الخَلاصُ فَوقَ صُلبانٍ غير مُقَدَّسة

عبد الرازق أحمد الشاعر*

يقولون إننا نعيشُ حتى نُسدّد ضرائب أفعالنا، ولا نموت إلّا بعد الوفاءِ بآخرِ قسطٍ من ديونها المُستَحقّة، فإن عَجِزنا عن السداد، تولّت ذرارينا التسديد عنا حتى يرث الله الأرض ومن عليها… وهي أشبه بفكرة الخلاص التي يؤمن بها المسيحيون والتي تتمثّل في عملية الفداء التي قام بها المسيح على الصليب لتحرير البشرية من وزر الخطيئة التي توارثتها جيلًا بعد جيل. الفرق هنا أن عدد الأجساد المشدودة فوق الصلبان أكثر، وأن دَمَّ الخطيئة مُوَزَّعٌ على أعدادٍ لا حَصرَ لها من شبابٍ وشِيبٍ وأطفالٍ لم يتجازوا مرحلة التبول في الأسرة.

ولو تناولنا هذه الفكرة بشيءٍ من التمحيص وتأمّلنا سير الأمم وتاريخ الحضارات، لوجدنا أن كلَّ أُمّةٍ قد نالت بالفعل حظًّا من المجد والرفاه وطيب العيش حينًا من الدهر، ثم أعقب ذلك دمارٌ شاملٌ أتى بنيانها من القواعد فخرَّ السقفُ على مَن بقي فيها من المُفسدين وعلى ذرية ضعافٍ لم يَخَف عليهم آباؤهم أو يتّقوا الله فيهم. وعلى النقيض، نجد أطفالًا آخرين سخَّرَ الله لهم عبادًا صالحين ليُرمّموا ما تهدّم من جدرهم الآيلة للسقوط حتى يصل إليهم نصيبهم من تقوى الوالدين، وهو أمر يلتقي مع النص القرآني على كلمةٍ سواء.

وهنا تبرز إلى الذهن تساؤلات مشروعة حول إمكانية تحقيق العدالة في هذا العالم، وإن كان علينا أن ندفع ضرائب الجرائم التي ارتكبها أسلافنا طائعين باعتبار أننا فصلٌ قصير من الرواية، وأننا لسنا الأبطال الحقيقيين في هذا العالم، وإن كنّا الممثلين الوحيدين فوق خشبته المتآكلة، وأنه ليس من حقنا  التنكّر أو التهرّب من تبعة إرث الخطيئة الذي تركه لنا بعض الآباء العابثين الذين لم يرقبوا فينا إلّا ضعفًا.

شاهدتُ أخيرًا فيلمًا وثائقيًا للمخرجة الأميركية ميغان ميلان بعنوان “بسيطٌ كالماء”، تناولت فيه معاناة العائلات السورية في الشتات، وكيف أنها أُخرِجت من ديارٍ أنكرتها إلى أرضٍ لم تُرَحِّب بها، ليسومها الطغاة من الأقربين والأبعدين ذلًّا لا يُطاق وهَوانًا لا يوصف، وكأنها قد جاءت إلى هذا العالم لتُسَدِّد فواتير أمة لم تفعل في حياتها سوى ارتكاب الموبقات.

تشاهد الفيلم، وترى بأم عينيك كيف يُصلَبُ الملايين من السوريين فوق عيدانٍ توزّعت على اليونان وتركيا وألمانيا والولايات المتحدة، وغيرها من بلدان الشتات، فلا يسعك وأنت تُشاهدُ الطفولة تُشنَق فوق أعوادٍ فوق التلال المُغطّاة بالثلوج أن تتساءل في قهر: “بأيِّ ذنبٍ صُلِبَت؟” حتى الأتراك الذين استقبلوا المُهجّرين في بداية الأمر بالورود والدفوف، عادوا ليديروا لهم ظهورهم، ويتّهمونهم في دعاية عنصرية بأنهم السبب الرئيس في انهيار اقتصادهم وليرتهم.

ثم تنتقل الكاميرا من عيون الأطفال الذين يلعبون حُفاةً حول خيمةٍ مُهترئة تكتظّ برؤوسهم الصغيرة، إلى أكفِّ أمهاتهم اللواتي يحاولن رتق ما تفتّق من طفولتهم وتعويضهم عن غيابِ آباءٍ لم تسمح سلطات الوطن المخطوف بخروجهم إلى أيِّ عراء، ثم ينتقل الكادر إلى عيونٍ زائغة تصطفّ في طوابير لا نهاية لها للحصول على إقامةٍ مشروعة في أيِّ بلدٍ يُمكنهم الانتساب إليه بعد أن أنكر الوطن الأم نسبهم. ويُدهشك عدد المقاصل والمشانق والصلبان، وتحاول أن تغمض عينيك عن فكرة الخلاص، فتسألك الأعين الذابلة: “بأي ذنب فُقئت؟”

وتسأل في نفسك: “إلى متى تستمر محنة التطهير التي يدفع ثمنها اليمنيون والفلسطينيون والعراقيون والسوريون والروهينغا والأوكرانيون وغيرهم من المُستَضعفين في الأرض؟” وتسري إلى أعماقك رهبة أن تكون واحدًا من بين هؤلاء الذين تعد لصلبهم الأخشاب وهم لا يعلمون … وتسأل الله أن لا يأخذك بما فعل السفهاء أو المبطلون من الآباء أو الأجداد، وأن تخرج منها غير مفتون قبل أن تتحوّل الأرض إلى ميدان رماية فسيح يقتل الناس فيه بعضهم بعضًا، ويصلب بعضهم بعضًا.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. بمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى