الصين بين خيارَين في حربِ بوتين أحلاهُما مرٌّ
تواجه بكين خيارين سيئين جراء حرب بوتين على أوكرانيا: دعم موسكو وبالتالي تنفير وإغضاب أوروبا وتعميق الانقسامات مع واشنطن، أو إبعاد نفسها عن روسيا التي تحتاج إليها لمواجهة أميركا وحلفائها.
عبد السلام فريد*
في الأسابيع الأخيرة، كان هناك الكثير من التكهّنات حول عمق التوافق الاستراتيجي بين الصين وروسيا. منذ أوائل شباط (فبراير)، عندما أصدر الجانبان بيانًا مُشتَرَكًا خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، اكتسبت الحجة القائلة بأن موسكو وبكين ليستا مُتحالفتَين فحسب، بل هما في تحالفٍ علني ضد الولايات المتحدة والغرب، شعبيةً وانتشارًا على نطاقٍ أوسع.
ومع ذلك، عند الفحص والتمحيص الدقيقَين، فإن تصرّفات الصين في الفترة التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا وبعده مباشرةً تَرسُمُ صورةً مُختَلطة في ما يتعلق بمدى العلاقة الثنائية.
لا شكّ في أن العلاقات الصينية-الروسية قد تعمّقت في السنوات الأخيرة. في مجال الطاقة، جاءت الصفقة التي تمّ توقيعها بقيمة 117 مليار دولار خلال زيارة بوتين لروسيا لتزويد الصين بالنفط والغاز من الشرق الأقصى الروسي لكي تُكَمِّل علاقات الطاقة المُعَزَّزة في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014. كما زاد الجانبان أيضًا تعاونهما العسكري بشكلٍ لافت بالإضافة إلى تحالفهما السياسي ضد القيود المُتصَوَّرة ل”الهيمنة” الأميركية.
ومع ذلك، يبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا يُحرِجُ بكين ويُجبرها على اتخاذِ خيارٍ غير مُريح. وكما لاحظ “إيفان فيغينباوم” من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فإن هذا الوضع يُمثّلُ تحدّيًا كبيرًا للصين بالنسبة إلى تحقيقِ توازنٍ بين رغبة بكين في “شراكة استراتيجية مع روسيا”، و”التزامها مبادئ السياسة الخارجية طويلة الأمد المُتمثّلة في وحدة الأراضي” و”عدم التدخّل” و”الرغبة في تقليل الأضرار الجانبية الناجمة عن عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة”.
يُوَضِّحُ ردُّ بكين على الأزمة الحالية بوضوحٍ التوتّرَ بين جهودها للاستفادة من العلاقات مع روسيا لتعزيز رؤية الرئيس الصيني شي جين بينغ لـ”علاقات قوّة عظمى جديدة” مع الولايات المتحدة من ناحية، وإدراكها بأن النظرة إليها على أنها تتماشى بشكلٍ وثيق جدًا مع عدوان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوف يحمل تكاليف وتداعيات فورية على مصالح الصين من ناحية أخرى.
على الجانب الأول في سجل الحساب، تصرّفت الصين بطُرُقٍ تُشيرُ، على أقل تقدير، إلى تسامح بكين مع سلوك موسكو. في الفترة التي سبقت الغزو، ذكرت تقارير متطابقة أن الصين تلقت من المخابرات الأميركية معلومات بشأن الاستعدادات العسكرية الروسية – التي قدّمتها لها واشنطن كوسيلةٍ لإقناعها بالتهديد الحقيقي للعمل العسكري الروسي. في غضون ذلك، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن أجهزة المخابرات الغربية تعتقد أن شكلًا من أشكال التشاور بين بكين وموسكو بشأن خطط روسيا قد حدث قبل الغزو، على الرغم من أن المعلومات الاستخباراتية “لم تُشِر بالضرورة إلى أن المحادثات حول الغزو قد حدثت على مستوى الرئيسين شي وبوتين”.
بعد الغزو، خفّفت بكين أيضًا القيود التجارية المفروضة على واردات القمح وفول الصويا الروسيين، والتي يمكن أن تُوَفِّرَ لموسكو، جنبًا إلى جنب مع زيادة مشتريات الصين من النفط والغاز الروسيين، مستوى مُعَيَّنًا من العَزل ضد العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية. وبينما كرّرت التصريحات الرسمية لبكين بشأن الغزو الروسي موقفها القديم بشأن حرمة سيادة الدولة الأوكرانية والحاجة إلى تسويةٍ تفاوضية، فقد نشرت في الوقت نفسه موقف موسكو بأن توسّع حلف “الناتو” شرقًا هو سبب الحرب. وقد تكرّر هذا أيضًا بانتظام كبير في وسائل الإعلام الحكومية.
أخيرًا، امتنعت الصين عن التصويت في 25 شباط (فبراير) في مجلس الأمن الدولي لإدانة الغزو الروسي، الذي استخدمت روسيا حق النقض ضده، وصوّتت ضد اقتراحٍ بإجراء مناقشة حول الوضع في أوكرانيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 28 شباط (فبراير). وقد صرّحَ وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، لاحقًا أن امتناع الصين عن التصويت في مجلس الأمن كان بسبب اعتقادها أن إجراءات المجلس “يجب أن تساهم في تسوية سياسية للأزمة الحالية بدلًا من التحريض على مواجهات جديدة”، بينما أضاف أن الصين تعتبر العقوبات الاقتصادية نهج “خسارة للجميع” والذي من شأنه أن “يتدخّل في عملية التسوية السياسية”.
مع ذلك، على الجانب الآخر في سجل الحساب، هناك بعض المؤشّرات إلى أن بكين غير مُرتاحة من احتمالات أن تُصبحَ أضرارًا جانبية لمغامرة بوتين.
على النقيض من قصة نيويورك تايمز المذكورة أعلاه، أشار الصحافي المُطّلع عادةً، “دايف ريني”، من مجلة “ذا إيكونوميست” في 1 آذار (مارس) إلى أنه على الرغم من أننا قد لا نعرف أبدًا مدى معرفة شي شخصيًا بخطط بوتين، “بدا الديبلوماسيون الصينيون مذهولين من الغزو الروسي. لقد كانوا “مرتبكين بشكلٍ واضح” عندما كان يقترب منهم نظراؤهم الغربيون في بكين وفي الأمم المتحدة في نيويورك بينما كانت الدبابات الروسية تتوغّل في الأراضي الأوكرانية”.
إن حقيقة جهود بوتين لإعادة ترسيم حدود أوكرانيا من خلال الاعتراف باستقلال مقاطعتَي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، ناهيك عن محاولة الإطاحة بالحكومة في كييف مع الغزو اللاحق، يتناقض بوضوح مع ادعاء البيان المشترك الصادر في أوائل شباط (فبراير). أنه لا توجد دولة “تستطيع أو ينبغي لها أن تضمن أمنها بشكل منفصل عن أمن بقية العالم وعلى حساب أمن الدول الأخرى”. لكنها أيضًا تتعارض بشكل أساسي مع “المصلحة الأساسية” لبكين في مواجهة ما تعتبره “انفصالية” وتدخّلًا أجنبيًا في شينجيانغ والتبت وهونغ كونغ وتايوان.
في غضون ذلك، وفقًا لتصريح مسؤول أميركي رفيع نقلته “رويترز”، لا يبدو أن الصين تتّخِذُ خطوات لمساعدة روسيا على التهرّب من العقوبات الأميركية والأوروبية الأخيرة التي تستهدف البنك المركزي الروسي وفصله عن شبكة معاملات “سويفت” (SWIFT) العالمية. هذا أمرٌ مهم، وفقًا للتقرير السنوي للبنك المركزي الروسي لعام 2020، فإن 14 في المئة من احتياطاته من العملات الأجنبية مُحتَفَظٌ بها في الصين. وقال أوسمين ماندينغ، وهو زميلٌ زائرٌ في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، لصحيفة فايننشال تايمز، إن روسيا يمكن أن تسعى أيضًا إلى التهرّب من العقوبات باستخدام الرنمينبي بدلًا من الدولار الأميركي في المعاملات مع الصين، حيث من المرجح أن تكون المدفوعات القائمة على الرنمينبي تُديرُها مؤسسات خارج مجال التأثير المباشر للغرب”. لكن هناك تقارير تفيد بأن بنكَين حكوميين صينيين قد قيَّدا في الواقع تمويل مشتريات السلع الروسية، في حين قرّر البنك الآسيوي للاستثمار والبنية التحتية، الذي تلعب فيه الصين دورًا رائدًا، تجميد الإقراض لروسيا.
كما ظهر مصير حوالي 6,000 مواطن صيني في أوكرانيا كنقطة توتّر مُحتملة للعلاقات الثنائية. ذكرت “غلوبال تايمز” في 1 آذار (مارس) أن السفارة الصينية في كييف كانت بصدد تسهيل إجلاء حوالي 2,300 مواطن صيني عبر حافلات إلى مولدوفا وبولندا. نظرًا إلى تحوّل روسيا الواضح إلى حرب الحصار للاستيلاء على المدن الكبرى، بما في ذلك إطلاق الصواريخ العشوائية والغارات الجوية ضد أهداف مدنية، هناك احتمال واضح للقتل أو الإصابة للمواطنين الصينيين طالما بقوا في أوكرانيا. مثل هذا السيناريو سيكون، على أقل تقدير، صفعة لشي وأوراق اعتماد الحزب الشيوعي الصيني كحماة للمواطنين الصينيين في الخارج، وكذلك علامة سوداء ضد موسكو.
الوضع الحالي يحمل العديد من أوجه التشابه مع استجابة الصين المُلتَبسة والمُتداخلة على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، عندما امتنعت عن التصويت على قرارٍ لمجلس الأمن قدمته الولايات المتحدة لإدانة هذه الخطوة وانتقدت العقوبات الغربية، بينما دعت إلى احترام سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها. ومع ذلك، فإن أحد الاختلافات الصارخة بين ذلك الحين والآن هو المشهد الجيوسياسي الأكثر تحدّيًا الذي تواجهه بكين اليوم، بما في ذلك المنافسة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وتدهور العلاقات مع معظم جيرانها الآسيويين والتأثيرات الاقتصادية لاستجابتها الصفرية لوباء كوفيد-19.
كتب جود بلانشيت وبوني لين في مجلة “فورين أفّيرز”، أن حسابات بكين تبدو كالتالي: طالما لا تُقدّم مساعدة عسكرية لروسيا، “ستُعاني على الأكثر من عقوباتٍ ثانوية بسبب دعمها السياسي والاقتصادي”، بينما تستفيد من حقيقة أن الولايات المتحدة وأوروبا “ستحوّلان اهتمامهما ونظرهما بعيدًا من آسيا، ما يمنح الصين يدًا أكثر حرية في جوارها”. كما قال مينغ جينوي، كبير المحررين في وكالة أنباء شينخوا التي تديرها الدولة، في منشورٍ تم تسريبه على منصّة التواصل الاجتماعي الصينية “ويبو” (Weibo)، يبدو أن الافتراض التشغيلي لبكين هو أن “على الصين أن تدعم روسيا بالدعم العاطفي والمعنوي بينما الامتناع عن الدوس على أصابع أقدام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي”، حتى تتمكن في المستقبل من الاعتماد على” تفهّم روسيا ودعمها عند “المصارعة” مع أميركا لحل قضية تايوان بشكلٍ نهائي”.
يبدو أن مثل هذا التفكير يُسيء تقدير الطريقة التي ستُعزّز بها المغامرات الروسية في أوكرانيا تصوّرات الولايات المتحدة والدول الأوروبية والآسيوية للأهداف التنقيحية للصين. على سبيل المثال، وصف الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبيرغ، روسيا والصين بأنهما متحالفتان في “محاولة للسيطرة على مصير الدول الحرة، وإعادة صوغ كتاب القواعد الدولية وفرض نماذج الحكم الاستبدادية الخاصة بهما”. وتعكس قرارات اليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية بفرض عقوبات على روسيا أيضًا تصوّرًا متزايدًا بوجود روابط مهمة بين المسارح الأوروبية والآسيوية للمنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية، وروسيا والصين من ناحية أخرى.
نظرًا إلى هذه الخلفية، يبدو أن بكين في وضع ستضطر فيه إلى الاختيار بين خيارين سيئين. دعم “الرجل المنبوذ في العالم”، بشكلٍ علني لا يُخاطر بتنفير وإغضاب أوروبا وتعميق الانقسامات مع واشنطن فحسب، بل قد يجعل الصين عرضةً لعقوبات سياسية واقتصادية. لكن إبعاد نفسها عن موسكو من المرجح أن يوجه ضربة للعلاقة التي يمكن القول إن بكين تحتاجها في فترة العلاقات المتوتّرة مع كل القوى العظمى الأخرى تقريبًا.
يعتمد أيٌّ من هذين الخيارين الذي ستتخذه بكين على سؤالٍ بسيطٍ مُخادِع حول ما تُقدّره أكثر: العداءُ الذي تُشاركه مع موسكو تجاه النظام الدولي الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة ورؤيتهما التكميلية لنظامٍ “مُتعدّد الأقطاب” ليحلّ محله، أو مصلحة الصين الذاتية الخاصة الضيّقة.
- عبد السلام فريد هو مراسل “أسواق العرب” في بكين.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.