حين الدولة لا تستحقُّ الوطن
بقلم هنري زغيب*
كان بِوِدِّي أَن أَكتب عن الاستقلال في لبنان، عند ذكرى يومه السابعة والسبعين.
غير أَنها مؤْلمةٌ، هذه الذكرى، فيما إِحياءُ يومها في سائر الدُوَلِ مدعاةُ اعتزازٍ وفَخارٍ بِـهَيبةِ البلاد ومجدِ الوطن. فهل هذه حالُ دولتِنا اليوم؟
“سائر الدول” قلتُ؟ ولكنَّ سائرَ الدول، إِذ تسمِّيه “اليومَ الوطني”، تلتفتُ إِلى الوراء فترى الوراءَ بعيدًا عمَّا هي فيه اليومَ من تقَدُّمٍ لم تكن عليه عامئذٍ فجرَ ذيِّالك الذي تَكرَّسَ من يومِها “يومَها الوطني”. فهل هذه حالُ دولتِنا اليوم؟
مسارُ التاريخ الطبيعيُّ الدائمُ أَن تتقدَّم الدولةُ يومًا بعد يوم، فيكونَ “اليوم الوطني” مرآةً تُريها كيف كانت هذه الدولةُ أَمْسَئِذٍ وأَين، وكيف هي اليوم وأَين. فهل هذه حال دولتِنا اليوم؟
أَقول ذكرى الاستقلال، لا ارتجاعًا القصةَ الرتيبة المأْلوفة عن سَجن رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح، وإِطلاقهما واعتبار الشعب ذاك الإِثنين (22/11/1943) يومَ استقلال لبنان. لا القصةُ هي الذكرى اليومَ بل العِبرة. والعبرةُ هي الـ”لا” المرفوعةُ في وجه فرنسا الانتداب، مع كلِّ ما هندَسَتْه من مؤَسسات وأَبنية ولوجستيات، فكانت تلك الـ”لا” أَولَ خَطوة لجلاء الجيوش الأَجنبية عن أَرض لبنان بعد سنوات ثلاث، وكانت تلك عِبرة الكرامة أَلّا يكون على أَرضنا إِلَّا جيشٌ واحدٌ وحيد.
قلتُ “العِبرة” وقلتُ “الكرامة”، وهما أَلّا يتدخَّل أَحدٌ من الخارج في قرار لبنان. فهل هذه حال دولتِنا اليوم؟
وفي عدَم التدخُّل بداهةُ أَن تتولَّى الدولةُ رعايةَ أَبنائها أُمًّا حانيةً على رَفاههم، تسهرُ كي يناموا بهناءَة. فهل هذه اليوم حال دولتنا التي تخلَّت ليلًا ونهارًا عن أَبنائها تاركةً إِياهم لمصيرهم الأَسْوَد يتراكضون في كل اتجاه بحثًا عن خلاص، مثلما على طرقات بيروت المدينة ومفارقها التي انطفأَت فيها – أَو تكسَّرَت – أَعمدةُ الإِشارات الكهربائية أَخذ المواطنون يَتَلاطَمون بلا دولة راعية، بل “سارحة والرب راعيها” و”إِمشِ على ما يقدِّر الله”؟ وكيف يمشي المواطنون وإِشاراتُ سيرِ الدولةِ السياسيةُ والأَمنية والصحية والاجتماعية مُطْفَأَةٌ أَو مُكَسَّرة؟
عبرة الاستقلال في الكرامة؟ صحيح. وأَيَّ كرامةٍ نشهد عندنا، وليس في الدولة أَمكنةٌ ولا فُرصٌ ولا حقائبُ لتَدَاوُل السلطة بل مصادرة الأَمكنة ومحاصرةُ الفرص ومحاصصةُ الحقائب؟
“اليوم الوطني” استذكارُ الشعبِ تاريخَ فرحٍ في وطنه. وأَيُّ فرحٍ لنا والدولة هدَّامةُ الوطن بأَيدي مَن يُفتَرَضُ أَنهم بُناتُه الـمُواصِلون زنودَ مَن عمَّروه وسلمونا إِياه صرحًا ذا سقفِ أَمان وطمأْنينة؟
قلت “الدولة”، وقلت “الوطن”. وشتَّان ما بينهما. فالدولة خادمةُ الوطن بـمجموع زائلين مهما رزحوا، والوطن باقٍ شعبًا وأَرضًا وتاريخًا. ويا خجلَ الدولة من شعب الوطن حين لا تكون خادمتَه الأَمينة الآمنة المؤَمِّنة المأْمونة.
“اليوم الوطني” سيبقى يومَ الوطن الدائمَ التذكارِ عبرةً وكرامةً، وستبقى تُشرق شمسه على شعبه المقهور والمغدور لأَنه أَسلَم قيادتَه إِلى دولةٍ في لبنان اليوم عاجزة فاشلة لم تعرف كيف تحافظ عليه فجعَلَتْه شَحَّادًا في عيون الدُوَل، وجعلَت أَبناءَه تائهين على رصيف الإِعانات يَطلبون غوث اللاجئين بعدما دولتُهم حوَّلتْهم لاجئين لبنانيين على أَرض لبنان.
كان بِوِدِّي أَن أَكتب عن الاستقلال في لبنان بفَرحٍ واعتزاز، لكنني أَفتقدُهما، ولن أَسترجِعَهُما حتى تقومَ عندنا دولةٌ راشدةٌ مسؤُولةٌ تستحقُّ الشرف الأَكبر: أَن تدير شُؤُون الوطن.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib