قِمَّةُ طهران: التَحَكُّمُ المَضبوطُ بال”ستاتيكو” السوري
محمّد قوّاص*
لم تكن القمة التركية-الإيرانية-الروسية في طهران ردًّا على “قِمم جدة”، ولم يَقصُد الحضور ذلك أبدًا. صحيحٌ أن منابِرَ موسكو قدّمَت الحدث بصفته جواب فلاديمير بوتين على جو بايدن في المنطقة، لكن لا أحد في طهران وموسكو وأنقرة انزلق إلى هذا الطموح، ولم يخرج عن هذه القمة ما يُوحي بذلك.
تولّت صحافةُ العواصم الثلاث تضخيمَ القمّة ووَصفَها بالتاريخية وإسباغَ مُستوياتٍ استراتيجية عليها. حتى أن حديث الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي عن “وثيقةٍ استراتيجية” تؤسّس لعلاقاتٍ جديدة بين إيران وتركيا لم يلفت نظر المراقبين. كانت العواصم الكبرى قد “عَقلَنت” الوثيقة الاستراتيجية التي لُفِّقَت بين الصين وروسيا في قمة زعيمَي البلدين في شباط (فبراير)، وأعادتها إلى مكانها الطبيعي “المسرحي” بما تعجّ من حبرٍ وسطور.
أمورٌ كثيرة تَجمَعُ إيران وروسيا وأمورٌ أقلّ تجمعُ تركيا بهما.
تبدو موسكو وطهران في خندق “قتالي” واحد ضد “الامبريالية” الغربية و”الشيطان الأكبر” في واشنطن. في المقابل تُصَوِّبُ الولايات المتحدة عقوباتها “التاريخية” (أيضًا) ضد الجمهورية الإسلامية والاتحاد الروسي. يجتمع البلدان في سوريا، يُقاتلان سويّة، روسيا جوًّا وإيران برًّا، ويتواطآن سويّة على ابتلاع التفاهمات الروسية-الإسرائيلية ومفاعيلها داخل سوريا. هنا تظهر تركيا غريبة عن هذا المشهد.
تخوض روسيا وإيران معارك ليست معارك تركيا. لطهران ورشةٌ مُعَقَّدة للحصول على أفضل الشروط لإبرامِ اتفاقٍ مُحَدَّثٍ مع مجموعة الـ 5+1 بشأن البرنامج النووي. من أجل هذا الهدف تُعظّم إيران شأن نفوذها الإقليمي وما تملكه من أوراق قوة. ولروسيا أهدافٌ استراتيجية كبرى تروم تغيير النظام الدولي وفرضه مُتعدّدًا. هكذا يُعرّف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “العملية الخاصة” في أوكرانيا. وعلى هذا تبدو سوريا ورقة قوة لموسكو وطهران وجب التمسّك بها والحفاظ على مكاسبها.
هنا تتباين أجندة طهران وموسكو مع أنقرة. وهنا تقوم روسيا وإيران بالتصدّي المدروس لطموحات الرئيس التركي. فجأةً بدا أن موسكو تطيح كل ما أُشيع عن تقلّص نفوذها في سوريا لحساب حربها في أوكرانيا. تضبط أيضًا طموحات إيران في وراثة أي تركة روسية وفي تعبئة أيِّ فراغٍ تُحدثه موسكو في سوريا.
وإذا ما كان موقفُ روسيا حاسمًا في الانتقال الحاد من “تفهّمِ الهواجس التركية” إلى رفض العملية العسكرية (وفق ألكسندر لافرنتييف مبعوث موسكو إلى سوريا) وتحريك قوّاتٍ عسكرية روسية-دمشقية-إيرانية ضدّها، فإن في الموقفِ تذكيرًا بخطوطِ حمرٍ مع طهران أيضًا.
ولا يَجوزُ اعتبار موقف المرشد الإيراني علي خامنئي من عملية تركيا العسكرية مُفاجئًا وصاعقًا. قال في حضرة الرئيس التركي أن العملية “ستعود بالضرر” على كل دول المنطقة وستُشَجِّع الإرهاب والإرهابيين. غير أن الموقف جاء مُتكاملًا مع أداء وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في “تفهّم الهواجس” من جهة وإلحاقه بمواقف ديبلوماسية أخرى تعتبر العملية “مُزَعزِعة للاستقرار”، ومواقف ميدانية تحرّكت وفقها القوات والميليشيات التابعة لإيران صوب الشمال. ترفض طهران خطط أردوغان لأنها تحرّك الخطوط وتهدّد نفوذ إيران وتُقوّض الشعارات السيادية للحليف في دمشق.
جاء أردوغان إلى طهران وهو يعرف ما أُعلن من مواقف ذات سقوفٍ عالية من الروس والإيرانيين ضد العملية العسكرية. جاء أيضًا يحمل معطيات غير واضحة حول ذلك الودّ الطارئ مع واشنطن الحلف الأطلسي (رُغم مواصلته التهديد بعرقلة تفاهماته مع السويد وفنلندا). تقدَّم الرجل في لحظة استراتيجية نادرة لقطفِ ثمارٍ عجز عن جنيها قبل ذلك. يعرف أن اللحظة الأوكرانية تجعل تركيا جاذبة لموسكو وواشنطن وأوروبا، وأن أزمتَي الغذاء والطاقة منحتا أنقرة أدوارًا باتت حاجة دولية بامتياز، وأنه لا بد لـ”الهواجس المفهومة” من أن تُسَجِّلَ محاصيل في حساب الأرباح والخسائر.
للمفارقة، فإن واشنطن وموسكو وطهران أعلنت مُنفَصِلة رفضها العملية العسكرية التركية وتفهّمت جميعها مطالب أردوغان. ورُغم تأكيد الأخير في طهران “أننا سنواصل قريبًا قتالنا ضد المنظمات الإرهابية”، من المرجح أن لا تكون هناك عملية عسكرية بالمعنى الذي وعد به أردوغان وجعل هدفها شريطًا حدوديًا بعمق 30 كلم. فلا حاجة لأنقرة لخوض غمار مغامرة عسكرية لا تتّسق دوليًا مع ترانيم المعارك في أوكرانيا. في المقابل، فإن الرجل، مع ذلك، ذهب إلى طهران لجني ما تيسّر من مكاسب نسبية لن تُعلنها البيانات الرسمية.
أين “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) من كلِّ ذلك؟ إذا ما أرادت عواصم الدنيا المعنية بشؤون سوريا مُناكَفة تركيا ومواجهتها، فإن “قسد” هي عامل قوة تحظى بالدعم والتفهّم والتساهل وغضّ الطرف. وإذا ما حرصت العواصم على عدم خسارة تركيا ومُراعاةِ “هواجسها”، فإن “قسد” هي الحلقة الأضعف في هذه المعادلة. ولئن يُركّز الرئيس التركي على الخطر الكردي (المُرتبط بحزب العمال الكردستاني) الواجب إزالته، فإن واشنطن وموسكو وطهران تعمل هذه الأيام، مُتفرّقة، على ممارسة الضغوط على الأكراد ليوفّروا التنازلات المطلوبة لإنجاز الصفقة وإزالة فتيل الأزمة.
صحيح أن “قسد” تمكّنت دائمًا من المناورة بين واشنطن وموسكو ودمشق وطهران، إلّا أن هذه الرشاقة تنهلُ قواها من انقسامِ تلك العواصم حول الموقف من تركيا. أمرٌ لا يبدو أنه لا يزال مُتاحًا هذه الأيام. واشنطن تضغط، من خلال مبادرة حملها السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، لانسحاب الأكراد من مناطق معينة ترضى تركيا بالاكتفاء بها. موسكو تُعيدُ مُمارسة ضغوطها بهذه المناسبة باتجاه دفع الأكراد للحوار مع دمشق وصولًا إلى تسليمه مواقع “كردية” مواجهة للطرف التركي. وطهران، التي كما أنقرة، تُكافح التيارات القومية الكردية، لا يضيرها ترويض “قسد” بما يحافظ على علاقات إيران وتركيا.
لا تُمثِّل القمة الثلاثية في طهران أيّ تحوّلٍ يتعلّق بتسوية دولية قيد الإعداد للمسألة السورية. لا شيء سيتحرّك في هذا الملف كما ملفّاتٍ أخرى قبل أن تظهر النتائج الدولية للحرب في أوكرانيا. وما ستنتجه الحرب من موازين قوى سيُحدد حينها شكل التسوية في سوريا ومضمونها. تعرف أطراف الصراع ذلك، ولا تُريد لطموحات أردوغان العبث بالوضع الراهن أو ال”ستاتيكو” السوري، وكل هذا الضجيج، من إيران وروسيا بما فيه القمّة الثلاثية في طهران، هدفه الحفاظ على هذا ال”ستاتيكو” والتحكّم بخطوط انزياحه. يعرف أردوغان ذلك جيدًا وهو لا يريد إلّا تحسين شروط تَموضع تركيا داخل هذا الستاتيكو.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).