الحَربُ الأهلية “الباردة” في سوريا قد تَسخُنُ من جديد وتُشعِلُ الشرق الأوسط

إذا كان الرد العالمي على الحروب الأهلية الماضية –من لبنان إلى البوسنة إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية– هو أي شيء للدرس والاعتبار، فإن أولئك الذين كان ينبغي أن يعرفوا بشكلٍ أفضل سيُعبِّرون عن دهشتهم ومفاجأتهم عندما تخرج سوريا عن السيطرة مرة أخرى.

الحرب في سوريا: هل تندلع من جديد؟

محمّد الحلبي*

بالعودة إلى حزيران (يونيو) 2011، عندما بدأت الأخبار تتسرّب من سوريا عن أولى علامات المقاومة المسلحة ضد النظام البعثي للرئيس بشار الأسد، قلّة هي التي استطاعت التنبّؤ بمستوى الاضطراب الذي يُمكن أن يُحدِثه الصراع في سوريا في النظام الدولي. بعد أشهرٍ من العنف الوحشي ضد المتظاهرين الذي مارسه نظام الأسد، استولى السكان المحلّيون في محيط بلدة جسر الشغور في محافظة إدلب الشمالية على مركزٍ للشرطة في 4 حزيران (يونيو)، ما أدّى إلى تحوّلٍ كبير لم يَفهَم تداعياته إلّا القليل من المراقبين. بعد يومين، كانت المقاومة المسلحة التي قادها ضباط الشرطة، الذين  انشقّوا وانضمّوا إلى المعارضة، في مواجهة الوحدات العسكرية السورية المُهاجمة بمثابةِ بدايةٍ لصراعٍ إستطاع إعادة تشكيل سياسات الشرق الأوسط وأوروبا.

المُعاناةُ الإنسانية تفاقمت والخسائر في الأرواح والأبنية والبنى التحتية كانت فادحة بسبب الفظائع التي ارتكبها النظام –بما فيها استخدام الغازات السامة– فضلًا عن الدمار الذي أحدثه تنظيم “الدولة الإسلامية”، والاقتتال بين فصائل حركة المتمرّدين الممزَّقة والمُنقَسِمة ومحاولات الميليشيات الكردية السورية تشكيل شبه دولة خاصة، الأمر الذي أدّى إلى تمزّقٍ في المجتمع السوري لا يبدو أنه ستتمّ معالجته في أيِّ وقتٍ قريب. وقد أدّت موجات الهجرة والنزوح السورية الهائلة التي أجّجها القتال المستمر والانهيار الاقتصادي إلى نشوء شبكة جالية نازحة ومهجّرة تضم ما يصل إلى 11 مليون لاجئ منتشرين في جميع أنحاء لبنان وتركيا والأردن وألمانيا والعديد من الدول الأخرى.

بعد أن وصلت الحرب على ما يبدو إلى ذروتها في العامين 2016 و2017، تحوّلَ انتباه صانعي السياسة الغربيين والكثير من مؤسسات الفكر والرأي الإعلامي التي تُشَكِّل النقاش حول السياسة الخارجية إلى تحدّياتٍ جيوسياسية أخرى. ومع ذلك، فإن التوازن الظاهر الذي أسقط سوريا عن صدارة جداول الأعمال السياسية وعناوين وسائل الإعلام كان نتيجة تعميق قوى خارجية مختلفة تعرّضها طويل الأمد للتطورات في سوريا بطُرُقٍ تعني أنها لا يمكنها الهروب من تأثير التغييرات على الأرض هناك، مهما كانت تأمل في ذلك.

كان التدخّل العسكري الأميركي إلى جانب وحدات حماية الشعب الكردية السورية، أمرًا حاسمًا لإخراج جهاديي تنظيم “الدولة الإسلامية” من المدن الكبرى وطردهم إلى أجزاءٍ نائية في وسط سوريا بحلول آب (أغسطس) 2017. كما إن سقوط أجزاء من مدينة حلب، التي كانت تُسيطر عليها المعارضة، في أواخر العام 2016 في أيدي جيش النظام السوري –بدعمٍ من المدفعية والضربات الجوية الروسية جنبًا إلى جنب مع الآلاف من المقاتلين بقيادة الحرس الثوري الإيراني و”حزب الله” اللبناني– شدّدَ قبضة الأسد على المدن الرئيسة في سوريا. بالتوازي مع ذلك، ضَمَنَ التدخل التركي في المناطق الشمالية من محافظتي حلب وإدلب بقاء المجموعة الأخيرة من جيوب المتمرّدين تحت حماية أنقرة العسكرية.

ضاعفت حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان منذ ذلك الحين مشروعها الإمبريالي الجديد في سوريا. في العام 2018، استولت تركيا على جيب عفرين الشمالي الشرقي من ميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية السورية، التي كانت في السابق الشريك الأساسي لواشنطن على الأرض ولكنها أيضًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحزب العمال الكردستاني التركي المتمرّد. تبع هذا التدخل بعد عام انتشار عسكري تركي آخر لمنع هجومٍ سوري تدعمه روسيا من التوغّل بعمق في محافظة إدلب. ولعلّ الأهم من ذلك كله، كان استعداد ميليشيا “جبهة النصرة” الجهادية للانفصال بشكلٍ حاسم عن تنظيم “القاعدة” وإعادة تشكيل نفسها على أنها “هيئة تحرير الشام” التي تُركز فقط على سوريا بقيادة محمد الجولاني، ما سمح للجماعة ببناء شبه دولة خاصة بها في إدلب تحت الحماية العسكرية التركية. مع انهيار الجماعات المتمردة الأخرى جراء المنافسة والاقتتال الداخلي، تُوضِحُ مناورة الجولاني كيف أن الديناميكيات المُتغَيِّرة في سوريا لا تزال تُوفّرُ فُرَصًا للمُشَغِّلين الأذكياء للارتقاء إلى مواقع الهيمنة.

وَلَّدَ التقسيم الفعلي لسوريا إلى ثلاث مساحات سياسية مُتميِّزة قناعةً بين صانعي السياسات في أوروبا والولايات المتحدة بأن الصراع السوري قد انتهى وتمت معالجته إلى حدٍّ كبير. لكن حتى مع غياب الاهتمام العالمي، استمرت المناوشات على طول خطوط الاتصال بين الجماعات المتمرّدة تحت الحماية التركية وقوات نظام الأسد. في وسط سوريا، تُقَوِّضُ هجمات تنظيم “الدولة الإسلامية” ضد القوات السورية وكذلك ضد البلدات التي تسيطر عليها قوات سوريا الديموقراطية جهود إعادة الإعمار الاقتصادي. يتسبّب القصف بين قوات سوريا الديموقراطية والجماعات المدعومة من تركيا وكذلك الاقتتال الداخلي بين الفصائل المتمردة في بؤس آلاف المدنيين. حتى في المناطق التي استعادتها قوات النظام بالكامل في محافظة درعا الجنوبية، تشير أعمال اللصوصية وإطلاق النار التي يشارك فيها مقاتلون سابقون، من المفترض أنهم أجروا مصالحة مع النظام، إلى مدى ضعف قبضة الأسد على مساحات شاسعة من الأراضي.

مع هذا التوتّر المستمر في الخلفية، تحتوي كلٌّ من المناطق الثلاث في سوريا على مصادرها الداخلية الخاصة لعدم الاستقرار ونقاط الضعف الخارجية التي يمكن أن تؤدي إلى جولة أخرى من التصعيد الوحشي الممتد إلى ما وراء الحدود السورية.

على الرغم من أنها لا تزال محمية من قبل وجود القوات الأميركية وكذلك بعض الوحدات العسكرية الروسية الموضوعة بالقرب من بلدتي تل رفعت ومنبج، يبدو أن قوات سوريا الديموقراطية معرضة لمحاولة تركية أخرى للاستيلاء على الأراضي. علاوة على ذلك، فإن العداء في أنقرة تجاه علاقات قوات سوريا الديموقراطية بوحدات حماية الشعب وأنصار الوحدوية الكردية لحزب العمال الكردستاني يتجاوز حزب أردوغان الحاكم، “حزب العدالة والتنمية”. لذلك، على الرغم من ادّعاء المعارضة التركية أنها تُفضّل الانسحاب من سوريا، فإن عدم الموثوقية بالأسد إلى جانب ضغط وحدات حماية الشعب على طول حدود تركيا ومخاطر تدفّق المزيد من النازحين تجعل من المرجح أن تشعر أي حكومة تركية بأنها مضطرة للرد على التهديد للوضع الراهن هناك مع مزيد من التوغّلات العسكرية.

تتفاقم نقاط ضعف قوات سوريا الديموقراطية بسبب الإحباط الذي عبّر عنه عددًا كبيرًا من السكان العرب السوريين وكذلك الجماعات الكردية المُنافِسة في أراضيها من كيفية سيطرة الشبكات المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني على حكم شمال شرق سوريا. يجعل هذا الغضب أولئك الذين يشعرون بأنهم بعيدون عن النظام السياسي لقوات سوريا الديموقراطية أهدافًا مُحتَملة لتخريب تنظيم “الدولة الإسلامية”، أو عقد صفقات مع تركيا، أو رشوة نظام الأسد، التي يُمكن أن تُغذّي المزيد من الصراع في الأراضي التي تنتشر فيها القوات الأميركية.

تتعرّضُ المقاطعات الخاضعة للحماية التركية أيضًا لضغوطٍ اجتماعية خطيرة. سبّبَ الارتفاع العالمي في أسعار السلع والطاقة بارتفاع أسعار الكهرباء والغاز، ما أثار أعمال شغب واسعة النطاق ضد الحكومات المحلية في عفرين. وأدّى الانهيار في قيمة الليرة التركية، العملة الأساسية في المناطق التي تُسيطرُ عليها أنقرة، إلى تفاقم دوامات أسعار السلع المستوردة، ما زاد من الاستياء وجعل من الصعب على تركيا أن تَحكُمَ عبر وكلاءٍ محلّيين.

من خلال التعليم والرعاية الصحية والمرافق والنقل في هذه الأراضي السورية التي تسيطر عليها تركيا، حيث تتكامل جميعها مع هياكل الدولة التركية عبر الحدود، تواجه أنقرة –سواء تحت حكم حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة أردوغان أو من يخلفه– خيار إما تسليم عفرين إلى نظام الأسد الذي لا يُمكِن الوثوق به لإبعاد وحدات حماية الشعب أو مضاعفة استيعابها الفعلي في تركيا. إن كفاح أنقرة لتطويرِ حُكمٍ فعّال في إدلب يفتح أيضًا مساحةً إضافية ل”هيئة تحرير الشام” لمتابعة طموحاتها الأوسع في شمال سوريا.

كما إن الاضطرابات في الاقتصاد العالمي تضع نظام الأسد تحت الضغط. نظرًا إلى عدم قدرته على السيطرة على الفساد المستشري، والذي يُعَدُّ أمرًا حاسمًا في قبضته على السلطة، من خلال توزيع المحسوبية، لا يزال نظام الأسد يعتمد على الموارد العسكرية الإيرانية والروسية للحفاظ على وضعه وموقعه. في الآونة الأخيرة، تُشيرُ مؤشرات الاستثمار من قبل الإمارات العربية المتحدة إلى أن مصدرًا آخر للتمويل اللازم لدرء الانهيار الاقتصادي قد يُصبِحُ مُتاحًا.

لكن ارتفاعَ أسعار السلع الأساسية مثل الخبز وغاز الطهي أدّى إلى إحباطٍ مفتوح بين العلويين، أنصار النظام الأساسيين. كما أدّى الانهيار الكارثي للقطاع المالي اللبناني إلى إلحاق الضرر بالمركز المالي للأنصار المؤثّرين المُوالين للنظام الذين ينقلون رؤوس الأموال ويهربون البضائع عبر بيروت. مع الغارات المنتظمة التي تشنها خلايا “داعش” الإرهابية على المناطق التي يسيطر عليها النظام، فإن سيناريو يُقيِّدُ الاضطراب الداخلي أو قدرة التوسّع ا”لإمبراطوري” لإيران أو روسيا على دعم نظام الأسد يمكن أن يقلب بسرعة ميزان القوى في سوريا. وهذا بدوره يمكن أن يُعيدَ فتح الأسئلة حول مستقبل البلاد التي اعتقد صانعو السياسة الغربيون أنه تمّ حلّها ومعالجتها في العام 2017.

تكثرُ سوابق الحروب الأهلية التي افترضَ الكثيرون أنها قد تلاشت، إلّا أنها تصاعدت فجأة مرة أخرى بعد صدمةٍ خارجية أو تحّدٍ داخلي ألقى بتوازن سياسي هشّ. في تشرين الأول (أكتوبر) 1976، اعتبر الكثيرون في ذلك الوقت التدخّل السوري الشامل في الحرب الأهلية اللبنانية من قبل حافظ الأسد بمثابة الفصل الختامي لذلك الصراع. لكن التنافس بين الميليشيات إلى جانب عناد منظمة التحرير الفلسطينية أدى إلى تصعيدٍ أكبر بكثير، بلغ ذروته في الغزو الإسرائيلي في العام 1982 ودورات القتال التي استمرت حتى أدى الإرهاق الجماعي إلى اتفاق سلام في العام 1990.

إذا أخذَ المرء في الاعتبار جميع المصادر المُحتَمَلة للكوارث في سوريا التي أصبحت مُستَوطِنة في كل منطقة من مناطقها الثلاث، فإن الميلَ بين العديد من صانعي السياسة الأوروبيين والأميركيين للافتراض بأن الحرب الأهلية في سوريا قد انتهت هو أمرٌ وهمي تمامًا. لسوء الحظ، إذا كان الرد العالمي على الحروب الأهلية الماضية –من لبنان إلى البوسنة إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية– هو أي شيء للدرس والاعتبار، فإن أولئك الذين كان ينبغي أن يعرفوا بشكلٍ أفضل سيُعبِّرون عن دهشتهم ومفاجأتهم عندما تخرج سوريا عن السيطرة مرة أخرى.

  • محمّد الحلبي هو مراسل “أسواق العرب” في سوريا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى