تمثال الحرية في نيويورك: الحكاية الكاملة (1 من 2)

فردريك بارتولدي نحَّات “تمثال الحرّية”

هنري زغيب*

حدثٌ لافت تَشهده نيويورك الأُسبوع المقبل (من الخميس1 تموز/يوليو إِلى الإِثنين في الخامس منه): بعد 135 سنة (1886-2021) على تدشين “تمثال الحرية”، الرمز الأَكبر والأَبرز في أَميركا تاريخًا وشعبًا، انطلقَت نسخةٌ برونزية عنه (نحو 3 أَمتار) من “متحف الفنون والمهن” في پاريس، ووصلَت قبل يومين إِلى نيويورك كي تُعرَض في جزيرة إِيلِّيس آيلِند (حيث ينتصب التمثال التاريخي) لتبقى فيها تلك الستَّةَ الأَيام (وبينها الاحتفال باليوم الوطني الأَميركي: 4 تموز/يوليو) قبل نقْلها إِلى حديقة السفارة الفرنسية في واشنطن لتبقى فيها عشر سنوات (2021-2031).

قليلون يعرفون أَن فردريك بارتولدي (1834-1904) (من مدينة كالمار في الأَلزاس) النحات الذي أَبدع التمثال، كان وراءَه مهندس عبقري فرنسيٌّ كذلك.

في أَول حزيران/يونيو 1870 وصلَت إِلى مرفَإِ نيويورك الباخرة پيرير Pereire (التابعة لـ”الشركة العامة عبر الأَطلسي”) بعد 13 يومًا من الإِبحار. وكان النحات واقفًا عند مقدَّمها يتأَمل مشهد نيويورك: عن يساره مدينة جيرسي، عن يمينه بروكلن، وأَمامه في الوسط جزيرة بِدْلُو Bedloe الصغيرة قبالة مانهاتن.

ذات ليلة… ذات فكرة

يومها جاء بارتولدي إِلى نيويورك في مهمَّة خاصة: قبلذاك بسنواتٍ كان التقى في پاريس الشاعر والقانوني الفرنسي إِدوار لوفيڤر دولابولاي Edouard Lefebvre de Laboulaye (1811-1883) ونحَت تمثاله النصفي سنة 1866. وكان لابولاي مناهضًا الاسترقاق، ووضع كتُبًا عن أَميركا، ويرغب في عملٍ يُجسِّد الصداقة بين فرنسا وأَميركا منذ حرب أَميركا لنيل استقلالها.

وفي حفلة عشاءٍ (6 حزيران/يونيو 1865) لدى لابولاي في منزله (قرب ڤرساي) اقترح على النحات فكرة نصُبٍ يكون هدية الشعب الفرنسي إِلى شعب أَميركا،  جزءًا من احتفالاتها بمرور 100 سنة (1786-1886) على استقلالها. أَجاب بارتولدي: “أَنا أَيضًا أُحارب من أَجل الحرية وأُنادي بها لجميع الشعوب. وسأُحاول تمجيد الجمهورية في أَميركا في انتظار عودة الجمهورية كلِّها إِلى فرنسا”.  وكان بذلك يعني عودة الأَلزاس (وجزء من اللورين) إِلى حضن فرنسا من سلطة أَلمانيا بعد هزيمة ناپوليون الثالث أَمام پروسيا.

نسخة التمثال البرونزية المحتفى بها الأُسبوع المقبل في نيويورك

الفكرةُ ولَّدت حُلمًا

منذئذٍ أَخذت تتكوَّن في بال بارتولدي فكرة تمثال يكون شاهدًا على الصداقة الفرنسية الأَميركية. تذكَّر رحلته إِلى الأُقْصُر وهو شاب (1855) إِذ شاهد تماثيل شاهقة ذات تصاميم بسيطة. حَلم يومها أَن ينحت منارةً شاهقة في شكل امرأَة شابة لابسة ثوبًا تقليديًا، في يمناها شعلة. حوَّل في باله فكرة التمثال الشاهق من مصر إِلى نيويورك، مع شعلة حرية تشعُّ من “العالم الجديد” إِلى أُوروپا القديمة.

في خريف 1871 عاد بارتولدي من نيويورك إِلى پاريس وبدأَ البحث عن دعمٍ لتنفيذ تمثاله الضخم بمواجهة عقَبتَين: المواد والتمويل. أَخذ يبحث عن نموذج (موديل) وجهٍ ينحته يمثل الحرية. كان يعرف لوحة دُولاكروى “الحرية تَقُود الشعوب” (1830) لكن نحْت امرأَة في ثوب ممزق واقفة عند حاجز بين مسلَّحين كانت صورةً قاسية بعيدة عن ذوقه. كان يرغب في تصوُّر حريةٍ هادئة شفيفة إِنما واعية قوتها. في النهاية استلهم وجه أُمه شارلوت (1801-1891) لنحْت ملامحها. واستلهم الثوب من تصميم الخياطة الشابة جان إِميلي باهو Jeanne-Emilie Baheux  (1829-1914) من نانسي (في اللورين) حبيبتِه التي تزوَّجها لاحقًا في ولاية رود آيلند الأَميركية (15 كانون الأَول/ديسمبر 1875). وأَخذ منذئذٍ يبني هيكلًا بعلو 11،5 مترًا كان مصغَّر التمثال النهائي الذي سيصبح أَكبر بأَربع مرات.

لوحة دولاكْروَى “الحرية تَقود الشعوب”

الحلم يتحقق تصميمًا

كانت نتيجة تصميمه هائلة وعظيمة: بلغ التمثال النهائي 45،7 مترًا، الأَنف بطول 1،37 مترًا، القَدم 7،6 أَمتار، محيط الخصر 10،6 أَمتار، الرأَس المجوَّف ليَضُم 35 زائرًا، على قمته سبعةُ تيجان رمز البِحار والمحيطات السبعة. استنفد هذا العمل الضخم نحو 10 أَطنان من النحاس ونحو 100 طن من المعادن. وكان التحدِّي: كيفية نقْله وتركيزه على قاعدته من دون أَن يقع، واحتماله عوامل طبيعة جامحة قد يتعرَّض لها. وصمَّم الشعلة مجوَّفَةً كي يسهل بلوغُها (استُخدِمَ التمثال منارةً حتى 1902)، ويُفتَرَض أَن تكون القاعدة ثابتةً راسخةً في الأَرض متينةً قويةً حتى يجابِه التمثالُ العواصف العاتية فلا يهوي عن قاعدته. لأَجل هذه الاستعدادات الهندسيَّة تقدَّم بارتولدي من شركة “غاجيه وغوتييه” للهندسة (قرب حديقة مونسو في پاريس). وكانت سابقًا أَنجزَت أَعمالًا كبرى أَطلقَت شهرتها: سقف مبنى أُوپرا غارنييه (پاريس)، تمثال الملاك الكبير في جزيرة سان ميشال (النورماندي)، بُرج الجرس في مبنى الإِنڤاليد (إِيل دوفرانس). وكلَّفَت الشركة مهندسها المعمار أُوجين لودوك تصميم الهيكل ومتطلِّباته هندسيًّا. لكنه توفّي فجأَة عن 65 عامًا سنة 1879، فكان لا بُدَّ من مهندس آخَر يُكمل تصميم الهيكل.

توقيع بارتولدي على أَول تصميم وضعه للتمثال

من أَجل تنفيذ التصميم

في تلك الفترة، كان بارتولدي أَخذ يسمع بمهندس معمارٍ شاب من ديجون بدأَ اسمُه يلمع في الهندسة المعمارية منذ 1852، خرّيج  المعهد المركزي للفنون الصناعية (پاريس). استعرض بارتولدي إِنجازات المهندس الشاب الموهوب: جسر سكة الحديد في بوردو، تأْسيسه شركته الخاصة لتصاميم المعدنيات (1864)، ومنها حقق شهرة في بناء جسر متعدد القناطر فوق نهر دُورو في پورتو (الپرتغال)، محطة پِسْت للقطار في بوداپِسْت (هنغاريا)، قمة المرصد في نيس (فرنسا).

حيال هذه الإِنجازات الكبرى، كان لا بدَّ للنحات الفرنسي العبقريّ بارتولدي من الاتصال بهذا المهندس الفرنسي العبقري الآخَر.

من هو هذا المهندس الذي سيُصبح اسمه لاحقًا وسْع پاريس وفرنسا والعالم؟

الجواب في الجزء الآخر من هذا المقال (الثلثاء المقبل في “أَسواق العرب”).

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى