كَيفَ وَرَّطَ السيسي الرعاةَ الدوليين في عملياتِ القَمعِ وحِمايَة نظامِه

أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي استراتيجية اقتصادية ومالية ورّط فيها دولاً غربية ومؤسسات دولية في حماية نظامه، جاعلاً أي مطالب ناشئة للديموقراطية تتعارض مع المصالح الدولية.

الجيش المصري: القروض والإستثمار الدوليان يُعزّزان هيمنته على السياسة والإقتصاد.

بقلم ماجد مَندور*

يتبع نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي سياسة ثابتة تتمثّل في ترسيخ نفسه في النظام المالي العالمي ليتماشى استقراره مع المصالح الإقتصادية للمنظمات الدولية والدول الغربية والشركات الخاصة. وعلى الرغم من أن النظام يقوم بتسويق نفسه دولياً باعتباره حصناً ضد الإرهاب وتدفقات الهجرة غير الشرعية، غالباً ما يُلقي هذا السرد بظلاله على الإستراتيجية الإقتصادية الأساسية. إنها سياسة الإقتراض الثقيل والكثيف التي تُورّط فاعلين دوليين في عملية قمع النظام وزيادة الحرمان الإجتماعي للطبقات الدنيا والمتوسطة، ما يؤدي بشكل فعّال إلى عدم الإستقرار والتطرّف العنيف – ليس فقط في مصر، ولكن ربما أيضاً في جميع أنحاء المنطقة.

تتكوّن سياسة الحكومة المُتمثّلة في ترسيخ نفسها في النظام المالي العالمي من ثلاثة مُكوّنات. أولاً، هناك اعتمادٌ مُتزايد على القروض الخارجية لتمويل العمليات الحكومية ومشاريع البنية التحتية الضخمة. وهذا يشمل زيادة مفاجئة في السندات الحكومية قصيرة الأجل وسندات الخزانة، أو “الأموال الساخنة”. ثانياً، أدّت الزيادة في صفقات الأسلحة منذ العام 2014 إلى جعل النظام ثالث أكبر مستورد عالمي للأسلحة بين العامين 2015 و2019. وأخيراً، أدّى المستوى المُرتفع للإستثمار الأجنبي المباشر في قطاع النفط والغاز في مصر إلى ربط الإستثمار الغربي طويل الأجل باستقرار النظام. إن هذه العوامل توفّر أساساً للإعتماد الدولي على النظام بسبب المصالح المالية. كما أنها توفر حوافز مباشرة للتواطؤ الدولي في القمع وتخلق عقبات أمام التحوّل الديموقراطي. في نهاية المطاف، تؤدي هذه الاستراتيجية الاقتصادية إلى تفاقم التحديات طويلة الأجل مع آثار مُزعزعة للإستقرار. عندما يتم استخدام تدفقات رأس المال الدولية لتمويل هَيمَنة الجيش على الإقتصاد المصري، فإنها تسمح للأجهزة الأمنية إحكام قبضتها على الدولة.

تعتمد مصر بشكل كبير على الديون لخلق التبعيات المالية بين النظام والجهات الفاعلة الدولية. شرع النظام في موجة اقتراض أدّت إلى زيادة الدين الخارجي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي للديون من 14.67 في المئة في العام 2012 إلى 31.7 في المئة بحلول الربع الأول من العام 2020، لتصل إلى 111.3 مليار دولار. ورافق هذا الإنفجار في الديون أيضاً نمو هائل في مستوى الحيازات الأجنبية من سندات الخزانة المصرية قصيرة الأجل، والتي ارتفعت من 60 مليون دولار في منتصف العام 2016 إلى 20 مليار دولار في تشرين الأول (أكتوبر) 2019. وتمكّن النظام من جذب هذا التدفق القصير الأجل لرأس المال من خلال تقديم واحد من أعلى معدلات الفائدة في الأسواق الناشئة، مع معدل عائد يحوم حول 13٪ اعتباراً من تموز (يوليو) 2020. وقد أكسب هذا مصر سمعة “محبوبة الأسواق الناشئة”، وانعكس ذلك على مستوى طلب المستثمرين على إصدار سندات دولية بقيمة 5 مليارات دولار. وهو الأكبر في التاريخ المصري، حيث تجاوز الإكتتاب 4.4 مرات، ما يشير إلى ثقة المستثمرين في استقرار النظام.

الواقع أن للإقتراض الثقيل عددٌ من العواقب الوخيمة على مصر والمجتمع الدولي. أولاً، يُرسّخ النظام في النظام المالي العالمي، حيث تعتمد قدرته على سداد ديونه على بقائه. وهذا يعزل النظام عن الضغط الدولي لتخفيف قمعه. إن الإضطرابات في مصر ستؤثّر بشكل مباشر في عائدات الحكومة حيث تقل قدرة النظام على تحصيل الضرائب، بالإضافة إلى قدرته على تجديد ديونه – ما يزيد من فُرَص التخلف عن السداد. ثانياً، تُورِّط الدائنين الدوليين للنظام في تخصيصه للأموال العامة لإثراء النخب العسكرية من خلال مشاريع البنية التحتية الضخمة. إن تمويل هذه المشاريع يتمّ بشكل مباشر وغير مباشر من قبل ممولين ماليين دوليين (الحلفاء الإقليميون والمنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي).

وتلعب فورة الإنفاق على السلاح، التي بدأها النظام في 2014، دوراً حاسماً في ترسيخ شبكة أمانه الدولية. تضاعفت واردات الأسلحة ثلاث مرات بين العامين 2014 و2018 مُقارنة بالفترة من 2009 إلى 2013. إنها زيادة قدرها 206 في المئة. ولا تظهر وفرة مشتريات الأسلحة أي علامات على التراجع – أخيراً في حزيران (يونيو) 2020، بدأ النظام محادثات مع إيطاليا بشأن صفقة أسلحة كبيرة بقيمة 9.8 مليارات دولار. وتُمثّل صناعة الأسلحة الغربية (والروسية) مصدراً رئيساً للإمداد – فرنسا وروسيا والولايات المتحدة هي أكبر الدول الموردة. ولبّت فرنسا وحدها 35٪ من طلب النظام على السلاح بين العامين 2015 و2019.

في حين أن عمليات الإستحواذ ونقل الأسلحة تشمل الأسلحة التقليدية، فإنها تتضمّن أيضاً شراء معدّات المراقبة ومعدّات السيطرة على الحشود، التي تُستَخدَم في القمع المباشر للإحتجاجات. من الصعب تأكيد مصادر تمويل صفقات الأسلحة هذه – فهي لا تنعكس في أرقام موازنة الدفاع الرسمية. ومع ذلك، هناك بعض الأدلة على أن القروض الخارجية يتم استخدامها جزئياً لهذا الغرض. على سبيل المثال، في العام 2015، تم تمويل صفقة أسلحة بقيمة 5.2 مليارات يورو – والتي تضمنت 24 طائرة مقاتلة من طراز رافال – بين مصر وفرنسا جزئياً بقرضٍ حكومي فرنسي بقيمة 3.2 مليارات يورو. وهذا يعني أن دافعي الضرائب الفرنسيين أقرَضوا النظام المصري 3.2 مليارات يورو لشراء أسلحة، وسيدفعها دافعو الضرائب المصريون بفوائد. وهو ما يعكس عملية تخصيص الأموال العامة المصرية لأرباح صناعة السلاح الفرنسية. لقد جعلت صفقات الأسلحة هذه النظام أحد كبار العملاء لمصنّعي الأسلحة الغربيين، ما أدّى بشكلٍ فعّال إلى ربط الصناعات الدفاعية الغربية ببقاء النظام.

تترتّب على تحوّل النظام إلى مُستوردٍ رئيس للأسلحة نتيجتان رئيستان. أولاً، يُورّط الدول وصناعة الدفاع الغربيتين – المُورّد الرئيس لأجهزة المراقبة والسيطرة على الحشود – في قمع المعارضة الشعبية. ثانياً، يمنع الدول الغربية ويحدّ من رغبتها في إدانة انتهاكات حقوق الإنسان والعمل ضدها. على سبيل المثال، واصلت إيطاليا تزويد النظام بالأسلحة حتى بعد تسمية خمسة من أفراد جهاز الأمن المصري في كانون الأول (ديسمبر) 2018 كمشتبه بهم في تعذيب وقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في العام 2016. علاوة على ذلك، تضاعفت مبيعات الأسلحة الإيطالية لمصر ثلاث مرات في العام 2019، وتُخطّط لعقد سلسلة من صفقات الأسلحة لعام 2020 بإجمالي 11 مليار يورو. إن استمرار تدفق الأسلحة من إيطاليا دفع بمنظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى الدعوة لوقف عمليات نقل الأسلحة الإيطالية، مُشيرة إلى مخاوف من أن الأسلحة الإيطالية تُسهّل الإستبداد. إن دولاً مثل إيطاليا تُمكّن القمع الشديد للنظام بطريقةٍ لن تؤدي إلّا إلى زيادة الإستقطاب السياسي، وتثبيط آفاق الدَمَقرطة، وتَمَركُز سلطة الدولة في أيدي الأجهزة الأمنية.

من ناحية أخرى، يُعَدُّ ارتفاع مستوى الإستثمار الأجنبي المُباشَر في قطاع النفط والغاز المصري عنصراً آخر. يُعتَبَر النظام حالياً الوجهة الأفريقية الأولى للإستثمار الأجنبي المباشر، حيث بلغت هذه الإستثمارات 9 مليارات دولار في العام 2019. ويتوجّه معظم الإستثمار إلى قطاع النفط والغاز، والذي عزّزه اكتشاف حقل غاز “ظهر” في العام 2015، وهو الأكبر في مصر ومنطقة البحر المتوسط. ولمواصلة جذب الإستثمار الأجنبي المُباشر إلى القطاع ، قدّم النظام في العام 2019 عقوداً جديدة للتنقيب عن النفط والغاز بشروطٍ مواتية للمُستثمِر. تسمح هذه الشروط الجديدة للمُستثمر السيطرة على حصته من الإنتاج، بدلاً من إجباره على بيعها للحكومة. إن حقل “ظهر”، هو جزء من امتياز “الشروق”، المملوك بشكل مُشترَك بين “إيني” – شركة النفط الإيطالية المملوكة للدولة – وشركتي “بريتش بتروليوم” و”روسنفت”، حيث تمتلك “إيني” فيه حصة 50 في المئة. وبينما تُقدَّر قيمة الإستثمار الأجنبي المباشر المتراكم في هذا القطاع بالمليارات، فقد بلغ إجمالي استثمارات “إيني” في القطاع بين العامين 2015 و2018 مبلغ 13 مليار دولار. إن طفرة الإستثمار الأجنبي في قطاع النفط والغاز المصري هي سياسة حكومية مدروسة. في 31 آب (أغسطس)، أعرب الرئيس عبد الفتاح السيسي عن دعمه لتوسيع استثمارات “إيني” في البلاد، ذلك أن مثل هذه الإستثمارات تُضاعف من اهتمام شركات الطاقة الدولية بالنظام، وتربط استثمارات بمليارات الدولارات ببقائه وديمومته.

بالإضافة إلى الإنعكاسات على الأمن والإستقرار، تجعل هذه السياسات النظام المُستَفيد الرئيس من نقل الثروة من الطبقتَين الوسطى والدنيا إلى النُخَب العسكرية. إن النظام يُراكم الأرباح من خلال الفوائد على القروض وصفقات الأسلحة وعائدات النفط والغاز – وكلّها مُمَوَّلة من قبل دافعي الضرائب المصريين. كما أنه يضمن أن أي مطالب ناشئة لإرساء الديموقراطية ستتعارض مع المصالح الدولية، ما يضمن بشكل أساس بقاء النظام لفترة أطول بكثير مما كان سيحصل عليه بدون هذا الدعم السخي.

  • ماجد مندور هو مُحلّل سياسي مصري وكاتب عمود في “سجلات الثورة العربية” على موقع “أوبن ديموقرِسي” (Open Democracy) في بريطانيا. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @MagedMandour.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى