إنتخاباتُ لبنان: مِيزانُ المُشاركة والمُقاطَعة!

محمّد قوّاص*

في عزِّ الحربِ التي تُخاضُ في أوكرانيا وما لها من حساباتٍ دولية كبرى، يصعب إقناع اللبنانيين أن العالم، خصوصًا عواصمه المَعنية، شديد الاكتراث بالانتخابات النيابية في لبنان. لا يعني الأمر أن البلد ليس مُهمًّا على مساراتِ التحوّلاتِ الجيوستراتيجية الإقليمية أو على خطوط الطاقة في شرق المتوسط، لكن الخريطةَ البرلمانية المُقبلة تفصيلٌ داخل أي وظيفة أو دور أو اصطفاف مقبل للبلد.

مفهومٌ أن يتناولَ العالمُ أمرَ لبنان بالجُملةِ ويتعاملَ مع واجهاتِ الحُكمِ فيه أيًّا كانت طبيعة برلمانه. لكن مجلس النواب بالنسبة إلى اللبنانيين ليس تفصيلًا هامشيًا، حتى لو أن سلطاتَهُ مُحاصَرةٌ مُجَوَّفة قليلة الخصوبة ومُصادَرة بفعلِ قواعد قهرية من خارج العملية السياسية. ومع كل الانتقادات المُوَجَّهة إلى قانون الانتخابات المعمول به، فإن الانتخاباتَ المقبلة مؤشِّرٌ أساس لما طرأ على الحياة السياسية اللبنانية، لا سيما بعد “17 تشرين” والانهيار المالي وانفجار مرفَإِ بيروت، وهي إحدى الوسائل الناجعة والمُتوَفِّرة لأيِّ تغييرٍ ومُحاسَبةٍ وعقاب.

الديموقراطية في لبنان توافقية. وفي تلك التوافقية تهميشٌ للأوزانِ لصالح التسويات التي تصون تعايش الطوائف ونخبها. ولئن تبتلع “التوافقية” المعنى الجذري للديموقراطية في علاقة الأغلبية بالأقلية، فإنه لا ينقص اللبنانيون أدلّة على تلاشي الأغلبية النيابية أمام سلطة الأمر الواقع الذي يفرضه قهر السلاح. يجوز هنا لأعضاء “قوى 14 آذار” أن يتذكّروا الأغلبية التي حصلوا عليها في انتخابات 2009 وما انتهت إليه، ويجوز أيضا ل”حزب الله” وأعضاء القوى المتحالفة معه أن يتأمّلوا الفوائد المفقودة للأغلبية التي تفاخروا بجنيها في الانتخابات السابقة.

وإذا ما كانت شرائحٌ من الناخبين في لبنان “يكفرون” بالانتخابات والمجلس النيابي وما ينتج عنهما من توازنات، فإن “حزب الله”، المُفترَض أنه الجسم السياسي والعسكري الأقوى في البلد (والذي أعلن الجنرال قاسم سليماني أنه امتلك الأغلبية الساحقة في انتخابات 2018) يلاقي “الكافرين” ويؤكد على لسان مسؤولية أن الأحجام والأغلبيات لا تُغيِّر شيئًا داخل التوازنات السياسية في البلد وليست مُحَدِّدًا للقرار في لبنان.

والحال أن “حزب الله” يعتبر السلاح مُتقَدِّمًا على أحكامِ الدستور وشكل وقوة المؤسسات الصادرة عنه. وسبقَ أن استخدَمَ السلاح دفاعًا عن السلاح حين تجرّأت حكومة فؤاد السنيورة في العام 2008 على اتخاذ قراراتٍ اعتبرها الحزبُ مسًّا بأمنِ “المقاومة”. فَرَضَ وَهجُ السلاحِ خياراتٍ سياسية أساسية في لبنان، بما فيها انتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية والسهر على الفراغ في هذا الموقع حتى تحقق ذلك. ورُغمَ فائض القوّة الذي يمتلكه الحزب في لبنان بما يتجاوز قوة المؤسّسة التشريعية، إلّا أنه مع ذلك شديد الحرص على خوض المعركة الانتخابية بكلِّ قواه لفرض أغلبية له ولتحالفه داخل مجلس النواب الجديد.

وإذا ما كان “حزب الله” حريصًا على رفعِ مُعَدّلاتِ التصويت لصالح الثنائي الشيعي، طبعًا، ولصالح حلفائه لدى الطوائف الأخرى أيضًا، فإن الناخبين اللبنانيين جميعًا مَدعوون إلى المشاركة بكثافةٍ في الاقتراع المُقبل لما للأمرِ من مآلاتٍ على مشهدٍ برلماني تنتظره استحقاقاتٌ مفصلية. وإذا ما تصاعَدَ الكفر بالانتخابات إلى حدّ الاعتكاف والمقاطعة، فإن في الأمر تسهيلًا لمهمّةِ ما يرومه “حزب الله” ومن ورائه إيران من رسم للمشهد اللبناني برمّته.

والواقع أن البرلمان الجديد مهما كانت توازناته لن يُغَيِّرَ كثيرًا من منظومة الحكم الراهنة ولا سذاجة تدفع بذلك. لكن وجودَ تياراتٍ مُضادة داخله تحمل خطابًا جديدًا ومشروعًا مُختلفًا، من شأنه أن يكون رافعة لسلسلةِ تحوّلاتٍ تطلّ على البلد من شرفات المؤسسات الدولية المالية ومن غُرَفِ قرار الدول المانحة ومن دينامياتٍ عربية إقليمية تُعيدُ التموضع بشكلٍ أو بآخر صوب وحول لبنان. وإذا ما كانت للمشاركة في الاقتراع نتائجٌ قد تُنعشُ آمالًا مُحتَملة بإحداث تغيّرٍ ما، فإن للامتناع عن الاقتراع ومقاطعة الانتخابات نتائجَ سلبية أكيدة تخدم ديمومة منظومة سياسية يتحكّم بها “حزب الله” أفصحت عن كوارثها في السنوات الأخيرة.

وعلى الرغم من تقديسه السلاح، واعتباره تميّزًا نهائيًا داخل الكيان اللبناني، فإن “حزب الله” يستبق سقوط ذلك المُقدَّس يومًا ما إذا ما فَرِضَت التسويات الكبرى ذلك، وبات يُسَرِّب هذه الأيام جهوزيته لمناقشة “الاستراتيجية الدفاعية” على طاولة حوار وطني. كما إنَّ الحزب يمنّ النفس بمرحلةٍ تجري فيها مقايضة الامتيازات المُسَلَّحة بامتيازاتٍ سياسية داخل النظام السياسي اللبناني. وعلى هذا فإن حرصَ الحزب على المشاركة في الحياة السياسية، حكومةً وبرلمانًا، منذ العام 2005، كما الحرص على الهيمنة على البرلمان، يكشف سعيًا للتجذّر داخل منظومةِ الحُكمِ في لبنان ومأسسة حضوره داخل الأجسام الدستورية، التنفيذية والتشريعية، لما لتلك السقوف من دفاعات تقيه شرور اعتباره تنظيمًا إرهابيًا لدى عواصم دولية تتزايد أعدادها.

يُسَجَّلُ تاريخيًّا أن وصايةَ طهران الحالية على لبنان وقبلها وصاية دمشق لم تستطيعا توسيع نفوذهما في البلد من خلال تجاهل مؤسساته. جرى سابقًا ويجري لاحقًا ممارسة تلك الوصاية من خلال المرور عبر البرلمانات والحكومات، سواء من خلال التلاعب بالحياة السياسية وجني ثمار التحكّم باللاعبين أو من خلال اختراق المنظومات العسكرية والمالية والقضائية والإعلامية في لبنان. وإذا ما كانت الانتخاباتُ أداةً فاعِلةً من أدواتِ الوصاية وسبيلًا لشَرعَنتها، فإن عدم التغيّبِ عن الاقتراع والمشاركة بكثافة و”التصويت الصائب” لخياراتٍ مُضادةٍ فاعلة، من شأنه خلق أحجامٍ مُضادة لا يُمكن للخارج، العربي والدولي، إلّا أن يأخذها جيّدًا بالاعتبار.

وناهيك من أن توازنات مجلس النواب تُحدِّدُ اسم رئيسه (مبدئيًّا!) ورئيس أيّ حكومة، فإن البرلمان المُنتَخَب سيَنتَخِب رئيس الجمهورية المقبل. وباستثناء انتخاب سليمان فرنجية رئيسًا في العام 1970، فإن اختيارَ مَن يحتل الموقع الأول لطالما يخضع لـ”التوافقية” الشهيرة التي تجعل من جلسة الانتخاب شكلية تُوقّع ما تمّ تدبيره في الكواليس. ومع ذلك فإن المشاركة المُكَثَّفة في الاقتراع لإنتاجِ برلمانٍ جديدٍ سيجعل من أيِّ تدبيرٍ توافقي أعلى كلفة يخضع لتوازناتٍ يُفتَرَضُ أن تكون لها كلمةٍ ما في تعويم الشخصية التي تُمثّل البلد وتُشارك في قيادته لست سنوات مقبلة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى