أزماتُ “مُثَلَّث برمودا” الشرق أوسطي

الدكتور ناصيف حتّي*

يبدو الشرق الأوسط حاليًّا وكأنّه مُحاطٌ أو مُحَاصَرٌ بمُثَلَّثٍ من الأزماتِ القابلةِ للتصعيد ولو بسرعاتٍ ودَرَجاتٍ وتَداعِياتٍ مُختَلفة. أولى هذه الأزمات الانسدادُ والتعثّر الحاصلان في الملفِّ النووي الإيراني. فمن جهة تَعتَبِرُ الوكالة الدولية للطاقة الذرّية أن إيران تخفي عن مُفَتِّشي الوكالة ما تعتبره الأخيرة بعض النشاطات الخاصة بتخصيب اليورانيوم كونها تخرج عن السقف المسموح به. كما إن واشنطن تصرُّ على إبقاء الحرس الثوري على لائحة العقوبات. في المقابل ترفض طهران “إتهامات” الوكالة، كما ترفض ما تعتبره شروطًا من خارج بنود وأُسُسِ الاتفاق تُحاول واشنطن إدراجها في إطار إعادة تفعيل الاتفاق. وبعيدًا من الخطابات التعبوية والإعلامية، فالكلُّ مَعنِيٌّ بإنقاذِ الاتفاق، ولكن يستدعي ذلك التوَصّل الى صِيَغٍ خلّاقةٍ وتنازلاتٍ مُتبادَلة ما زال الجميع بعيدًا منها.

في الوقت ذاته تستمرّ لُعبةُ التصعيدِ المُقَيَّدِ وتبادُلِ الرسائل في الخطاب وعلى الارض في مسرح المواجهة من الخليج الى المتوسط.

ثاني هذه الأزمات تتمثّل في “القرار الاستراتيجي” الذي أعلنت عنه تركيا بإقامةِ منطقةٍ آمنة على عُمقِ ثلاثين كيلومترًا جنوب حدودها في سوريا للتخلّصِ من الخطرِ الكردي، والعمل على إحداثِ تغييرٍ ديموغرافي أساسي في تلك المنطقة عبر إعادةِ عددٍ كبيرٍ من اللاجئين السوريين وإسكانهم في تلك المنطقة. عمليةٌ تُلاقي مُعارضةً قويّة إقليميًا ودوليًا لأسبابٍ مُختَلِفة ومن قبل أطرافٍ وقوى لها أجندات مختلفة.

ثالثُ هذه الأزمات يتمثّل في التصعيد الإسرائيلي في القدس الشرقية، والأماكن المُقدّسة بشكلٍ خاص، من طرفِ التياراتِ الدينية المُتَشَدّدة في إسرائيل برعايةٍ من حكومةِ اليمين والتي تُحاوِلُ المُزايَدة على قوى المعارضة اليمينية الأخرى في الكنيست. يُشجِّعُ على ذلك عدم وجود أي مُعارضة خارجية أو فلسطينية فعّالة لوقفِ السياسة الإسرائيلية الهادفة إلى التهويد التدريجي والكلّي عبر طرد السكّان والاستيلاء على المُقدّسات. إن تديين الصراع عبر هذه السياسة الاسرائيلية وإغلاق الأُفُق كُلّيًا أمام التسوية السلمية عبر قيام الدولة الفلسطينية المستقلة لا يُساهِم في الحلِّ النهائي للصراع كما تراه وتتمنّى حصوله إسرائيل. ما قد يحصل عبر هذا الانسداد الكلّي للتسوية العادلة، الناتج عن السياسات الاسرائيلية، هو خلق مناخٍ من التطرّف يُسهّل انتشار العقائد الهويّاتية الكلّية اللاغية للآخَر من دينية ومذهبية وغيرهما والتي يمكن توظيفها في الصراعات القائمة في المنطقة.

صحيحٌ أن لكلٍّ من هذه النقاط الساخنة مُسَبّباتها والعناصر الخاصة بها والتي تحكم دينامياتها  النزاعية. ولكنها تتأثّر وتُؤثِّر كلٌّ منها بما يجري في المنطقة وبخاصة في الصراعات الأخرى. أضِف أن هنالك العديد من الدول، التي تعيش حروبًا ونزاعاتٍ مُمتدة أو أزماتٍ مُتَعَدِّدةِ الأوجه والأشكال في المنطقة، تبدو مُنكَشِفةً، بموقعها في الجغرافيا السياسية في المنطقة وببنيتها الاجتماعية، لهذه الصراعات المُختلفة وجاذبةً في  كثيرٍ من الأحيان لهذه الصراعات؛ والأمثلة على ذلك عديدة: من اليمن إلى لبنان مرورًا بالعراق وسوريا ووصولًا الى ليبيا. هذه الدول أيضًا تبدو بمثابة مسارح مواجهة أُخرى، تابعة أو بديلة، لهذه الصراعات إذا ما اشتدّت أو انفجرت. فنحنُ نشهد سباقًا بين تصعيدِ وتَسخينِ جبهاتٍ قد ينفجرُ بما يحمله من تداعياتٍ خطيرة على الجميع وبين احتواءٍ وتجميدٍ للصراعات القائمة والمُتفاقمة. يُشكّلُ هذا الأمر خطوةً ضروريةً ولكنّها غير كافية إذا لم تتم معالجة شاملة وعلى أُسُسٍ وقواعد واضحة وحسب القوانين والقرارات والأعراف الدولية لهذه الصراعات، ضمن مقاربةٍ قد تكون تدريجية في مسارها، ولكن يجب أن تبقى شاملة في أهدافها.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان الأسبق. كان سابقًا المتحدّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، ومندوبها الدائم لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى