ما هو مستقبل العلاقات بين أميركا والسعودية؟
منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 عرفت العلاقات الأميركية-السعودية تدهورًا خصوصًا في عهد الرئيس باراك أوباما، والسؤال الآن: كيف يمكن لإدارة جو بايدن إعادة ضبط العلاقات من جديد دون كسرها؟
ياسمين فاروق وأندرو ليبِر*
في حين أن العقوبات الغربية التي فُرِضـت على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا أدّت في الأسابع الأخيرة إلى اضطرابِ أسواق الطاقة العالمية، فقد رفضت المملكة العربية السعودية طلبات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المُتكرّرة لزيادة إنتاج النفط. على الرغم من أن رفض المملكة الواضح للتخفيف من آلام الارتفاع الصاروخي في أسعار الوقود قد أذهل العديد من المُراقبين الأميركيين، مُلهِمًا مجموعة كبيرة من التعليقات إلى التساؤل عما إذا كان التحالف الأميركي-السعودي الذي استمر 77 عامًا لا يزال يستحق الحفاظ عليه، فإن هذا الرفض لا ينبغي أن يكون مفاجأة.
عرفت علاقة الولايات المتحدة بالمملكة العربية السعودية دوامة هبوط مباشرة منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. بعد سنوات من التوترات حول “الحرب على الإرهاب” التي قادتها أميركا، والتدخل الأميركي في العراق، وسعي واشنطن المُتقطّع إلى إبرام اتفاق نووي مع إيران، والحرب التي تقودها السعودية في اليمن، وسجل الرياض في مجال حقوق الإنسان، لم تستطع المغازلة المفتوحة للرئيس السابق دونالد ترامب مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان فعل الكثير لتحسين الثقة والتواصل. على الرغم من أن كثيرين في مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية يتساءلون في مجالسهم الخاصة عما إذا كان ولي العهد قد تعلّم شيئًا من سنواته الأولى في السلطة، إلا أن الأمرَ سيكون أكثر إفادة وإنتاجية لو هم يسألون أنفسهم عمّا تعلّموه خلال الفترة الزمنية عينها. لسوء الحظ، تُشيرُ تصرّفات إدارة بايدن على مدار الخمسة عشر شهرًا الماضية إلى أن العديد من صانعي السياسة الأميركيين فشلوا في فهم مدى تغيّر موقف المملكة بشكلٍ أساس تجاه الولايات المتحدة، خصوصًا في السنوات الخمس التي انقضت منذ أن أصبح الأمير محمد بن سلمان الحاكم الفعلي.
حدث هذا التحوّل جنبًا إلى جنب مع الانخفاض المستمر للاهتمام السياسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حيث قاد بايدن الإدارة الأميركية الثالثة على التوالي التي سعت إلى تقليص الالتزام بالعمل العسكري في المنطقة. سعى القادة السعوديون إلى التكيّف مع هذا الانجراف من خلال تعزيز مجموعةٍ أكثر تنوّعًا من العلاقات الاقتصادية والأمنية العالمية. لكن يبدو أن بايدن قد تولى منصبه وهو يتوقع بثقة ما كان يعتمد عليه أجيالٌ من الرؤساء الأميركيين: صداقةُ خاصة مع المملكة العربية السعودية تقوم على مبيعات الأسلحة والتنسيق الأمني وإنتاج النفط. من جانبه، لم يخفِ محمد بن سلمان حقيقة أنه ينوي إعطاء الأولوية لمصالح المملكة في أسواق النفط العالمية ومع القوى الغربية وغير الغربية الأخرى للمساعدة على تعزيز سيطرته على بلاده. لذا، بدلًا من الإصرار على تلقّي الفوائد التقليدية للعلاقة الأميركية – السعودية وفي الوقت نفسه سحب الغطاء السياسي العالمي والحماية العسكرية الإقليمية التي قدمتها الإدارات الأميركية تقليديًا للحكام السعوديين، يجب على إدارة بايدن أن تتبنّى نهجًا أكثر براغماتية، والسعي إلى توسيع العلاقات الثنائية وممارسة النفوذ الأميركي بطُرُقٍ جديدة.
تحوّل الخطاب
تغيّرَ الخطاب السعودي والسياسة الخارجية بشكلٍ كبير منذ نهاية إدارة ترامب. في قمة كانون الثاني (يناير) 2021 في مدينة العُلا، بدأت المملكة العربية السعودية عملية مصالحة مع قطر –وتقاربًا مع عُمان والكويت– بينما ابتعدت من المواقف المُتشدّدة لجارتها، الإمارات العربية المتحدة. منذ ذلك الحين، كثّفت الرياض من مشاركتها مع العراق وجهودها لاستعادة العلاقات الدافئة مع الحلفاء التقليديين مثل مصر والأردن والمغرب وباكستان. واصل ولي العهد أيضًا مشروعًا بدأ منذ سنوات لتوثيق العلاقات مع الصين وروسيا – شراكاتٌ، مع قادةٍ لمدى الحياة مُتشابهين في التفكير، من غير المرجّح أن تنقلبَ بسبب السياسات الانتخابية وتَعِدُ بتضامنٍ أكبر في المدى الطويل.
على الرغم من أن خطابَ المملكة لم يتغير كثيرًا عندما يتعلق الأمر بمواجهة الجهات الفاعلة المدعومة من إيران في المنطقة، فقد تبنّى نهجًا أكثر مرونة تجاه إيران في الممارسة العملية فيما إدارة بايدن تنتهجُ الديبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية بدلًا من حملة “الضغط الأقصى” التي اعتمدها ترامب. في العام 2021، اعترفت المملكة العربية السعودية علنًا بأنها تواصل محادثات جارية مع إيران لتهدئة التوترات، وأعربت عن تأييدها الحذر للاتفاق النووي لعام 2015 المعروف بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”. كما تراجعت عن آمالها في تحقيق نصرٍ عسكري في اليمن، وإن كان ذلك مع الاحتفاظ بالحق في التعامل مع هجمات الحوثيين بعمليات انتقامية قاسية. حتى في ما يتعلق بلبنان، الذي كان القادة السعوديون قد شطبوه بالكامل عن خريطة اهتماماتهم على أنه خاضعٌ لسيطرة إيران، وافق محمد بن سلمان أخيرًا على التعاون مع فرنسا من أجل نزع فتيل الأزمة الاقتصادية فيه.
مَحلّيًا، تظلّ السيطرة السياسية أولوية قصوى لمحمد بن سلمان. للتأكيد، فإنه أطلق سراحَ عددٍ من السجناء السياسيين، ويُشاع أنه يتّخذ نهجًا أكثر ليونة تجاه أفراد العائلة المالكة المُنفَصلين. ومع ذلك، لا يزال قمع التهديدات المحلية يأخذ الأولوية، كما يتّضح من الإعدام الجماعي للمملكة في 12 آذار (مارس) لـ81 سجينًا بتُهَمِ الإرهاب. مع انتساب حوالي نصف هؤلاء السجناء إلى الأقلية الشيعية، فقد دفعت عمليات الإعدام إيران إلى إعلان وقف المفاوضات الثنائية – وهو ردٌّ مُتَوَقَّع وثمنٌ كان القادة السعوديون على استعداد لدفعه بوضوح. كما أن القلق بشأن المعارضة المحلية تُشيرُ إليه أيضًا الحملة القمعية غير المسبوقة وغير المُجدية التي تشنّها الحكومة السعودية للسيطرة على أيّ معلومات عبر الإنترنت وخارجها تتعارَض مع الخط الرسمي. وتمتد هذه السيطرة إلى التجريم الحدودي للتفاعلات الهادفة للمواطنين مع الحكومات الأجنبية وكيانات المجتمع المدني، لا سيما تلك الموجودة في الديموقراطيات الغربية (بما فيها الولايات المتحدة).
على الرغم من تزايد القمع السياسي، فإن الكثيرين من المواطنين السعوديين يُقدّرون التحسينات الهادفة في نوعية حياتهم اليومية. وفيما اعتبر بعض النقاد ما يسمى بخطة رؤية 2030 مجرد مشروع باطل، فإن المبادرة خفّفت القيود الحكومية على الحريات الاجتماعية، وحسّنت من كفاءة العديد من خدمات الدولة، ومنحت المرأة الوصول إلى الحقوق القانونية والاقتصادية والتعليمية، وأدخلت تحسينات صغيرة ولكن ثابتة في الاقتصاد غير النفطي.
اتجاه آخرٌ ملحوظ: في السنوات الأخيرة، قام صانعو القرار السعوديون بإصلاح مكانة الدين في المجال العام الخاضع للسيطرة المُشَدَّدة من خلال تغييراتٍ شاملة من أعلى إلى أسفل وصلت إلى الحد من الدور التاريخي للسلطات الدينية في ترسيخ حكم العائلة المالكة. وقد سعت الحكومة إلى تصوير رؤية 2030 لولي العهد على أنها مصدرٌ جديد للشرعية، حيث أشادت السلطات بشكل مفرط بكل تنمية في البنى التحتية وغيرها واعتبارها كمشاريع “ضخمة”، وأحداث “كبرى”، و “أطول” الأبراج و”الأُوَل تاريخيًا”، خادِمةً بمثابة شهادة على العبقرية السياسية لمحمد بن سلمان. وفي الوقت نفسه، يمكن أن يقع المزيد من التحسينات الاقتصادية العادية بدوره فريسةً لجهود الدولة للحفاظ على السيطرة الكاملة على المعلومات والأسواق.
مسؤولية سياسية
في مواجهة التغييرات الدراماتيكية في المملكة العربية السعودية، استغل بايدن وإدارته فكرة إعادة ضبط العلاقات الثنائية لمعالجة تداعيات السنوات الأولى من نشاط السياسة الخارجية لولي العهد. إن مقتل جمال خاشقجي، مُنتقد النظام الذي خلصت الولايات المتحدة إلى أنه قُتِلَ بأمرٍ من الأمير، وتعذيب نشطاء حقوق المرأة المسجونين، جعلا محمد بن سلمان عبئًا سياسيًا على القادة الأميركيين؛ لا يُمكنُ لأيِّ قدرٍ من الحديث عن الأهمية الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية أن يُبطِلَ هذا الضرر. أدى مقتل خاشقجي إلى تكثيف القلق العام بشأن الحملة العسكرية الطويلة للتحالف بقيادة السعودية في اليمن، ووضع مبيعات الأسلحة للسعودية تحت رقابة دائمة من قبل وسائل الإعلام الأميركية، وولّد جهودًا لمنع مثل هذه المبيعات في الكونغرس الأميركي. لقد أدّى تصنيف المرشح بايدن المملكة العربية السعودية على أنها “منبوذة” خلال الحملة الانتخابية وأنه سيتخذ إجراءات مُبكرة لمعاقبة حاشية ولي العهد، قد ساعد على إظهار التزام الرئيس بايدن بسياسةٍ خارجية قائمة على القِيَم، في تناقضٍ حاد مع سياسة إدارة ترامب.
في الوقت نفسه، فإن أولويات السياسة الفورية لإدارة بايدن في المنطقة – إنهاء التدخّل الأميركي المباشر في اليمن وإعادة تأسيس اتفاق نووي مع إيران – عزّزت الشكوك السعودية بشأن التزامات الولايات المتحدة بأمن المملكة (والنظام السعودي). حلّت السياسة الأميركية تجاه إيران ووكلائها محل السياسة الأميركية تجاه الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني كهدفٍ رئيس للغضب في المملكة العربية السعودية، حيث أصبحت “عقيدة أوباما” المُتمثّلة في تقليص الالتزامات العسكرية الأميركية تجاه الشركاء القدامى هدفًا لانتقاداتٍ شديدة في خطاب السياسة الخارجية السعودي حتى يومنا هذا. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب تودّدت وأبدت النوايا الحسنة تجاه السعودية (والموافقة على صفقات أسلحة) بمزيجٍ من الكلام المُتشَدّد والعقوبات الساحقة والعمل العسكري العرضي ضد إيران وحلفائها، إلّا أن الرئيس الأميركي السابق واصل اتجاهه للحدّ من العمل العسكري الأميركي من خلال رفضه الرد على الهجمات المدعومة من إيران على البنية التحتية النفطية السعودية.
بدلًا من رسم مسارٍ جديدٍ للعلاقة، اعتمدت إدارة بايدن على دليل مألوف: حماية قدرة المملكة على شراء أسلحة أميركية (واستبعاد أي ثمن لانتهاكات حقوق الإنسان السعودية) في مقابل التنسيق الأمني وامتيازات سياسية أخرى. غالبية مسؤولي سياسة بايدن في الشرق الأوسط تؤمن بشدة بأهمية الشراكة مع المملكة العربية السعودية وتوافق على أن قدرتها على تشكيل وتغيير سلوك النظام السعودي لها حدود. وبناءً على ذلك، أفسحت المناقشات حول القِيَم في العلاقة الأميركية-السعودية الطريق أمام الخطاب المألوف للشراكة التي تُعتَبَرُ “شراكة حيوية”، على حد تعبير وزير الخارجية أنتوني بلينكين. تعاملت إدارة بايدن مع أوضح دليل على التغيير في المملكة العربية السعودية –الدور الأساسي لمحمد بن سلمان في صنع السياسة السعودية– من خلال تجنّبه تمامًا، واختيار التظاهر بأن محمد بن سلمان هو ولي العهد النموذجي الذي يعمل فقط في وظيفة يومية في واحدة من الوزارات البارزة في المملكة والتي يمكن استبعادها من المناقشات الثنائية بين زعيمَي الدولتين (الملك السعودي والرئيس الأميركي). لقد أساءت هذه الإستراتيجية قصيرة المدى إلى محمد بن سلمان بينما قدّمت غطاءً ضئيلًا لحقيقة أن الإدارة ليست مُهتمّة بمقاضاة انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية.
إن مُجرّد تجنّب ولي العهد هي استراتيجية تفاعلية/ ردّ فِعلية، تنعكس في مجالاتٍ أخرى من نهج الإدارة للعلاقة. غير قادرة أو غير راغبة في تأمين تشريعاتٍ للطاقة الخضراء التي من شأنها أن تُقلّلَ من اعتماد الولايات المتحدة على الوقود الأحفوري، قرّرت إدارة بايدن الطلب بشكل دوري من المملكة العربية السعودية زيادة إنتاج النفط، والتي رفضت ذلك. وهذا الأمر لا يؤدي سوى إلى زيادة شعور الرياض بالأهمية الذاتية في أسواق النفط العالمية، حيث نقلت تقارير أن القادة السعوديين يطالبون بتنازلاتٍ لا يمكن الدفاع عنها سياسيًا من بايدن –مثل زيادة الدعم لحرب المملكة في اليمن، والحصانة القانونية في الولايات المتحدة لمحمد بن سلمان، والتعاون في المجال النووي– مقابل زيادات في الإنتاج يمكن أن تُعوِّضَ ارتفاع الأسعار الناتج عن العقوبات المفروضة على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا. لقد تركت النتيجة إدارة بايدن تلعب لعبة البيضة والدجاجة مع شريكٍ أمني رمزي: محاولة تأمين زيادة إنتاج النفط مقابل الحد الأدنى من الامتيازات حتى في الوقت الذي ترى المملكة العربية السعودية ما يمكن أن تحصل عليه لزيادة الإنتاج من المحتمل أن يجعلها منقذة ورائدة على أي حال.
تجديد العلاقة
لا يُمكِنُ للولايات المتحدة أن تأخذَ دعم السعودية كأمرٍ مُسَلَّمٍ به. لقد استهانت الإدارات الأميركية المُتعاقِبة بتأثير السياسات الأميركية، بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، في الشرق الأوسط على مكانتها في الرياض. خذ بعين الاعتبار الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، والدور المفترض للولايات المتحدة في الثورات العربية 2010-2011، والاتفاق النووي الإيراني، وعدم رد واشنطن على الهجمات المدعومة من إيران على البنية التحتية النفطية السعودية – ذكرياتُ تلك الأحداث هي مفتاحُ نقاطٍ مَرجعية لصنّاع القرار السعوديين اليوم. لقد حلّت محل الصور الأيقونية للقوات الأميركية وهي تُحرّر الكويت في العام 1991 والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والملك السعودي عبد العزيز بن سعود يلتقيان على ظهر السفينة “يو أس أس كوينسي” في العام 1945. يبدو أن إدارة بايدن تُدرِكُ هذا التغيير وتُعطي الأولوية الآن لإرضاخ السعودية لقبول اتفاق نووي مُتجدّد مع إيران، مُتّخذةً موقفًا وسطيًا بشأن الصراع في اليمن (الضغط من أجل السلام ولكن توفير غطاء لردود الرياض الانتقامية، وكل ذلك مع بذل القليل لتخفيض وإضعاف نفوذ الحوثيين)، وتقليل الحديث بأقل قدر ممكن عن ماضي سلوك ولي العهد. من جهته، سيستمر محمد بن سلمان في المخاطرة بحسن نية الولايات المتحدة في السعي إلى تحقيق أولويات سياسته الخاصة، واثقًا من أن احتياطات بلاده النفطية وثروتها ستردعان ردود الفعل الرسمية الأميركية والغربية. بالإضافة إلى ذلك ، فإن التحدي العام للدعوات الأميركية والغربية لزيادة الإنتاج يلعب بشكلٍ جيد في الداخل من خلال تسليط الضوء على مكانة المملكة العربية السعودية كلاعبٍ رئيس في الاقتصاد العالمي.
بدلًا من الاستجابة لإشارات الرياض الدورية عن السخط والاستياء، يجب على صانعي السياسة الأميركيين أن ينظروا إلى مصالح المملكة في المدى الطويل لتحديد نقاط النفوذ. تتشابك مصالح المملكة العربية السعودية بشدة مع طموحات محمد بن سلمان الشخصية لرؤية 2030، وسوف تتكيّف الرياض أو تبحث عن مصادر أخرى للأسلحة أو الاستثمارات أو التكنولوجيا كلما أغلقتها واشنطن أو امتنعت الشركات الأميركية عن الاستثمار. في الوقت الحالي، لا تزال أميركا تُوفّر معظم الأسلحة التي تحمي النظام السعودي ضد الخصوم الأجانب (ناهيك عن المعارضة المحلية)، والتي تُمثّل ما يقرب من 80 في المئة من واردات الأسلحة السعودية من 2016 إلى 2021. وبالكاد شكّلت الصين واحد في المئة من واردات الأسلحة خلال الفترة الزمنية عينها، وروسيا أقل من 0.1 في المئة. ولا يمكن للمملكة أن تنتقل بسهولة إلى مُورّدٍ آخر للأسلحة بعد عقودٍ من بناء قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية حول الأسلحة والمعدات والذخائر الأميركية.
من ناحية أخرى، تُشكّلُ تطلعات الاقتصاد المعرفي لرؤية السعودية 2030 وسيلةً أخرى لنفوذ الولايات المتحدة، إن لم تكن مصدرًا مباشرًا للنفوذ. لا تزال الجامعات الأميركية هي الهدف الرئيس للسعوديين الذين يسعون للدراسة في الخارج: فقد التحق 55 في المئة من الطلاب السعوديين الذين يدرسون في الخارج بمنحٍ مُموَّلة من الحكومة في مؤسسات أميركية في العام 2019، مُقارنةً بـ0.4 في المئة فقط في المدارس الصينية. علاوة على ذلك، على الرغم من المغازلة المتزايدة مع الصين وروسيا، لا تزال الرياض تقيس النفوذ والاحترام من حيث موافقة وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية الغربية.
هذا الأمر هو أكثر أهمية فيما المملكة العربية السعودية تستبدل تركيزها التقليدي على التأثير في العالم الإسلامي بتلميع صورتها كمثالٍ للاستبداد المُستنير المؤيّد للعَولَمة. تُقدِّمُ العروض التعليمية والتبادلات الثقافية والمشاريع السياحية طُرقًا جديدة لتوصيل القِيَمِ الأميركية وإجراء ديبلوماسية عامة في بعض الحالات بعيدًا من رقابة الدولة السعودية وقمعها.
ومع ذلك، من الواضح أن الرياض استثمرت أكثر بكثير مما استثمرت واشنطن في بناء الأدوات الديبلوماسية لتشكيل العلاقات الأميركية-السعودية المستقبلية. تعتمد مؤسسات الدولة في المملكة على خبرة مئات السعوديين الذين أمضوا وقتًا طويلًا في الولايات المتحدة. على مدى السنوات القليلة الماضية، بذل الديبلوماسيون السعوديون في الولايات المتحدة جهودًا متضافرة لتقديم نقاط حوار سعودية إلى دوائر انتخابية جديدة، مع العلم أن التقليل من شأن المؤهلات الإسلامية للمملكة سوف يجذب دائمًا الجماهير الغربية. حتى في الوقت الذي أثار المزيد من الجهود السعودية لتشكيل آراء صانعي السياسة الأميركيين الدهشة في واشنطن، فقد فشلت إدارة بايدن في تعيين سفيرٍ لها في الرياض. يُشيرُ تجنّب بايدن لمحمد بن سلمان إلى استياء الجماهير الغربية من السلوك الديكتاتوري لولي العهد، ومع ذلك لم تَسعَ أيُّ سياساتٍ أميركية لتعويض هذا الموقف من خلال إظهار أيِّ اهتمامٍ حقيقي بالسعوديين العاديين. تُعزّز هذه الإخفاقات الرسالة التي مفادها أن واشنطن لا تهتم إلّا بالسكان العرب المسلمين عندما يشكلون تهديدًا، إما من خلال دعم الإرهاب أو معارضة المصالح الأميركية.
تُقدِّمُ المواجهة الحالية بشأن إنتاج النفط لصنّاع السياسة الأميركيين فرصةً لإعادة التفكير في المسار المستقبلي للعلاقة الثنائية. لقد قرأ وفهم محمد بن سلمان ومستشاروه بوضوح أن الالتزامات الأمنية الأميركية المُتناقِصة والمُنخفضة بشكلٍ متزايد تمنح المملكة مساحة أكبر للعمل بشكل مستقل عن الولايات المتحدة دون إثارة الكثير في طريق رد الفعل العنيف. بدلًا من مجرد زيادة إمدادات الأسلحة إلى المملكة، يمكن لإدارة بايدن رسم مسار جديد للعلاقة من خلال إيجاد طرق للاستفادة من مخاوف وضع المملكة لتأمين تنازلات سياسية وتحديد تعويض مقبول للطرفين عن أي خسائر اقتصادية واستراتيجية للمملكة إذا كانت توافق على زيادة الإنتاج. أو يمكنهما الاستمرار في مسارهما الحالي، مع قيام وكالة الولايات المتحدة بإعادة تشكيل العلاقة الثنائية بالتدهور شهريًّا.
- ياسمين فاروق هي باحثة غير مقيمة في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @YasFarouk. وأندرو ليبر هو مرشح لدرجة الدكتوراه في قسم الحكومة في جامعة هارفارد. يمكن متابعته عبر تويتر على: @AndrewMLeber.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.