حَدَثُ الإمارات: حِكمَةُ الدولة ومَناعَةُ عقائدها
محمّد قوّاص*
غياب الشيخ خليفة بن زايد وتولّي الشيخ محمد بن زايد رئاسة الدولة من بعده ليس حدثاً إماراتيًا فقط. ارتقت الإمارات منذ تأسيسها إلى مصاف الدول الأساسية المؤثرة في العالم العربي والفاعلة النافذة في الدائرتين الإقليمية والدولية، بحيث يصبحُ مصابُ الإمارات والولاية على رأسها حدثًا وحديثَ العواصم القريبة والبعيدة.
وأيًا كان موقف العالم من السياسات التي انتهجتها دولة الإمارات حيال مفاصل دراماتيكية عرفتها المنطقة في السنوات الأخيرة، فإن الثابت أن للبلد فلسفةَ عيشٍ تُملي توجّهاتٍ سياسية استراتيجية يَسهلُ فكّ شيفرتها وملاحظة خلوّها من أيِّ غموضٍ أو التباس. لم تكن تلك السياسات إلّا تمدّدًا للأُسس التي قامت عليها عقائد الأب المؤسس الشيخ زايد في تشييدِ اتحادٍ مُزدَهرٍ مُستقرٍّ قويٍّ عماده الأول والأخير “الانفتاح”.
والانفتاح ليس خيارًا سهلًا بسيطًا في فضاءٍ داخليٍّ مُتعدّدٍ جرى احترام مُكوِّناته وإقامة سقفٍ من الوسطية والاعتدال يحميه. جرى أيضًا الاعتراف بالخصوصيات في منطقة لطالما سطت أنظمةٌ على بلدانها تفرض فكرةً واحدةً وخطابًا واحدًا لا يقرّ بحكاياتٍ مُجتَمَعية ومساراتٍ تاريخية تشكّلت وفقها الثقافات والكيانات والهويات.
وفي مفاتيح ذلك الانفتاح سرّ تلك السكينة والاستقرار، فيما البلد يشهد ثورةً صاعدةً في النمو والابتكار، ويمارس مصالحة كاملة مع ظواهر العصر في التقدّم والتكنولوجيا والاتّساق مع التحوّلات العالمية الكبرى.
والانفتاحُ تمرينُ مُقاومةٍ في منطقةٍ تقدّمت داخلها ظلامية ماضوية تغلغلت باسم “الربيع” داخل بلدان المنطقة والإقليم. ولئن وجدت العواصم الغربية الكبرى “تفهّمًا” لئيمًا لذلك الليل الداهم وربما تواطُؤًا خبيثًا بغضِّ الطرف عن سواده، فإن قرار المواجهة، الذي اتخذته دول المنطقة وفي مقدمتها دولة الإمارات، كان جريئًا شجاعًا مُعاندًا للتيار الجارف مُستَشرِفًا خبث ذلك التيار وأخطاره.
وإذا ما كان الانفتاحُ هو نقيضَ الانغلاق، فإن التبشيرَ بالمستقبل وأنواره هو نقيضُ ما يُستدرَج من عتمةِ بعض الأمس وقوانينه. صحيحٌ أن مقوّمات الدفاع عن البلد تستلزمُ حزمًا وحَسمًا وقوةً وعنادًا، غير أن سلاح الانفتاح لم يغب يومًا، وفي عزّ الشدائد التي اعتبرها البعض نهائية وربما سلّموا بقدريتها، ذلك أن قيادة الإمارات، ومشيًا على خطى الشيخ زايد، لم تتخلَّ يومًا عن خيارِ الانفتاح منهجًا وخطابًا وسلوكًا وسلاحًا ماضيًا قاهرًا للتطرّف والتعصّب والانغلاق.
والإمارات، نعم، بلدٌ عظيم يفتخر الإماراتيون به. لكنه أيضًا مساحةٌ عالميةٌ في نسيجها الاجتماعي المُتعدّد الأعراق والجنسيات والثقافات والأديان والمذاهب. البلدُ حاضنٌ للغات واللهجات الوافدة من شرق هذا الكوكب وغربه ومن شماله وجنوبه. وإذا ما تمكّنت البلاد من جعل التعايش مع الاختلاف قانونًا بشريًا وعقيدةً إنسانية، فذلك أن فلسفة قيام الإمارات، منذ الشيخ زايد حتى الشيخ محمد مرورًا بعهد الشيخ خليفة، أملت نمطًا في إدارة الناس، ناسُ الإمارات والناسُ في الإمارات، على قاعدةِ احترامِ التعبّد وتوفّير سبل ذلك، وعلى قاعدة تعويم ثقافات الآخرين الدينية والدنيوية وجعل ذلك التوجّه ثقافةً عند الإماراتيين.
أن تُعقَد “قمة” بين البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، ورجال الدين المسلمين وغير المسلمين في أبوظبي، فإن الأمر ليس مناسبة بروتوكولية ديبلوماسية عابرة. و”الحادثة” في روعتها ليست ظاهرة من العاديات التي ألِفَها الإماراتيون. شكّلت زيارة “الحبر الأعظم” إلى أبوظبي في شباط (فبراير) 2019 مُفترقًا يُسجَّل في تاريخ علاقات الأديان في ما بينها. ولطالما اعتُبِرَ “إعلان أبوظبي” بتوقيع البابا وشيخ الأزهر، الإمام الأكبر أحمد الطيب، على وثيقة الأخوّة الإنسانية، نصًّا إنسانويًا هو “رسالة” في أصول وقواعد وأعراف التسامح والتعايش بين البشر.
والحالُ أن ذلك التعايش وذاك التسامح ليس مشروعًا نظريًا في الإمارات. هو مدرسة مُعامَلة يومية تصونها القوانين نعم، لكنها تقوم على ثقافةٍ إماراتية كرّستها قيادة البلد، ورعتها بعناية، وجعلت لها حصانات لدى الإماراتيين تتجاوز ما تسنّه الشرائع وما تفرضه القوانين. وحتى حين بدا أن الدفاع عن الوطن والمجتمع يتطلب صلابة وصدام، فإن ذلك جاء واجبًا للدفاع عن قيّمٍ باتت تتهدّدها من هوامش نصوص سماحة الدين ومتونه.
تعلّمَ الإماراتيون أن أمنهم وسلامهم لا يمكن أن يتوفّرا بالأدوات والمساحات الداخلية المحلية وحدها. تعلموا أن أمانهم يتطلب توفير أمان في دوائر الجوار، وأن ذلك الجوار الاستراتيجي قد يكون بعيدًا من حدود بلدهم. أمنُ البلد واستقراره هو جُزءٌ من أمن واستقرار المنطقة. ازدهارُ البلد واستقراره لا يمكن إلّا أن يتأثرا بالتحوّلات الدولية في أبعادها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، وفي السنوات الأخيرة، الصحية بمناسبة انتشار الجائحة. وإذا ما كان للخارج تأثيرٌ على الداخل فإنه كان على الإمارات أن تؤثّر في هذا الخارج صونًا لهذا الداخل.
يُسجَّلُ للإمارات أنها شديدة التواصل مع شروط العصر وفي مقدمة المعبّرين عن ظواهره. من زار “اكسبو 2020 دبي” استنتج بسهولة اتسّاع الحضن الإماراتي لاستيعاب العالم وما وصل إليه في القرن الواحد والعشرين. وإذا ما كان من واجب الدول مقاربة التحوّلات الخارجية، القريبة والبعيدة، والتعامل مع واقعها، فإن الإمارات تميّزت، وأحيانًا على نحوٍ صادمٍ مُربِك، بالاستشراف المُبكر لهذه التحوّلات واستباقها وملاقاة مفرداتها.
في المنطقة من بات يراقب جيدًا قرارات السياسة الخارجية للإمارات ليستنتج ما تلتقطه نُظم الاستشعار لديها مما رأته الإمارات ولم يره الآخرون. وفي غياب الشيخ خليفة وتولّي الشيخ محمد المسؤولية الأولى في البلاد مسار حكمة انتهجه وأوصى به الأب المؤسس الشيخ زايد. ومن ذلك المسار صيرورة بلد بات رقمًا صعبًا على خارطة العالم أجمع.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)