الفلسطينيون يُرَحِّبون بدَورِ الصين الجديد في الشرق الأوسط، لكنهم ليسَ إلى وساطةٍ يحتاجون

يحتاج الفلسطينيون إلى الصين، لأنهم يحتاجون إلى لاعبين أقوياء آخرين في جنوب الكرة الأرضية، لكنهم لا يحتاجون الآن إلى وساطة، بل إلى التضامن.

العلاقات الصينية-الإسرائيلية: قوية اقتصاديًا وبعيدة سياسيًا

رمزي بارود*

من المُمكن أن تواصلَ الصين لعبَ دورٍ مُهمٍّ في التوسّط في نزاعات الشرق الأوسط. في الواقع، قامت بذلك فعليًا. لكن في حالةِ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فإن الوساطة بالكاد هي القضية.

حتى قبل أن تنجح بكين في تحقيق المصالحة بين السعودية وإيران في نيسان (إبريل) الفائت، أظهرت الديبلوماسية الصينية نضجًا استثنائيًا.

لسنواتٍ عديدة، كان يُنظَرُ إلى الصين على أنها دخيلة على الشؤون العالمية، وأن همّها الأكبر هو التنافس من أجل التوسّعِ الاقتصادي أو التكاملِ الاقتصادي الإقليمي.

الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أجبرَ، أو بالأحرى، سرّعَ التواصل العالمي للصين عندما شنَّ، في العام 2018، حربًا تجارية غير مسبوقة على الدولة الآسيوية الكبرى.

أتت خطة ترامب بنتائج عكسية. لم تفشل واشنطن فقط في ثني بكين عن الانصياع للإملاءات الأميركية، بل ألهمت أيضًا ما أصبح يُعرَف ب”ديبلوماسية الذئب الصينية”، وهو نهج صيني حازم في السياسة الخارجية.

من وجهة نظر أميركية أو غربية، كان يُنظَرُ إلى التكتيك الجديد على أنه عدائي وعدواني. ولكن من منظورٍ صيني، كانت السياسة الجديدة ضرورية بسبب الحرب التي لا هوادة فيها التي شنّتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، جنبًا إلى جنب مع حلفائها الغربيين، ضد الصين.

ومع ذلك، عزّزت الحرب الروسية-الأوكرانية دور الصين في النزاعات الدولية والديبلوماسية. على الرُغم من أن “اقتراح السلام المكوَّن من 12 نقطة” الذي قدمته بكين في آذار (مارس) الماضي فشل في إقناع الغرب ورُحِّبَ به بشكلٍ سطحي من قبل موسكو، إلّا أنه سلّطَ الضوء على تحوّلٍ مُهِمّ.

إنَّ حقيقةَ أنَّ الصين وجدت أنه من الضروري تطوير موقف سياسي مُفصَّل كوسيطٍ مُحتَمَل يشيرُ إلى أنَّ بكين لم تعد راضية عن لعب دور الفاعل الداعم في المحافل الدولية.

تم رفض ديبلوماسية الصين من قبل الكثيرين، وخصوصًا في وسائل الإعلام والسياسة الغربية، باعتبارها لا تُمثّل بدايةً جيدة، أو أنها جادة على الإطلاق أو حتى حسنة النية. بعد ثلاثة أسابيع فقط، تم الاتفاق بين إيران والسعودية بوساطة صينية على إعادة العلاقات الديبلوماسية.

بدا أن اللاعبين السياسيين الرئيسيين في المنطقة، بما في ذلك واشنطن، قد فوجئوا. لقد وضع العديد من الصحافيين في جنوب الكرة الأرضية قصة النجاح الصينية جنبًا إلى جنب مع ديبلوماسية واشنطن المسدودة والمُعَرَّضة للمنافسة في الشرق الأوسط.

مدعومة بنجاحها، غامرت الصين أكثر في مناطق ديبلوماسية جديدة، وعرضت التوسط بين إسرائيل وفلسطين. وقد رحّبَ الفلسطينيون بدورٍ صيني. الإسرائيليون كانوا غير مُهتَمّين.

تدرك الحكومة الصينية شبه استحالة إشراك الفلسطينيين والإسرائيليين في محادثات سلامٍ حقيقية. على الرغم من أن الفلسطينيين يائسون للهروب أو، على الأقل، موازنة هيمنة واشنطن، فليس من مصلحة إسرائيل التخلي عن أكبر داعم سياسي وممول ومانحٍ وحليف عسكري لها – الولايات المتحدة.

على الرُغمِ من أنَّ الصين وإسرائيل قد طوَّرتا علاقات اقتصادية قوية نسبيًا، وبالنسبة إلى الصين، علاقات استراتيجية، في السنوات الأخيرة، فإن القيمة الجيوسياسية  لبكين بالنسبة إلى تل أبيب لا تُضاهي أو تُوازي  ببساطة قيمة واشنطن.

كما إنه ليس من المنطقي أن تمنح تل أبيب بكين أي نفوذ سياسي في وقت التحوّلات الجيوسياسية، خصوصًا وأنَّ الصين دعمت تاريخيًا نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية.

في الواقع، كانت الصين لعقودٍ من الزمن في طليعة الداعمين لمنظمة التحرير الفلسطينية ولاحقًا لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، مُصرّةً على احترام وتنفيذ القوانين الدولية ذات الصلة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

ليس من المستغرب أن الصين اعترفت بالمكانة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1965 ودولة فلسطين في العام 1988. والآن، تضغط من أجل العضوية الفلسطينية الكاملة في المنظمة الدولية. لقد كان الموقف الصيني أساسيًا لتحالفات بكين الاستراتيجية في جنوب الكرة الأرضية في العقود السابقة.

أدى النمو الاقتصادي للصين واندماجها في نظامٍ اقتصادي يُركّزُ على الغرب، بدءًا من العام 1978، إلى إضعاف التجارة الصينية وأهميتها السياسية بشكل تدريجي في الجنوب العالمي.

ومع ذلك، تمَّ عكس هذه العملية، ليس فقط بسبب الحرب التجارية لواشنطن، وتردُّدِ الدول الغربية في الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها بكين، ولكن بسبب العقوبات الغربية بقيادة الولايات المتحدة على موسكو. تُعتبرُ الحرب الاقتصادية الغربية على روسيا بمثابة تذكيرٍ عاجل للصين بأنها لا تستطيع الاعتماد بشكلٍ كامل على الأسواق والأنظمة المالية الغربية.

يقترنُ انحرافُ الصين البطيء عن النظام الاقتصادي المُتمَحور حول الغرب بنهجٍ جديد كليًا للسياسة الخارجية – “ديبلوماسية الذئب” في الغرب، ونهجٌ أهدأ وألطف في الجنوب العالمي.

حتى قبل إتصال وزير خارجية الصين السابق، تشين جانغ، بنظيرَيه الفلسطيني والإسرائيلي، وعَرضِ الوساطة، كانت الصين قدمت بالفعل مبادرة سلام تُعرَف ب”اقتراح النقاط الأربع”. وقد سلّط الاقتراح الضوء على استعداد الصين لتجاوز دورها كشريكٍ تجاري إلى دورٍ فاعلٍ سياسي على المسرح العالمي.

بالنسبة إلى الصين، لم تكن هذه مسألة هَيبة فقط، حيث أن العديد من الدول الإسلامية والعربية، إلى جانب إسرائيل، تُعتَبَرُ أطرافًا حاسمة في مشروع مبادرة الحزام والطريق الطموح.

ومع ذلك، في الأشهر الأخيرة، ازداد اهتمام الصين بأن تكون وسيط سلام بشكل كبير، لا سيما وسط الغياب شبه التام لواشنطن، التي نصّبت نفسها “وسيط السلام الشريف”.

كما أبدت الصين استعدادها للتوسط بين الجماعات الفلسطينية المتناحرة. وهذا أيضًا يُبَشّرُ بتطورٍ في نهج الصين تجاه السياسة الفلسطينية. ومع ذلك، لن يكونَ الأمرُ سهلًا.

يرتبط الرفاه المالي للسلطة الفلسطينية ومستقبلها السياسي إلى حدٍّ كبير بواشنطن والعواصم الغربية الأخرى. رُغم أن مسؤولين فلسطينيين، مثل وزير الخارجية رياض المالكي، يهددون بـ “اللجوء إلى الصين” بسبب “خيبة أمل” السلطة الفلسطينية بواشنطن، فإن مثل هذا التحوّل لن يُسمَحَ به، إن لم يكن من قبل واشنطن، فعندئذ من قبل تل أبيب نفسها.

الزيارة التي قام بها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى بكين في حزيران (يونيو)، على الرغم من أن وسائل الإعلام التي تديرها السلطة الفلسطينية وصفتها بأنها حدثٌ مزلزل، لن تُغيِّرَ قواعد اللعبة. صحيحٌ أنها تسلّط الضوء على المصالح الصينية المتنامية في فلسطين، لكن من غير المرجح أن يتبعها عملٌ جوهري من جانب القيادة الفلسطينية.

يحتاج الفلسطينيون إلى الصين، لأنهم يحتاجون إلى لاعبين أقوياء آخرين في جنوب الكرة الأرضية، لكنهم لا يحتاجون الآن إلى وساطة. الوساطات لا تُنهي الاحتلال العسكري أو تُفكّك أنظمة الفصل العنصري. بدلًا من ذلك، يحتاج الفلسطينيون إلى التضامن.

إن التغييرات الرئيسة الجارية في الخريطة الجيوسياسية للعالم، والأهمية المتزايدة للجنوب العالمي تُوفّرُ للفلسطينيين فُرَصًا فريدة للابتعاد عن الهيمنة الأميركية الغربية وإعادة الاتصال بالعمق الاستراتيجي الحقيقي لفلسطين في آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية وبقية العالم.

ولكي يحدث هذا، يجب على الفلسطينيين أن يُقدّموا قضيتهم كجبهة واحدة مُوَحَّدة، وليس كشظايا وفصائل سياسية. عندها فقط، يمكن للقوى الناشئة أن ترى فلسطين كأصلٍ جيوسياسي جدّي في عالمٍ مُتغيّرٍ بشكلٍ كبير.

  • رمزي بارود هو صحافي أميركي-فلسطيني ورئيس تحرير “The Palestine Chronicle. ألّف ستة كتب. كتابه الأخير، الذي شارك في تحريره مع إيلان بابيه، هو “رؤيتنا للتحرير: قادة ومثقفون فلسطينيون منخرطون يتحدثون بصراحة”. وبارود هو أيضًا باحث أول غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA). يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: ramzybaroud.net

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى