بوتين: في فُنونِ الاستِعراض!
محمد قوّاص*
أثارت الطاوِلةُ المُترامِيَةُ الأطراف التي فصلت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون في موسكو كثيرًا من السخرية وردود الفعل. أمتارٌ مُبالَغٌ بعددها أبعدت الأوّل عن الثاني أسالت كثيرًا من الحِبرِ واستدعَت تعليقاتٍ وتأويلات.
وسواء في غرابة هذا المشهد أو بفجاجة مُغادرة بوتين المؤتمر الصحافي المُشتَرَك مُتقَدِّمًا ضيفه، فإن في تلك الفرجة ما يعبر عن توتّرٍ لدى زعيم الكرملين ولا يعكس، كما يرمي، إلى إظهار وجه المُتَمَكِّن المُمسك بزمام الأمور.
قارنت الصحافة الدولية بين مشهدِ حذاء نيكيتا خروتشوف في تشرين الأول (أكتوبر) 1960 في الأمم المتحدة وسلوكيات بوتين المُتَعَدِّدة في لقاءاته الدولية ومنها ذلك الأخير مع ماكرون. والمُشتَرَكُ هو الحاجة إلى استخدامِ “فجاجةٍ” لا تُخيفُ ولا تردع الخصوم على الرغم من أن هناك مَن يَجِدُ فيها جرأةً وتحدّيًا ضد الخصوم.
وسواء في تقصّد إظهار الحشود العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا، أو في شتم البلد وحكامه والسخرية منهم، فإن استعراضات بوتين تُحوِّلُ الأزمة الراهنة من طابعها الجيوستراتيجي المُفترَض مُقاربَتها بحساباتِ المصالح وموازين القوى ولغة التسويات، إلى مستوى شخصاني تتدخّل فيه طباعُ بوتين وحالاتُ مزاجه ووجوهُ السيكولوجيا في مواقفه.
وبالإمكان هنا الإنخراط في تمرين المُقارنة بين ما يَصدُرُ عن بوتين ويتناسل في حديث وزير خارجيته سيرغي لافروف عن “حوار الطرشان” مع نظيرته البريطانية ليز تروس من جهة، وما يصدر عن المنابر الغربية من حيث خلوِّ المواقف من أي انفعالاتٍ شخصية وثراء التصريحات الرسمية بالعبارات المدروسة والمُخصَّبة بالهدوء حتى لو كانت تَستَبطِنُ تحذيراتٍ وتهديدات. يكفي تأمّل ما أراده الزعيم الروسي من “فُرجة” الطاولة العملاقة البيضاء ذات الروح السوفياتية، وما علّق به الزعيم الفرنسي حين أمعن بساديةٍ في تفريغِ الحدث من الإثارة مُعتبرًا الأمر عاديًا يكاد يقول أنه لم يلحظ به فارقًا.
في المشهدية أيضًا ست ساعات من المحادثات بين الرجلين. الوقتُ طويلٌ على اجتماعٍ قال ماكرون إنه كان مُثمِرًا وُجِدَت فيه “بعض الأفكار المشتركة” ولم يُظهر بوتين كثيرًا من الحرارة في شأنه. وإذا ما اعتبرنا أن نصف وقت الاجتماع استهلكته أعمال الترجمة الفورية، فإنّ في كلِّ تلك التفاصيل شكلًا ومضمونًا ما يُفيد بأن بوتين لم يتحرَّ الوصول إلى نتائج، بل التعبير عن تَوقٍ لإظهارِ بأسِ ورباطة جأش قد يكون لهما تأثيرٌ ما في الداخل الروسي بدون أن يُغَيِّرَ الأمرُ من موازين القوى داخل المشهد العام.
مَن راقبَ المَشاهد التي جمعت الرئيس الروسي بنظيره الصيني شي جين بينغ حين التقاه في بكين لاستنتَجَ من خلال لغة الجسد ضعف بوتين وقوّة شي. في الصين كان بوتين يُبالغ في الابتسام والتودّد والتعبير عن الغبطة لنظيره الصيني، فيما يبالغ بالمقابل في التعبير عن حاجةٍ للسطوة والاعتراف حين يلتقي نظراءه ومنهم ماكرون الفرنسي أخيرًا وأنغيلا ميركِل الألمانية قبل سنوات مثلًا (وقصة إخافتها بكلبه شهيرة).
يحقّ لبوتين أن يتوتّر. تغيّرت المواقف الدولية. لم تعد “لقمة” أوكرانيا سهلة البلع. لا شيءَ يوحي أن خطط الغرو لم تعد ورادة، لكن الأمرَ أصبح مُكلِفًا. والرجل يعرف أن المنظومة الغربية بمجملها، وفي مقدمها الولايات المتحدة، أعادت التموضع بخطورةٍ داخل سياقٍ رادعٍ مُحذِّر ناهر سواء في حجم ونوعية الأسلحة التي ترسلها واشنطن ولندن وعواصم أطلسية أخرى إلى أوكرانيا، أو في جدية الوعود بعقوبات اقتصادية فورية و “مدمّرة” في حال ارتكب بوتين خطيئة الغزو.
يُريدُ بوتين أن يؤكّد لروسيا والروس قبل العالم أن أمرَ تلك الحرب المُحتَمَلة لا تُقرّره موسكو ومؤسساتها العسكرية والسياسية، بل هو شخصيًا. الغرب أيضًا يُردّد ذلك. الرئيس الأميركي جو بايدن تحدّث عن الأمر واعدًا بفرضِ عقوباتٍ على بوتين شخصيٍّا. زعماء فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها يحجّون إلى روسيا أو يتواصلون مع زعيمها الحانق. واشنطن تتواصل مع بكين لعلّها تتوسّط لدى رجل الكرملين لانتهاج السبل الديبلوماسية فقط.
لا يمكن للمُراقِب إلّا أن لا يجد في أزمة أوكرانيا سوى نزق شخصي حاقد لبوتين. الرجل في تصريحاته لا يعترف بأوكرانيا كدولة مستقلة، ولا يعترف بأيّ عملية سياسية أطاحت أتباعَ موسكو في كييف ويعتبرها انقلابًا، ولا يتخيّل نفسه، وهو قيصر روسيا الجديدة، مُجتمعًا لتسوية الأزمة، كما هو مقترح، مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي. لا شيء في أوكرانيا يُهدّد الأمن الاستراتيجي الروسي ولا خططَ مُعلنة أو مُضمَرة لحلف شمال الأطلسي (لناتو) ضد روسيا، لا بل أن الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، لطالما اعتبرت روسيا مشروع حليف في المواجهة الاستراتيجية الكبرى ضد الصين.
الروس أنفسهم يعرفون ذلك. خبراؤهم وباحثوهم وحتى ضيوف الفضائيات منهم لا يُصدّقون أن روسيا بخطر إذا ما فكّرت أوكرانيا (فكّرت فقط) هذه الأيام بالانضمام بعد عقود إلى حلف الناتو، وهو أمرٌ عسير حتى في نظر أعضاء الناتو أنفسهم. الروس أنفسهم يعرفون أن الغرب لن يُسَلِّم موسكو وعدًا يَحرم أي دولة في العالم بما فيها تلك المُحاذية لروسيا من حقّ التقدم بطلب العضوية في الحلف الأطلسي دون أي يعني الأمر قبولًا لها داخل صفوف الحلف.
لبوتين طموحاتٌ كبيرة هي أكبر من قدرات روسيا الحالية. يطرق أبواب أفريقيا ويودّ لبلاده المكان والمكانة في ليبيا وسوريا وشرق المتوسط. يتوسّل دعم الصين وهو يعرف أن الصين حتى لو فعلت فسيكون خدمة للصين فقط وطموحاتها وطريق الحرير الذي تشقّه في العالم. رجل روسيا مُغامِرٌ مقدام لكنه ليس مُقامِرًا ويحسب جيدًا خطواته في الحقل وفي البيدر. صواريخ ستينغر تتدفّق على أوكرانيا صائدات الدبابات كذلك. أميركا تُعزز من حضورها العسكري برًّا وجوًا وبحرًا في أوروبا. اللعبة باتت خطيرة تحرق الأصابع.
الرجلُ مُتوَتِّرٌ. سيكثر من عروضه البهلوانية أمام الكاميرات علّ العالم يُهروِلُ أكثر وأكثر للمثول أمام بابه لعلّ ذلك ينزله عن شجرة بَالَغَ في تسلّق قممها.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)