍ مُستمرّة، من شأنها أن تتركَ في أعقابها مزيدًا من الفراغ عمّا كانَ عليه الوضع السابق، وصولًا إلى حالاتٍ من الفراغ الطويل الأمد، وربما الكامل لتعذُّرِ العثور، أو القبول، بحلٍّ نهائي تنتفي معه الأزمات الوجودية على الأقل. ذلك أنَّ الفراغَ السابق لا يحملُ معه سوى الفراغ اللاحق. فالذي زرعَ الفراغ، من خلال الحرب الأهلية المُستدامة، في البلد المُستَهدَف، يعرفُ أنَّ النتيجةَ هي مزيدٌ من الفراغ. في حين أنَّ القوى المحلّية المُتصارعة تتوَهَّمُ أنها قادرةٌ على “النصر”، فيصبح الفراغُ حالةً مُناسِبة لها.

فالشعبُ اللبناني، إذا صحَّ التعبير، وإذا أراد الخلاص فعلًا من دوّامة الحرب الأهلية وما يليها من تسوياتٍ مُلَفَّقة ومؤسِّسة لحروبٍ مُقبلة، يتوجّب عليه أن يرفضَ ويُقاومَ تلك التسويات، لأنَّ ذلك يتيحُ فرصةً لوقف توسُّع وتمدُّد الفراغ، خصوصًا وهو يقتربُ من أن يكون فراغًا مُطلقًا لا يستطيع أن يملأهُ أحد.

وليس مُمكنًا أنْ يعيشَ اللبنانيون بسلامٍ دائم في ظلِّ تسوياتِ الفراغ، وما لهم سوى أنْ يطالبوا، مطالبةً جدّية ومُستمرّة، بحلٍّ نهائيٍّ دائمٍ لا يهتزُّ ولا يتعثّر، يُحاكي في استقراره تجاربَ عظيمة في أماكن أخرى مُتقدِّمة من العالم.

وحتى الذين يُطالبون باللامركزية الإدارية اليوم، ويتصوّرون أنها الحلُّ النهائيُّ المنشود، تنتظرهم خيبةً كبيرة، لأنَّ اللامركزية الإدارية، مهما كانت مُوَسَّعة، في ظلِّ النظام السياسي الراهن، والمؤسسات المُهَلهلة التي يقوم عليها، ليست مؤهَّلة لتكون حلًا. هي أيضًا من قبيل الترقيع.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى