أستارُ “الناتو”

محمّد قوّاص*

أصابَ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حين تحدّثَ عن “ستارٍ حديدي” قد رُفِعَ بين روسيا والغرب. مَن تابعَ مَلِيًا قمّة “مجموعة الدول السبع” في ألمانيا وقمّة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في إسبانيا، ومَن يَقرَأ ما صَدَرَ من تصريحاتٍ ومواقف وبياناتٍ ووثائق، يستنتجُ تلك القطيعة التي أعلنها الغرب عامةً و “الناتو” بخاصة مع موسكو ونظام الحكم هناك.
ولئن يستعيرَ لافروف مَقولة ونستون تشرشل الشهيرة حول ذلك “الستار”، فإن في تاريخية تلك المقولة التشرشلية في العام 1946 والتي أسَّست للحرب الباردة، ما تَجِد في “ستار” لافروف تاريخية عبّرت عنها تصورات الحلف الأطلسي الاستراتيجية الجديدة وما سيَتَوَلّد منها من تحوّلات كبرى تشمل العالم أجمع.
عادَ “الأطلسي” لينظر إلى عقائده بزاويةٍ دائرية من 360 درجة.
عادَ أمنُ الجهات الأربع ليكون جُزءًا من أمن العالم الغربي، بحيث أن مواجهة “العدو” لم تَعُد محصورة في الجغرافيا الأطلسية، وأن لميدان المواجهة جبهات تتوزَّع عليها المهام والأعباء.
وإذا ما تحتشدُ الدفاعات الأطلسية مَنطقيًّا على الضفة الشرقية بمناسبة الحرب ضد أوكرانيا، فإن خطّةَ الأطلسي تُعيدُ تَفعيلَ الجبهة الجنوبية في بُعدِها الشرق أوسطي والأفريقي التي طالما دارَ لغطٌ في العقود الأخيرة حول أهمّيتها وأولويتها لا سيما في الحسابات الأميركية. لكن الخطّةَ تُلمِّحُ أيضًا إلى بدايةِ فَتحِ جبهةٍ داخل شرق آسيا.
لم تكن بريطانيا سابقًا على وفاقٍ مع الولايات المتحدة في شأن توصيف الخصم الاستراتيجي. لندن كانت تَعتَبِرُ أن روسيا هي ذلك الخصم الذي وجب الاستعداد لمواجهته عدوًّا كامنًا. واشنطن، ومند عهد الرئيس باراك أوباما، باشرت تحوّلًا استراتيجًّيا باتجاه الشرق لمواجهة أخطار الصين التي تَعتبرها الخصم الاستراتيجي الأول. غير أن الحدث الأوكراني أحدث زلزالًا في كل هذه المفاهيم.
تَعتَرِفُ دول الحلف الأطلسي، بما فيها الولايات المتحدة، أن روسيا التي كانت “شريكة” للحلف في وثائق العام 2010 باتت تُشكّل “التهديد الاستراتيجي الأكبر” للحلف في وثائق 2022.
استفاق “الناتو” من غيبوبته وتعافى من “موته السريري”، وفق ما كان يشكو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وعادَ، مُوَحَّدًا، ليكون اليد الضربة للمنظومة الغربية.
بات الحلف حَيويًّا خلاقًا في توفير سدٍّ لردّ “التسونامي” الروسي الذي أوحى به التمدّد صوب أوكرانيا وما يَستَبطنه من إطلالة على أوروبا مُستوحاة من الزمن السوفياتي وقبله المجد القيصري، وفق أدبيات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
المُفاجأة الصينية داخل الورشة الأطلسية جاءت ذات بُعدَين:
الأوَّل، بإعلان “الناتو” أن الصين ليست خصمًا لكنها تُشكِّلُ “تحدّيات” للحلف الأطلسي مُقارنةً بروسيا التي تُشكّلُ “خطرًا” استراتيجيًا يَستدعي الاستعداد الجدي والكامل لمواجهته الفورية.
وعلى هذا فإن المنظّمة الدفاعية الغربية، وعلى الرغم من التوافق الصيني-الروسي، لا تضع البلدان في كفّةٍ واحدة. والواضح في ذلك أن دول الحلف مُتَعدّدة غير مُتجانسة في معاملة الصين، فيما هي مُوَحَّدة مُتَّفقة إزاء الموقف من روسيا.
الثاني، أن الولايات المتحدة استطاعت إقناع بقية أعضاء الحلف الأطلسي بإدراج الصين داخل مهام الناتو واستراتيجياته بعد أن كان الأوروبين عمومًا مُتَحفّظين على موقف واشنطن من بكين رافضين تبنّي مذهبها في مناصبة العداء للعملاق الآسيوي.
واللافت أن قبول الولايات المتحدة باستخدامِ وَصفٍ يعتبر أن الصين تُشكّلُ “تحدّيًا” بدل ما تستخدمه تقليديا من أوصاف ترقى إلى مستوى الخصومة والعداء، يؤشّر إلى تحوّلٍ ما داخل عقائد واشنطن الاستراتيجية.
والأرجح أن واشنطن لم تُغَيِّر من خططها الاستراتيجية الكُبرى لمواجهة الصين في العالم وجنوب شرق آسيا عامةً ومنطقة المُحيطَين الهندي والهادئ (الإندو–باسيفيك) خصوصًا، ولم تتراجع عن اعتبار الصين الندّ الأكبر والحقيقي والجدّي للولايات المتحدة.
غير أن واشنطن، التي طالما همّشت “الخطر” الروسي وعَوَّلت على إمكاناتِ استيعابه أو تدجينه أو إقامة شراكات معه، تَقرّ بخطيئةِ التقييم الاستراتيجي الأميركي في هذا الصدد، بحيث باتت “هزيمة” روسيا ووقف تمدّدها غربًا هدفًا يؤخّر أو يمنع تطوّر الحالة الصينية من مستوى “التحدي” إلى مستوى “العداء”.
“أستارٌ” عديدة رفعها الأطلسي في قراءته المُحَدَّثة للعالم.
على أن راديكالية التحوّلات داخل الحلف الأطلسي، وما حملته من رسائل ردعٍ ضدّ الصين، رفع من ديناميات تطور علاقات روسيا والصين بما يجرّ مياه إلى طاحونة بوتين الذي يطيب له استدراج بكين للانخراط أكثر في دعم روسيا في “مصابها” الراهن مع الغرب.
وإذا ما رفضت بكين، على منوال ما فعلت موسكو، ما انتهت إليه قمّة “الأطلسي من تحوّلات، إلّا أن بكين استنتجت بسهولة صدّ أوروبا للرواية الأميركية عن الصين، ما يجعلها تَطمئنّ على متانة هامش مناورة تَملكه لدى الأوروبيين فقدت كثيرًا من مساحته لدى الأميركيين.
ولئن يكتفي “الناتو” بصفته منظومة عسكرية غربية بالتعامل مع الصين في واقع اعتبرها “تحدّيًا”، إلا أن حضور قادة اليابان وكوريا الجنوبية وأوستراليا ونيوزيلندا الوافدين من آسيا يؤشر إلى ظهور أعراضٍ أولى، فهمتها بكين جيدًا، تستدعي أن ينبت للناتو جناح شرقي يتعامل مع ذلك “التحدّي” بدينامية تقرأ الحالة الصينية، ولو بتأنٍ وحذر، من نصوصٍ أميركية.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى