العراقي الغامض
قراءةٌ مُتَأخِّرة في عَقلِ صدّام حُسَين

(1)
تعدَّدت الكتابات والمطلوبُ واحدٌ!
سليمان الفرزلي*
يَشاءُ تاريخُ العراق، أنْ يُدَوَّنَ فيه اسمُ رجلٍ ماتَ كما عاش، يلفُّهُ الغموضُ من كلِّ جانبٍ.
ففي ضُحى يوم 30 من كانون الأول (ديسمبر) سنة 2006 أطبقت راحةُ القَبرِ على صدام حسين، ذلك المجهول، الذي سالَ حبرٌ كثيرٌ، على فهمه، في حياته وبعد مماته.
لا يكادُ واحدٌ، ممن أمسكوا القلم وكتبوا عنه، وهم كثرٌ، أن يغوصَ في عُمقِ شخصيّةِ الرئيس العراقي الراحل، فيكشُف عن ملمحٍ من ملامح شخصيته، حتى تَغْمُضَ أمامه ملامحُ أخرى، فلا تكتملُ الصورةُ التي حاول رسمها للرجل.
يكمنُ السببُ في عَدمِ فَهمِ صدّام حُسَين، أنه لم يتمتَّع بمُرتَكزاتِ ثقافةٍ مُتَعَمِّقة، تمنحُه القدرة َعلى التعبيرِ الفكري عن مُعتقداته، وسياساته، فيستسهلُ الكلامَ، والكشفَ، والتوضيح.
والأغلبُ على الظَّنِ، أنه كان يتقصًّدُ الغموض، ويتعمَّده، بسبب هذا الضعف البَيِّنِ الذي كان يُظهره وكأنه فعلٌ سياسيٌّ مقصود، فيحتار معه الحلفاءُ قبل الخصوم والأعداء.
وليسَ أدلَّ على ذلك، من أنه استدرجَ من أهلِ الصفوة، كتَّابًا وصحافيين، عربًا وأجانب، لوضع كُتُبٍ عنه، من خلالِ مقابلاتٍ طويلة، الأمرُ الذي زادهُ غموضًا على سكَّة التوضيح.
لقد أدَّى هَوَسُ صدّام حُسَين بالكُتُب، إلى شقِّ قلمه في كتابة الروايات، وكان قد شارف على الستين من سنيّهِ، على اعتقادٍ راسخٍ في ذهنه، أنَّ “الكتابَ هو مفتاحُ بابِ الخلود”، كما قال لي في إحدى المقابلات. وعلى الرُغمِ من ذلك، لم يَجرُؤ أن يضعَ اسمه على الروايتَين المنسوبتين إليه: “زبيبة والملك “، و”رجال ومدينة”، وفضَّل أن يوضع على غلافهما: “روايةٌ لكاتبها”.
إنَّ معظمَ القادة السياسيين في العالم، نُشرت لهم، وعنهم، كتبٌ، إما بمساعدةٍ من كتَّابٍ مرموقين، أو لقاء مبالغ مالية. وحتى مُنتَصفِ خمسينيات القرن الماضي، كان هذا التقليد نادرًا ومحدودًا في العالم العربي، وما زال إلى اليوم، باستثناءِ حالتَين فريدتَين ومتميِّزتَين، هما: جمال عبد الناصر وصدّام حُسَين.
لم يستدرج جمال عبد الناصر أحدًا ليكتب عنه كتابًا، فالكُتُبُ التي نُشِرَت عنه، خصوصًا في الغرب، كانت قليلة، وربّما مُغرِضة. فالرئيس المصري، فضَّل الإعلام ووسائله وأدواته، واكتشفَ أهمّيته في العمل السياسي، وفي نشرِ أفكاره، ومُنطلقاته السياسية والاقتصادية، وتوسعة آفاق زعامته.
فقد كانَ مخلوقًا إعلاميًّا من الطراز الأول، ولذلك استهوته الصحافة اللبنانية على اختلافِ مشاربها، فواظَبَ على قراءتها كل يوم، يَرصُدُ من خلالها ما كانَ يُكتَبُ عنه من قليلٍ وكثير، وما كان يُحاكُ ضدَّه، كما أكد وزير إعلامه محمد فايق في “مسيرة تحرُّر”، وهو كتاب مذكراته.
إلّا أنَّ الإذاعة كانت الوسيلة الأحب لديه، فمن وراء المذياع بنى عبد الناصر زعامته، جاذبًا شعوب العالم العربي على جنبات الشرق، يطربون لسماعه، وينتشي هو من هتافاتهم. وكان بعض الحكام العرب، يسمعون نقده وتعرَّضه القاسي لهم، الذي كانَ يدخلُ أحيانًا في بابِ “الردح”، يتوجَّسون كلّما وقفَ وراء المذياع، ووجَّهَ كلامه إلى شعوبهم من فوق رؤوسهم. فبخطابٍ واحدٍ في دمشق أسقط حكومة عبد الوهاب مرجان في بغداد، وفي خطابٍ آخر أودى بحياة نوري السعيد وأطاح النظام الملكي في العراق. وعلى الجملة، كان عبد الناصر يتَّكئ على الإعلام الأفقي الواسع الانتشار.
صدَّام حُسَين، كان حالةً مختلفةً، فهو لم يتوسَّل الإعلام التقليدي سبيلًا إلى بلوغِ مآرب سياسية، إنما استخدمه أداةً استخباراتية، أو كوسيلةٍ تبريرية لمواقف مُلتَبسة. لكن مأثرته التي ما زالت فصولها تتوالى، فتتمثل بما سمّاه “الوسيلة الإعلامية الخالدة”، القابعة على رفوف المكتبات الى الأبد.
إنَّ شخصيةَ صدّام حسين، فرضت عليه اختيار الإعلام العمودي، يبثُّ من خلاله أفكاره وطموحاته البعيدة المدى أيضًا. فهو كان يعرف “محدودية الكاريزما” عنده، بمعنى أنه لم يكن يملك المواجهة الجماهيرية، والقدرة الخطابية، أو التنويع الفكاهي الظريف، كما حال جمال عبد الناصر، مما يستهوي الجماهير إلى درجةِ الإدمان على انتظارِ خطابه التالي.
إنَّ الكُتُبَ التي تصدُرُ عن صدّام حُسَين، خصوصًا في الغرب، عن دُورٍ لها ما لها في عالم النشر، تتعاقبُ بمعدّلات لا تُدانيها تلك التي وُضِعَت عن أشهر زعماء العالم، الأقدمين والمعاصرين، بمن فيهم يوليوس قيصر، ونابوليون بونابرت، وأدولف هتلر، وجوزف ستالين، وماو تسي تونغ…
عشرات الكتب تناولت صدّام حسين بمختلف لغات العالم، ولن يتوقّفَ، في المدى المنظور، إصدارُ الكتب والدراسات حول ذلك العراقي الغامض.
مع كلِّ كتابٍ يصدرُ يشعرُ القارئُ بأنَّ الموضوعَ ما زال بحاجةٍ إلى كتابٍ آخر… وكلُّ كاتبٍ وَضَعَ كتابًا عنه يشعُرُ بأنه مُقَصِّرٌ كلما اطَّلع على ما كتبه كاتبٌ آخر بعده عن الرئيس العراقي الراحل.
في تقديري، أنَّ سيلَ الكُتُبِ عن صدّام حسين سوف يطفحُ في المُقبلات من الأيام، لأنَّ الأميركيين بعد احتلالهم العراق، نقلوا كامل أرشيف الدولة العراقية الرسمية إلى واشنطن، وهو يتضمّنُ توجيهات صدّام حسين في اجتماعاتِ مجلس قيادة الثورة، ومجلس الوزراء، والقيادات الحزبية، وعلى محاضر رسمية لمحادثات الرئيس العراقي الراحل مع رؤساء الدول، الذين زاروه أثناء فترة رئاسته، بل قبلها، مذ كان نائبًا للرئيس أحمد حسن البكر.
كانت الأجهزة المُختَصّة في الإدارة الأميركية، بدأت في تصنيف تلك المضبوطات وأرشفتها، وراحت، في الفترة الأخيرة، تضعها تدريجًا في التداول، فتسنّى للباحثين الاطلاع عليها والغَرف منها، إلّاَ أنَّ بعضَ الباحثين تقدَّمَ بدعاوى قضائية ضدّ الإدارة الأميركية وأجهزتها المُختَصّة القابضة على مفاتيح خزانة المحفوظات، للحصول على معلوماتٍ لم يُفرَج عنها بعد، ولم توضَع في التداول.
ومن الطبيعي أن يبدأ الإفراج من الجديد الى القديم، أي من محاضر استجواب صدّام حسين وأعوانه بعد أسرهم، وهي تتضمّنُ آلاف الصفحات عن مختلف القضايا. فالكُتُبُ الصادرة أخيرًا، وتلك التي ستصدُرُ لاحقًا، مُستَمَدَّة في معظمها من مضمون محاضر تلك الاستجوابات. لكنَّ القسمَ من الوثائق المُتعلّقة بصدّام حسين خلال فترة رئاسته، ما زال قيد الحفظ، ويُقدَّر له أن يجتذبَ عددًا أكبر من الكتَّاب متى وُضع في متناول الجميع. ومن المرجح أن يبقى بعضه قيد الكتمان، لكونه يتعلق بالسياسات السرّية للإدارة الأميركية في العراق خلال حُكم الرئيس العراقي الراحل.
أمّا الكتَّاب العرب الذين وضعوا كتبًا مهمة باللغة الإنكليزية، فإنَّ الأسلوب النقدي الذي صيغت به، لا يخفى على العارفين بهم، وبالرئيس صدام حسين، أنه يُكنُّ غَرضيَّة مرضيَّة في بعض الأحيان. فأشهر هؤلاء اثنان: الصحافي الفلسطيني الراحل سعيد أبو الريش في كتابه “صدام حسين: سياسة الانتقام”، والعراقي المعارض كنعان مكية، (باسمٍ مستعار هو “سمير الخليل”)، بعنوان: “جمهورية الخوف”.
يبقى كتاب “فخ أخيل”: صدام حسين ووكالة الاستخبارات المركزية، جذور الغزو الأميركي”، للكاتب ستيف كول، الذي صدر في مطالع 2024، وقد اتكأَ فيه على الوثائق والمضبوطات العراقية، فجاءَ أوسعَ أفقًا وأعمق محتوى من معظم الكتب الصادرة عن صدّام في حياته.
ومع أنَّ كتابَ ستيف كول مُتميِّزٌ بسعة مراجعه، ودقّة بحوثه، لا سيما أنه حائزٌ على “جائزة بولتزر” عن كتابه “حروب الأشباح”، فإنه هو الآخر لا يُغني عن كتابٍ أو كُتُبٍ أُخرى حول مسيرة صدّام حسين، وحقيقة أفكاره، أو تصوُّره لدور العراق ليس فقط في العالم العربي، بل في العالم الأوسع، وحول قصوره الشخصي عن تجسيد مشروعه، من حيث أسباب انعدام التطابق بين أفكاره وبين أفعاله.
من زاوية القصور في الرؤية سوف تنطلق هذه الجولة المُتأخّرة في عقل صدّام حُسَين.
(الحلقة الثانية يوم الأربعاء المقبل: خُرافات مدرسة طلفاح).
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.